( 4 ) مقاومة الردَّة والمرتدين:
ومن جهاد الفساد والمنكر في داخل المجتمع الإسلامي: جهاد الردَّة عن الإسلام، أي: الكفر بعد الإيمان.
وإذا كان الإسلام يأمر بتغيير المنكر، ومقاومة الظلم والمعصية، إذا وقعت؛ باليد أو اللسان أو بالقلب، فإن الكفر أشدُّ خطرا، وأعظم شرًّا على المجتمع من المعاصي كلها، حتى الكبائر منها، فهو أكبر الكبائر، وهو أنكر أنواع المنكر، والردَّة - خاصة - شرُّ مراتب الكفر.
وأول ما يحرص عليه أعداء الأمة : أن يغيروا هويتها ، ويقتلعوها من جذورها ، ومن الواجب على المجتمع المسلم: أن يحافظ على مقوِّماته العقدية، وخصائصه الإيمانية. فهو يتميز - أول ما يتميَّز - بإيمانه بالله الواحد الأحد، وباليقين بالخلود والجزاء في الدار الآخرة، التي تُجزَى فيها كلُّ نفس بما كسبت، وبالإيمان بكتب الله ورسله جميعا، وبأنه ختم رسله وأنبياءه بمحمد عليه الصلاة والسلام، الذي أنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
وقد دعا الإسلام الناس إلى الإيمان برسالته طوعا لا كرها، واختيارا حرا، لا إجبار فيه، فإن إيمان المكره لا يُقبل في نظر الإسلام: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256[
ولكنه لم يُرِد أن يكون الدين (ألعوبة) يلهو بها اللاَّهون، يؤمن المرء اليوم ليكفر غدا، أو يؤمن في الصباح ليكفر في المساء، كما حكى القرآن عن طائفة من اليهود: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72[
فمَن آمن بالإسلام عن اقتناع وبصيرة، ثم لاحت له شبهات، يجب عليه أن يعرضها على أهل العلم من المسلمين الثقات ليناقشوه فيها، ويزيلوا شبهته، وهي زائلة - إن شاء الله - لمَن يريد أن يهتدي إلى الحق، فقد جاء هذا الدين بعقائد توافق الفطرة، ومفاهيم تخاطب العقل، وشرائع تحقِّق العدل، وقِيَم وأخلاق تزكي النفس، وترتقي بالحياة.
فإذا افترضنا أن هذا الشخص لم يقتنع، أو أظهر لنا أنه لم يقتنع، وفقد يقينه بحقيقة الإسلام، وصدق نبيه، وظلَّ ذلك في نفسه، ولم يدعُ إلى ذلك الآخرين، لينضمُّوا إلى ركبه، فأمره إلى الله، وجزاؤه في الآخرة، وفي مثله جاء قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:86-89[
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217[
وهكذا كل من ارتدَّ في نفسه، ولم يدعُ غيره، فجزاؤه في الآخرة.
• جريمة (الردَّة) شبيهة بجريمة (الخيانة) بالمعيار الوطني:
لكن خطر هذا المرء إنما يخاف شرُّه إذا غدا داعية للكفر والردَّة داخل المجتمع المسلم، فهذا انقلاب على المجتمع، وتغيير للولاء والانتماء من أمة إلى أمة، وهو أشبه بالخيانة العظمى بالمعيار الوطني؛ فكما لا يجوز للمواطن تغيير ولائه لوطنه ولأمته، وتحويله لوطن آخر، وأمة أخرى، ولا سيما إذا كانت الأمة الأخرى تستعمر وطنه وتتحكم فيه، كذلك لا يجوز - بالمعيار الديني - أن يغيِّر المسلم ولاءه من أمة الإسلام إلى أمة أخرى، ومن وطن الإسلام - أو دار الإسلام - إلى وطن آخر أو دار أخرى. وهذا هو شأن المرتد؛ فالردَّة ليست مجرَّد تغيير موقف عقلي. بل هي تغيير للهُويَّة والولاء، وانسلاخ من أمة للانضمام إلى أمة أخرى تخالفها أو تعاديها.
ويتعاظم خطر الردَّة إذا أصبحت ظاهرة يتبجَّح بها أصحابها، ويدعون جهارا إلى كفرياتهم، التي تهدِّد المجتمع المسلم في أساسه وأصوله وقواعده، إذا سكت عنها، وتركها تستشري وتتفاقم، وتسري كالنار في الهشيم. وهنا يجب على المجتمع المسلم أن يدافع عن كِيانه المعنوي، كما يدافع عن كِيانه المادي إذا غزاه غاز من خارج أرضه.
وهنا يستنفر القرآن المؤمنين المخلصين المجاهدين، ليقاوموا رِدَّة المرتدين، ومروق المارقين، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54[
وهذه الآية الكريمة من سورة المائدة تدلنا على أن القرآن الكريم لا يسكت عن الردة ولا يؤجل عقوبتها إلى الآخرة كما قيل .
• خطر الردَّة الجماعية:
وأخطر أنواع الردَّة هي (الردَّة الجماعية)، التي يقلِّد فيها بعض الناس بعضا، وتُشكِّل ثورةً مضادَّة على الإسلام ودعوته وأمته ودولته. وهو ما ابتلي به الإسلام في فجر تاريخه، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه، الذي صمَّم على أن يقاوم الردَّة والمرتدِّين، ووقف معه الصحابة في تصميمه، بعد أن تردَّد بعضهم في أول الأمر، ومنهم عمر، ولكن ثبات أبي بكر كالطود الأشمِّ، ووضوح موقفه كشمس الضحى، جعل جميع الصحابة يقفون في صفِّه مؤيِّدين، وصدروهم منشرحة أنهم على الحقِّ، ووجَّه رضي الله عنه أحد عشر جيشا لقتال أهل الردَّة ، من أتباع الأنبياء الكذبة ، أمثال مسيلمة وسجاح والعنسي ، وغيرهم من كهنة القبائل ، الذين اتبعتهم قبائلهم تعصبا لهم ، وهم موقنون بكذبهم ، قائلين : كذاب ربيع أحب إلينا من صادق مضر .
• مقاومة الردَّة فريضة على المجتمع المسلم:
ومن الخطر كل الخطر: أن يُبتلى المجتمع المسلم بالمرتدِّين المارقين، وتشيع بين جنباته الردَّة، ولا يجد مَن يواجهها ويقاومها. كما قيل: (رِدَّةٌ ولا أبابكر لها!) .[1[
ولا بد من مقاومة الردَّة الفردية وحصارها، حتى لا تتفاقم ويتطاير شررها، وتغدو رِدَّة جماعية، فمعظم النار من مستصغَر الشرر.
ومن ثَمَّ أجمع فقهاء الإسلام على عقوبة المرتد - وإن اختلفوا في تحديدها - وجمهورهم على أنها القتل، وهو رأي المذاهب الأربعة، بل الثمانية [2[
وفيها وردت جملة أحاديث صحيحة عن عدد من الصحابة: عن ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وابن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، ومعاوية بن حَيدَة رضي الله عنهم.
وقد جاءت بصِيَغ مختلفة، مثل حديث ابن عباس: "من بدَّل دينه فاقتلوه" [3]. رواه الجماعة إلا مسلما، ومثله عن أبي هريرة عند الطبراني بإسناد حسن [4]، وعن معاوية بن حَيدَة بإسناد رجاله ثقات [5[
وحديث ابن مسعود: "لا يحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيِّب الزاني، والتارك لدينه، المفارق للجماعة". رواه الجماعة [6[
وفي بعض صِيَغه عن عثمان: ".... رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس". رواه الترمذي وحسَّنه، والنَّسائي، وابن ماجه [7]. وقد صحَّ هذا المعنى من رواية ابن عباس أيضا، وأبي هريرة، وأنس.
قال العلامة ابن رجب: (والقتل بكل واحدة من هذه الخصال متفق عليه بين المسلمين) [8[
أقول : ثبت الخلاف في القتل بالردة .
فقد ثبتت الروايات عن سيدنا عمر [9]، وعن الفقيه التابعي الجليل إبراهيم النخعي، وعن الإمام سفيان الثوري [10]: أنهم لم يروا القتل لازما في عقوبة الردَّة، واكتفوا بحبس المرتد، ودعوته إلى التوبة والرجوع إلى الجماعة.
ولقد جرَّبت أمتنا جريمة (الردَّة الجماعية) في فجر الإسلام، بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتداد قبائل العرب، التي قلَّد بعضها بعضا، وامتنع بعضهم من أداء الزكاة المفروضة، وتبع آخرون منهم (أنبياء كذبة)، أمثال: مسيلِمة كذاب بني حنيفة، وسَجَاح حليفته ثم زوجته، والأسود العَنْسي، وغيرهم، دفعتهم إلى ذلك العصبية العمياء، حتى قال قائلهم: كذَّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضَر!
ولولا ثبات الخليفة الأول أبي بكر وصلابته في دين الله، وإقناعه الصحابة أن يجابهوا الموقف بقوة، لكانت هذه الردَّة كافية لاقتلاع الوجود الإسلامي من أساسه. ولكن أبى الله إلا أن يتمَّ نوره، ونصر الله أبا بكر والمسلمين عليهم رغم كثرتهم، وظهورهم في وقت واحد.
وفي عصرنا وجدنا آثار هذه (الردَّة) في المجتمع الأفغاني المسلم، الذي ارتدَّت طائفة قليلة منه - حين اعتقدت العقيدة الشيوعية واستبدلتها بعقيدتها الإسلامية –وكانت هذه الفئة من العسكريين الذين درسوا في روسيا، فلما عادوا أحدثوا انقلابا عسكريا استولَوا به على الحكم، وأرادوا أن يفرضوا الشيوعية عقيدة ونظاما على البلد المسلم والشعب المسلم.
فرفض الشعب الأفغاني ذلك وقاومهم، فاستعانوا بالسوفييت على أهليهم وقومهم، فضربوهم بالطائرات والدبابات والأسلحة المتطوِّرة، وقُتل من هذا الشعب نحو المليونين، ونحوهم من المعوَّقين والمصابين.
ولا يزال الشعب الأفغاني يعاني حتى اليوم من جرَّاء هذه الردَّة، وما خلَّفته من آثار، رغم انتصاره على السوفييت، ولكنه استبدل اليوم استعمارا باستعمار.
وكثيرا ما تُغَذَّى هذه الردَّة من قبل أعداء الدين، وأعداء الأمة، فهم يكيدون كيدهم لينفخوا في الشرارة حتى تصبح نارا تأكل الأخضر واليابس، بل هم مستعدُّون أن يحملوا السلاح ليقاتلوا ويتحمَّلوا تكاليف الحرب، ليرتدَّ المسلمون عن دينهم، كما أعلن عن ذلك القرآن بعبارة صريحة، حين قال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217[
فكلمة {وَلا يَزَالُونَ} تعني: أنهم مستمرُّون في محاولاتهم، جادُّون في أمرهم وإن كلَّفهم ما كلَّفهم. وإن كانت الآية الكريمة أدخلت إلى قلوبنا نوعا من الطمأنينة حين قالت: {إِنِ اسْتَطَاعُوا}، ولفظة {إِنِ} في العربية تفيد التشكيك، وهم لن يستطيعوا إن شاء الله.
وقد قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33،32[
فهم يريدون، والله يأبى، ولن تغلب إرادتهم إباء الله! ثم إن القرآن صوَّرهم بصورة مَن يريد إطفاء {نُورَ اللَّهِ}، مثل مَن يريد إطفاء نور الشمس بنفخة من فمه، وهو عبث من فاعله يستحقُّ السخرية، وطمعٌ في المستحيل.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36[
وكم رأينا المليارات ترصَد للإنفاق على تنصير المسلمين، (تحويلهم من الإسلام إلى النصرانية)، كما رأينا ذلك في مؤتمر (كلورادو)، الذي عقد في أمريكا سنة 1978م بهدف معلن، وهو تنصير المسلمين في العالم، ورُصد له ألف مليون دولار، وأُنشئ له معهد أطلقوا عليه (معهد زويمر)، ليُخرِّج مبشرين متخصصين في تنصير المسلمين، مزودين بكل ما يمكِّنهم من أداء مهمتهم [11[
وهذا ما دعاني أن أقوم بجولة في عدد من البلاد العربية ، محذرا من الخطر التنصيري القادم ، ومناديا بإقامة مؤسسة لحماية المسلمين من هذا الغزو المخطط ، ولا نقول : لأسلمة العالم كما قالوا هم . وقد انتهت بإنشاء الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية بالكويت ، والحمد لله .
وقد كانت الإرساليات التنصيرية في الربع الأخير من القرن العشرين قد وضعت مخطَّطها لتنصير أكبر بلد مسلم في العالم - وهو إندونيسيا - في مدى خمسين عاما، وطفِقوا يمارسون نشاطهم المكثَّف، ومعهم كل ما يسهِّل لهم الوصول إلى غرضهم، حتى إنهم أنشؤوا أكثر من خمسين مطارا في إندونيسيا تيسِّر عليهم تنقُّلهم بين جُزُرها التي تبلغ الآلاف المؤلفة.
ولكن هذه الغارة لم يُكتب لها النجاح الذي كانت تخطط له، وإن نجحت نجاحا جزئيا في بعض المناطق.
واستطاعت جهود المسلمين المحدودة، التي قادها رجال مخلصون - مثل د.محمد ناصر، والمجلس الأعلى للدعوة الإسلامية الذي أسسه - أن تردَّ كيد هؤلاء في نحورهم.
وهذا لا يعني: أن ينام المسلمون ودعاتهم على آذانهم، ويقولون: الإسلام بخير، ولا يبذلون الجهود المطلوبة والواجبة لحماية الأمة من خطر الردَّة، الذي يواجههم؛ بل الواجب تكثيف الجهود وتجميعها وتنسيقها حتى تواجه أخطار الردَّة عن الإسلام، وخطط دعاتها ومروِّجيها الذين يحملونها إلى المسلمين، بكل أنواعها سواء كانت الردَّة إلى النصرانية، أم الردَّة إلى الشيوعية، أم الردَّة إلى الإباحية.
فالواقع أن التنصير يعمل بكل قوة في بلاد المسلمين، وخصوصا تلك التي تعاني من مشكلات الفقر والمرض والجهل، والحروب، والكوارث.
وهم في المنطقة العربية لا يطمعون كثيرا في تغيير دين المسلم، بحيث يتحوَّل صراحة إلى النصرانية، ويكفيهم أن يزعزعوا ثقته بالإسلام، وأن يَدَعوه في حالة لا هو مؤمن ولا كافر، المهم أن يتزلزل إسلامه.
أما في المناطق الأخرى، فهم يجتهدون أن يُدخلوا المسلم في النصرانية ما أمكنهم، وأن يغيِّروا - ما استطاعوا - النسبة العددية للمسلمين. هكذا رأيناهم في إندونسيا وغيرها من أقطار آسيا، كما شاهدناهم في نيجيريا وغيرها من بلدان إفريقيا.
ومن اللاَّفت للنظر: أنهم برغم نجاحهم إلى حدٍّ كبير، يعلنون باستمرار عن إخفاقهم وفشلهم في تنصير المسلمين، وأحسب أن هذا الإعلان مقصود، ولهم من ورائه أهداف يريدون تحقيقها:
أولها: أن يأتي إليهم من المسيحيين في أنحاء أوربا وأمريكا مزيد تدفُّق من الدعم المالي، والتبرُّعات التي تصل أحيانا إلى المليارات.
الثاني: تخدير المسلمين، أنهم من القوة بحيث لم يفلحوا في تحويلهم من دينهم، فيطمئنون إلى أنهم بخير، ولا يعدُّون العُدَّة لمقاومة الغزو الخطير، الذي تقوم خلفه مؤسسات وجماعات ودول.
الثالث: الإيحاء إلى العاملين في ميدان التنصير: أن يضاعفوا الجهد، حتى تأتي البذور التي بذروها في بلاد الإسلام بالثمر المرجو.
• رِدَّة السلطان:
وأخطر أنواع الردَّة: رِدَّة السلطان، أو رِدَّة الحاكم، الذي يُفترَض فيه أن يحرس عقيدة الأمة، ويقاوم الردَّة، ويطارد المرتدين، ولا يُبقي لهم من باقية في رحاب المجتمع المسلم، فإذا هو نفسه يقود الردَّة سرا وجهرا، وينشر الفسوق سافرا ومقنَّعا، ويحمي المرتدين، ويفتح لهم النوافذ والأبواب، ويمنحهم الأوسمة والألقاب، ويصبح الأمر كما قال المَثَل: (حاميها حراميها) ... أو كما قال الشاعر العربي:
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟!!
نرى هذا الصنف من الحكام، مواليا لأعداء الله، معاديا لأولياء الله، مستهينا بالعقيدة، مستخفًّا بالشريعة، ومصادرها المعصومة من القرآن العزيز والحديث الشريف، غير موقِّر للأوامر والنواهي الإلهية والنبوية، مهينا لكل مقدسات الأمة ورموزها، من الصحابة الأبرار، والآل الأطهار، والخلفاء الأخيار، والأئمة الأعلام، وأبطال الإسلام! وهؤلاء يعتبرون التمسُّك بفرائض الإسلام جريمة وتطرُّفا، مثل الصلاة في المساجد للرجال، والحجاب (أي لبس الخمار) للنساء. حتى إن المرأة المحجبة لتمنع من التعلم في المدارس والجامعات، ومن التوظيف في وظائف الحكومة والقطاع العام، ومن العلاج في المستشفيات العامة، حتى الولادة، تمنع منها ما لم تخلع حجابها!
ولا يكتفون بذلك، بل يعملون وفق فلسفة (تجفيف المنابع) التي جاهروا بها، في التعليم والإعلام والثقافة، حتى لا تنشأ عقلية مسلمة، ولا نفسية مسلمة، ولا شخصية مسلمة [12[
ولا يقفون عند هذا الحدِّ، بل يطاردون العلماء والمعلمين، والدعاة الحقيقيين للإسلام، ويغلقون الأبواب في وجه كل دعوة أو حركة صادقة، تريد أن تجدِّد الدين، وتنهض بالدنيا على أساسه.
والغريب أن بعض هذه الفئات - مع هذه الردَّة الظاهرة - تحرص على أن يبقى لها عنوان الإسلام، لتستغلَّه في هدم الإسلام، ومطاردة دعاته، ولتعاملهم الأمة على أنهم مسلمون، وهم يسخرون من الإسلام، ويقوِّضون بنيانه من الداخل، وبعضها تجتهد أن تتمسَّح بالدين، بتشجيع التديُّن الزائف، وتقريب ممثليه من الدجاجلة والمرتزقة، من المنافقين الذين يحرقون لها البخور، ممَّن يتزيون بزي مشايخ الدين، والدين منهم براء! ممَّن سمَّاهم الناس (علماء السلطة، وعملاء الشرطة(
وهنا يتعقد الموقف، فمَن الذي يقيم الحد - حد الردَّة - على هؤلاء؟ بل مَن الذي يفتي بكفرهم أولاً، وهو كفر بَوَاح كما سمَّاه الحديث الصحيح [13]؟، ومَن الذين يحكم بردَّتهم، وأجهزة الإفتاء الرسمي والقضاء الرسمي في أيديهم؟ ليس هناك إلا (الرأي العام) المسلم، والضمير الإسلامي العام، الذي يقوده الأحرار من العلماء والدعاة وأهل الفكر، والذي لا يلبث - إذا سُدَّت أمامه الأبواب وقُطِّعت دونه الأسباب - أن يتحوَّل إلى بركان ينفجر في وجوه الطغاة المرتدين. فليس من السهل أن يفرِّط المجتمع المسلم في هُويَّته، أو يتنازل عن عقيدته ورسالته، التي هي مبرِّر وجوده، وسرُّ بقائه.
وقد جرَّب ذلك الاستعمار الغربي الفرنسي في الجزائر، والاستعمار الشرقي الروسي في الجمهوريات الإسلامية في آسيا، ورغم قساوة التجرِبة وطولها هنا وهناك، لم تستطع اجتثاث جذور الهُويَّة الإسلامية، والشخصية الإسلامية، وذهب الاستعمار والطغيان، وبقي الإسلام وبقي الشعب المسلم.
غير أن الحرب التي شُنَّت على الإسلام ودعاته من بعض الحكام (الوطنيين)! العلمانيين والمتغرِّبين في بعض الأقطار العربية والإسلامية - بعد استقلالها - كانت أحدّ عداوة، وأشدّ ضراوة، وأعتى قساوة، من حرب المستعمرين [14[
• الردَّة المغلَّفة (الفكرية) أخطر من الردة المكشوفة:
ولا يفوتنا هنا أن ننبِّه على نوع من الردَّة لا يتبجَّح تبجُّح المرتدين المعالنين، فهو أذكى من أن يعلن الكفر بَوَاحا صُرَاحا، بل يغلِّفه بأغلفة شتَّى، ويتسلَّل به إلى العقول تسلُّل الأسقام إلى الأجسام، لا تراه حين يغزو الجسم، ولكن بعد أن يبدو مرضه، ويظهر عَرَضه، فهو لا يقتل بالرصاص يدوِّي، بل بالسم البطيء، يضعه في الدسم والعسل والحلوى. وهذا يدركه الراسخون في العلم، والبُصَرَاء في الدين، ولكنهم لا يملكون أن يصنعوا شيئا أمام مجرمين محترفين، لا يمكِّنون من أنفسهم، ولا يَدَعون للقانون فرصة ليُمسك بخناقهم. فهؤلاء هم (المنافقون)، الذين هم في الدَّرْك الأسفل من النار، الذين يلقَون الناس بوجهين، ويتكلمون بلسانين: لسان مع أهل الدين، ولسان مع اللادينيين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14[
إنها (الردَّة الفكرية) التي تطالعنا كل يوم آثارها؛ في صحف تُنشر، وكتب تُوزَّع، ومجلات تُباع، وأحاديث تُذاع، وبرامج تُشاهد، ومسلسلات تُعرض، وتقاليد تُروَّج، وقوانين تُحكَّم.
وهذه الردَّة المغلَّفة - في رأيي - أخطر من الردَّة المكشوفة؛ لأنها تعمل باستمرار، وعلى نطاق واسع، ولا تقاوَم كما تقاوَم الردَّة الصريحة، التي تُحدث الضجيج، وتلفت الأنظار، وتُثير الجماهير. وهذا ضرب من الكيد الخبيث، والمكر الكُبَّار لأعداء الأمة.
إن النفاق أشدُّ خطرا من الكفر الصريح. ونفاق عبد الله بن أُبَيٍّ ومَن تبعه من منافقي المدينة: أخطر على الإسلام من كفر أبي جهل ومَن تبعه من مشركي مكة.
ولهذا ذمَّ القرآن في أوائل سورة البقرة: {الَّذِينَ كَفَرُوا}، أي المصرحين بالكفر في آيتين اثنتين فقط: [الآيتان:6، 7]، وذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية: [الآيات:8-21[
إنها الردَّة التي تُصابحنا وتُماسينا، وتُراوحنا وتُغادينا، ولا تجد مَن يقاومها. إنها - كما قال شيخ الإسلام الندوي - رِدَّةٌ ولا أبا بكر لها!
• الجهاد الفكري والثقافي المطلوب من أمتنا:
إن الفريضة المؤكدة هنا، هي: مقاومة هذه الردَّة الفكرية، ومحاربة دعاتها بمثل أسلحتهم: الفكر بالفكر، والعلم بالعلم. حتى تُكشف أستارهم، وتُسقط أقنعتهم، وتُزال شبهاتهم بحجج أهل الحقِّ.
صحيح أنهم ممكَّنون من أوسع المنابر الإعلامية: المقروءة والمسموعة والمرئية، وتحت أيديهم كل الأجهزة والمؤسسات الثقافية والفكرية والتعليمية. ولكن قوة الحقِّ الذي معنا، ورصيد الإيمان في قلوب شعوبنا، وتأييد الله تعالى لنا: كلها كفيلة أن تهدم باطلهم على رؤوسهم: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18[
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17]، وصدق الله العظيم.
ولكن الجهاد المطلوب هنا ليس مجرَّد شعار يُرفع، ولا كلام يُقال، أو خطب تهزُّ أعواد المنابر؛ بل لا بد من إنشاء مراكز علمية إسلامية متخصصة، تضمُّ رجالا قادرين من أهل الفكر والعلم، للردِّ العلمي الموضوعي المنظَّم على هذه الفلسفات والدعاوى، بمنطق العصر وأسلوبه.
وقبل الرد على أباطيل خصوم الإسلام ، وتفنيد شبهاتهم ، لا بد من البدء بشرح حقائق الإسلام وبيانها للناس بلسان أقوامهم ، ولسان عصرهم .
ولا بد من تهيئة أجيال جديدة من شباب الأمة النابهين، ليسدُّوا هذه الثغرة، ويقوموا بأداء هذه الفريضة الكفائية نيابة عن الأمة.
ولا بد من تأسيس معاهد عالية ذات مستوى رفيع، وتضمُّ نوابغ الشباب المتفوِّقين في عقولهم، المتميِّزين في إيمانهم وسلوكهم، لإعدادهم فكريا وعمليا، إعدادا يجمع ما في تراثنا من أصالة، وما في ثقافة العصر من حداثة.
ولابد من فئة تدرس الديانات السماوية والوضعية ، وتواريخها ، وجذورها ، وتطوراتها العقيدية والعملية ، وتقارن بين اتجاهاتها وفلسفاتها ، وموقفها من الإسلام ، وموقف الإسلام منها ، ونقاط الاتفاق والافتراق بينها وبين الإسلام .
ولا بد من تخصيص فئة تدرُس العلمانية الليبرالية، وأسسها الفلسفية ونشأتها التاريخية، وآثارها العملية، وتردُّ عليها، وتبيِّن أنها تضرُّنا ولا تنفعنا، فقد كانت ملائمة للغربيين عند ظهورها ، وليست ملائمة لنا بحال.
ولا بد من تخصيص فئة أخرى تدرُس الفلسفة الماركسية، وأصولها الفكرية في فلسفات الألمان والإنجليز والفرنسيين، في ماديتها التاريخية، وماديتها الجدلية، وفلسفتها في الصراع الطَبَقي، وحكم دكتاتورية البروليتاريا، ومبادئها الاقتصادية، وتجارِبها التطبيقية، وغيرها. وكيف انهارت دولتها في بلادها الأم، روسيا والاتحاد السوفيتي؟
وتخصيص فئة أخرى تدرُس فلسفة المدرسة الوضعية (كونت) وتلاميذه، والمدرسة الاجتماعية (دوركايم) وأتباعه، وتبيِّن ما فيهما من قصور وتهافت وعجز عن استيعاب كل جوانب الإنسان وآفاقه، والنظر إلى الكون والحياة بعين واحدة. وهكذا سائر الفلسفات المعاصرة، والمدارس المختلفة في الأدب والتربية والعلوم الإنسانية والاجتماعية. حتى تكون لدينا مدارس علمية وفكرية أصيلة في بحثها، عميقة في تفكيرها، متميِّزة بوِجهتها: المدرسة الإسلامية في التربية، والمدرسة الإسلامية في علم النفس، والمدرسة الإسلامية في علم الاجتماع ... إلى آخره.
وهذا المصطلح أحبُّ عندي وآثر من مصطلح علم النفس الإسلامي، وعلم الاجتماع الإسلامي، فهذا أدلُّ على المقصود من المصطلح الآخر.
وهكذا نقف على أرض صُلبة في مواجهاتنا العلمية لهذه الأفكار الجديدة التي تنشر الردَّة المُغَلَّفة في مجتمعاتنا. ولا يفلُّ الحديد إلا الحديد.
لا ندعو هنا إلى عزلة عن العالم، بل إلى التفاعل الثقافي والحضاري، فنأخذ منهم ونَدَع، وفق فلسفتنا ومعاييرنا، نختار لأنفسنا ولا يفرض أحد علينا.
وقديما أخذوا عنا، واقتبسوا منا، وطوَّروا ما أخذوه واقتبسوه، وبنَوا عليه حضارتهم. فلا مانع أن نصنع مثل ما صنعوا، ولكن ما نأخذه نُضفي عليه من رُوحنا، ومن شخصيتنا ومن مواريثنا الثقافية والأخلاقية: ما يجعله جزءا من منظومتنا الفكرية والقِيَمية والحضارية، ويفقده جنسيته الأولى.
وقد ذكرت من قديم : أننا وإن كنا نرفض نظرية فرويد في التحليل النفسي وتفسير السلوك البشري ، ونظرية دوركايم في الفلسفة الاجتماعية ، ونظرية ماركس في فلسفة الاقتصاد والتغيير ، لا يعني ذلك أن كل ما قالوه خطأ في خطأ ، أو باطل في باطل ، فلا مانع أن يكون في بعض ما قالوه نظرات صائبة يمكن الاستفادة منها . والمؤمن يلتمس الحق من أي وعاء خرج ، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها .