البحث

التفاصيل

هذا هو الإسلام

الرابط المختصر :

 

((( ... إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ... )))

 

     في كل عام يطلع هلال شهر المحرم على الدنيا ، وتتجدد به ذكرى رحلة غيرت وجه التاريخ فكانت نقطة تحوّلٍ فاصلة في حياة المسلمين ، حدث يمتد على مر الزمان ليحيي سنوياً في هذه الأمة ذكرى الهجرة النبوية ، وذكرى إقامة دولة الإسلام ، أول دولة نشرت العدل والأمن والسلام ، وبثت أكمل القيم وأتمَّ الأخلاق بين الأنام .

    بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار الأرقم فاتَّخذها قلعة للدعوة ومقراً للصفوة وطلائع النهضة ؛ فكانوا أجيال النصر المبشرة بمستقبل مشرق للإنسانية ؛ يفيض بالكرامة والحرية ليشمل أبناءها جميعاً ، لكن رؤوس الكفر رفضوا دعوة الحق عناداً واستكباراً ؛ ولاحقوا دُعاتِها جَهاراً نهاراً ؛ وحاربوا رسولها فاضطروه لترك مكة مهاجراً رغماً عنه ، فصدقت توقُّعات ورقة بن نوفل الذي قال له بعد سماع قصة الوحي { ... يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجيَّ هم ؟ قال نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ... } رواه البخاري .

     تعددت محاولات قريش مع الرسول صلى الله عليه وسلم لتثنيه عن دعوته ، فجاءوا عمه أبا طالب مرة مهددين ليكف عنها { ... فحلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء فقال : أترون هذه الشمس ؟ قالوا نعم ، قال ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك من أن تشعلوا منها شعلة ... } رواه البخاري في التاريخ ، وحاولت فتنته عن رسالته ليكسب تأييدها ، قال تعالى { وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } الإسراء 73 ، وحاولت استدراجه للشرك بالمقايضة الخدّاعة : فعرضوا عليه بأن يعبدوا ربه عاماً ويعبد آلهتهم عاماً حتى يتبيّن الدين الحقّ فيتبعوه جميعاً ؛ قال تعالى { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } الكافرون 1-3 ، ومن باب التمييز الطبقي الذي يتصفون به طلبوا منه التخلي عن أتباعه الفقراء فإنهم يأنفون من مجالستهم والتساوي بهم ؛ قال تعالى { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } الأنعام 52 .

     فشلت هذه المحاولات وغيرها كثير ، وضاقت قريش بمحمد ذرعاً كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق لأنها لا تملك لها دفعاً ولا تطيق عليها صبراً ، فأمعنت في التضييق عليه وعلى أصحابه واشتد أذاها لهم ، فأوحى الله تعالى له بالهجرة ؛ قال صلى الله عليه وسلم { أُرِيتُ دار هجرتكم ذاتِ نخلٍ بين لابَتَيْن أيْ بين حَرَّتَيْن } رواه البخاري ، والحرة هي الأرض ذات الحجارة السوداء ، ثم بايعه أهل يثرب على الإيمان به وحمايته ومناصرته إن هاجر إليهم ، فأذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى يثرب التي جعلها الله لهم داراً وقراراً وجعل أهلها إخواناً وأنصاراً ؛ أما هو فبقي في مكة ينتظر الإذن بالهجرة ، فأذن له ربه في شهر ربيع الأول من السنة الثالثة عشرة للبعثة ، فخاطب مكة حزيناً لفراقها { والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ؛ ولولا أني أُخْرِجْتُ منكِ ما خرجت } رواه الترمذي . 

     أدركت قريش خطورة المرحلة القادمة ؛ فبدأت تخطط للخلاص من الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاجتمع كبراؤها في دار الندوة يتشاورون ، صوَّر القرآن الكريم مداولاتهم ومؤامرتهم في دار الندوة واقتراحاتهم : فرفضوا فكرة حبسه حتى يموت مخافة إنقاذ أتباعه له مستقبلاً ، ورفضوا فكرة نفيه من مكة شريداً طريداً خشية عودته إليهم مع أصحابه وأنصاره فيهاجمهم في عقر دارهم ويجتثّهم عن آخرهم ، لكن استقر رأيهم على تصفيته جسدياً فقرروا اغتياله ؛ وأسندوا هذه المهمة إلى فتية من القبائل جميعاً ليتفرق دمه بينها فيعجز قومه عن قتال العرب ثأراً له فيرضون بالدية وينتهي الأمر ، وهذا هو أسلوب الباطل العاجز عن الحجة ؛ لا يملك في مواجهة الحق غير التهديد والتلويح باستخدام القوة .

     وبدأت قريش بالتنفيذ الفوري لخطتها ، قال تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } الأنفال30 ، روى ابن جرير سبب نزولها {قال عمه ونصيره أبو طالب : أتدري ما يأتمر به قومك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " يريدون أن يسجنوني ويقتلوني ويخرجوني " فقال له من أخبرك بهذا ؟ قال عليه الصلاة والسلام " ربي " قال عمه نعم الرب ربك استوصِ به خيراً ، فقال صلى الله عليه وسلم : "أنا أستوصي به ! بل هو يستوصي بي } ، إنها صورة ساخرة من المتآمرين لا تختلف أبداً عن السخرية من فرعون الذي ذبح ذكور بني إسرائيل طلباً لسيدنا موسى عليه السلام ، لكن أبى الله تعالى إلا أن يتربى في حضنه وينشأ في قصره ، إنها قدرة الله التي تبطل كيد البشر مهما عظم ؛ فهو ضعيف أمام تدبير الله ومشيئته .

     بدأت رحلة الهجرة شاقة صعبة ؛ فخرج صلى الله عليه وسلم وحيداً إلاَّ من صديقه أبي بكر صاحبه الصِدِّيقِ الذي أحبه أكثر من نفسه ؛ لا جيش ولا عُدّة ولا قوة ؛ ورجال قريش يتعقبونه خطوة بخطوة ، فمكثوا على بابه انتظاراً لخروجه ؛ لكنه المؤيّد بقوة ربه والمصطفى المختار لرسالته ؛ خرج من بينهم وهم لا يشعرون متجهاً إلى غار ثور مع صاحبه الصّدّيق بهدف التمويه على المشركين ؛ فهذا الغار ليس على طريق يثرب ، لكن قريشاً فوجئت أنها تحرس علياً رضي الله عنه الذي كان نائماً في فراشه بهدف أداء الأمانات والودائع نيابة عنه إلى أصحابها من أهل مكة ، وإنه لأمر مستغرب : كيف تأتمن قريش محمداً على أموالها ولا تأتمنه على دينها !

     خرجت قريش تتعقّب أثره فوصلت الغار ، جزع أبو بكر ليس على نفسه بل خاف أن يطّلعوا عليهما فيصلوا إلى صاحبه الحبيب ، وأنَّى لهم أن يصلوا إليه وهو بمعية الله عز وجل وبعين وحفظه ، قال أبو بكر رضي الله عنه { يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لأبصرنا ؛ لكن رسول الله الذي ملأت السكينة الربانية نفسه يهدِّىء من رَوْعه ويُطَمْئن قلبه قائلاً { ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما } رواه البخاري ، قال تعالى { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } التوبة 40  . 

     رأى رجال قريش نسيج العنكبوت وعش الحمام على باب الغار فأيقنوا أن أحداً لا يمكن أن يكون في الداخل فانصرفوا منهزمين ، فكان النصر المؤزر لهذه الدعوة بنجاة رسولها والفرح العظيم لأهل يثرب بوصول خير داع إلى أرضها ؛ فكان جديراً بهذه المناسبة أن تُتَّخَذَ مبدءاً للتقويم والتأريخ الإسلامي .

     كانت الهجرة معجزة ربانية ؛ فلم يصدق المشركون خروجه صلى الله عليه من بينهم رغم تواصل حصارهم له ومُرابطتهم أمام مكان إقامته ، نصر مؤزر من الله تعالى لعبده الأعزل من كل قوة مادية ؛ إلاَّ من التأييد الإلهي والسكينة التي ملأت قلبه طمأنينة ورضا . لم تكن الهجرة رحلة رفاهية ، أو هروباً من الوطن ومن رسالة الدين ودعوته ، إنما هي إكراه المؤمن الذي كان يعيش ممتد الجذور في وطنه على إهدار مصالحه والتضحية بأمواله ودياره للنجاة بنفسه ودينه ، بعد أن اشتد الكرب به وبنبيه صلى الله عليه وسلم ، وبعد أن سامهم عدوهم سوء العذاب والتعذيب ، فانطلق المؤمن حاملاً أهله وولده رضيَّ الضمير إلى حيث يريد الله ورسوله .

     إن الهجرة النبوية مناسبة عزيزة وذكرى عظيمة تملأ قلوب أبناء الأمة بالبشرى والأمل ، وتخلع من أفئدة أبنائها اليأس والإحباط ، وتوجههم إلى التوكل على الله حق التوكل لتنفض عنهم غبار العجز والكسل والتواكل ، فتحيي بهم من جديد تاريخها المجيد ، ومجدها التليد ، حقاً إنها للأجيال عيد ، بل عيد الأعياد .    

     ولكن لا ينبغي أن يكون الاحتفال بهذه المناسبة قصصاً تاريخياً نملأ به فراغ مناسبة محددة أو أيام معدودات ؛ ثم يُترك وينسى دون أن يؤثر في النفوس ، ولا ينبغي لها أن تكون عادة سنوية تُردّد على ألسنة الخطباء والمحاضرين ، بل يجب أن تكون فقهاً لمعنى الهجرة واستخلاصاً للعبر من سيرة خير الخلق كلهم ؛ واقتداء بصبره وثباته في سبيل دعوته غير مبال بالأذى أو الإعراض .

     فيجب علينا أن نستخلص من هذه المناسبة أعظم الدروس ، فلا يسيطر علينا القنوط من رحمة الله أو فقد الثقة بقوة الأمة وطاقاتها وقدراتها فنحن أمة لا تموت أبداً ، ومهما تكالبت علينا المصائب والمصاعب ، ومهما حاصرتنا المؤامرات والمخططات ، ومهما نال منا الخصوم والأعداء ، وتخلى عنا الأخوة والأصدقاء ، وخذلنا ضعف الأبناء ؛ فحتماً ستتطهر قلوبنا وتتحد صفوفنا وسننهض للرسالة التي تنتظرنا ، وحتماً ستتحرر أرضنا ومقدساتنا ، وستعود القدس إلى أصحابها الشرعيين من أمة الإسلام مهما طال احتلالها وسترفرف رايات النصر في سمائها ، فقد سبق أن استرجعها الحكام والقادة الأخيار من أيدي الفرنجة الغاصبين بدءاً من الناصر صلاح الدين الأيوبي عام 1187م وانتهاء بالصالح نجم الدين أيوب عام 1244م بعد احتلال استمر أكثر من قرن ونصف ، وإن غداً لناظره قريب ، قال تعالى { فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } المعارج 5-7 .

 


: الأوسمة



التالي
حقائق غائبة حول استشهاد الحسين وأحداث كربلاء (4)
السابق
في ذكرى الهجرة النبوية: فوائد ودروس وعِبر

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع