الفصل السابع : غزوات الرسول كانت كلها مبادأة بالهجوم (2 من 2(
• ( 2 ) رد الشيخ الغزالي على مقولة بعض المعاصرين في الجهاد:
والردُّ الثاني: هو ردُّ العلاَّمة الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي على مقولات بعض الكتَّاب المعاصرين في تفسيره لأحداث السيرة، وللمعارك التي خاضها الرسول الكريم مع أعدائه، ولمعركة (مؤتة) على سبيل الخصوص، وتصوير الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه البادئ بالهجوم، لقوم لا يستحقون أن يحارَبوا، إلا لأنهم كفَّار!
كما ردَّ الشيخ الغزالي على دعاوى رجال (حزب التحرير) حول الجهاد، وهم يلقِّنونها لأتباعهم صارمة كحدِّ السيف، قاطعة كالبديهيات، لا يجوز التشكيك فيها، أو المناقشة لها.
وهذا عيب هذه الأحزاب أو الجماعات المغلقة، التي تصبُّ أفكارها في (قوالب جامدة)، وتربي عليها أتباعها، وتمنعهم من النظر في غيرها، فيتلقَّونها على أنها (حقائق مسلَّمة)، ويتبنَّونها فكرا وشعورا وتطبيقا، ويظلُون هكذا، حتى ينير الله سبحانه وتعالى بصائرهم بطريقة أو أخرى، ليتحرَّروا من الأَسر الفكري، ويمتحنوا ما عندهم، ويقارنوه بما عند غيرهم، وينظروا في الأمر نظرة علمية موضوعية، وهنا قد يغيرون رأيهم، ويرجعون عما كانوا عليه.
وهذا ما فعلته الجماعة الإسلامية المصرية، حيث راجع عدد من أقطابها فكرهم القديم حول الجهاد، وناقشوه مناقشة حرَّة، وعدَّلوا وحوَّروا، وأعلنوا - أمام قواعدهم وأمام الناس - تراجعهم عن جوهره، في شجاعة محمودة، قلَّ أن نجدها إلا عند المخلصين المنصفين.
ردَّ الشيخ الغزالي على الشيخ النبهاني وحزب التحرير في كتابه (جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج). وكان من مظاهر عجز الداخل هذه الأفكار الهائجة المائجة، التي يطلقها أناس من أبناء أمتنا - بل من المحسوبين على العمل الإسلامي، والحركة الإسلامية - يطلقون هذه الأفكار كالقذائف المدمِّرة، لا يبالون مَن أصابت من خلق الله.
• تفنيد كلام بعض الكتَّاب المعاصرين:
يقول الشيخ الغزالي رحمه الله يردَّ على هؤلاء الذين أسماهم في بعض ما كتب: (الأصدقاء الجهلة للإسلام) تحت عنوان: (أوهام سيئة(
)قرأتُ لنفر منهم كلاما طويلا في أن الإسلام دين هجومي يضع خططه للحرب لا للسلم، وشعرتُ بالغيظ لتحريف الكلم عن موضعه من ناحية، ولتناول الوقائع دون أدنى وعي بملابساتها من ناحية أخرى ...
خذ هذا المثال:
الأسباب التي دفعت إلى معركة (مؤتة) معروفة، ولعل كُتَّاب السيرة المحدَثين، أقدر على تصوير هذه الأسباب من الكتَّاب القدامى، فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم واحدا من رجاله بكتاب إلى أحد الأمراء الغساسنة يدعوه إلى الإسلام، وهؤلاء الأمراء كانوا موالين للروم، يدينون دينهم، وينفذون سياستهم، وقد شعروا مع سادتهم بالقلق للدين الجديد وللنجاح الذي يلقاه، فماذا يصنعون؟ عمد الأمير الذي جاءه كتاب النبي إلى الكتاب فطوَّح به، وإلى حامله فقتله!! واستعدَّ مع الرومان لمواجهة تبعات هذا الموقف الآثم!
ماذا تفعله أي دولة تهان دعوتها، ويُقتل رجلها على هذا النحو؟ لا بد أن تقاتِل! والقتال الذي فرضته الظروف صعب، فإن الرومان شدُّوا أُزُر الأمير القاتل بعشرات الألوف من جيشهم الكثيف.
وواجه الرجال الذين قاتلوا في (مؤتة) معركة قاسية، استشهد فيها القادة الثلاثة الذين التحموا مع الرومان وحلفائهم، واستطاع خالد بن الوليد أن ينسحب بالجيش، وأن يجنبه خسائر لا آخر لها ...
ولستُ أؤرخ لهذه المعركة الآن، ولكني أعلِّق على ما قرأتُه في كتاب ظهر حديثا لأحد العلماء يذكر قصة مؤتة ويقول: إن المؤرخين يحاولون ذكر أسباب للقتال الذي وقع، ولا ضرورة لذكر هذه الأسباب! لماذا نعلِّل لكل حرب خاضها المسلمون؟ يكفي أن نعرف طبيعة الإسلام في التوسُّع (!) لنعرف سر القتال!!
الكاتب غفر الله له، نسي الرسالة الموجَّهة إلى العميل الروماني، ونسي مصرع صاحبها، ونسي أن الرومان - وموطنهم الأصلي أوربا [1] - تدفَّقوا نحو مائة ألف إلى قلب الحجاز، ولم يجيئوا في نزهة صحراوية، وإنما جاؤوا في مظاهرة عسكرية لضرب الدين الجديد، ومنع الدعوة من التسلُّل شمالي الجزيرة العربية، كل ذلك لم يلفت نظر المؤلف الأديب. إنما لفته إبراز الطبيعة التوسُّعية للإسلام!
إن التوسُّع الإسلامي لا يعتمد على القتل، وحروب العدوان، إن العملة المتداولة في ميدان الدعوة الإسلامية هي الفكر الحرُّ!!
ومقاتلة الإسلام للرومان كانت أشرف قتال عرَفته الدنيا، لأن الإمبراطورية العجوز استهلكت شعوبا كثيفة داخل سجونها قرونا طويلة.
وعندما نكتب سيرة نبينا بهذا الأسلوب، فماذا يبقى للمبشرين والمستشرقين؟؟
عندما تعرض الحق على الناس في بيئة جاهلة به، فلن يقول لك المستمعون: أهلا وسهلا! سيكون هناك مستغربون، وسيكون هناك رافضون! وربما آمن البعض على عجل، وربما قاوم بعضهم بضراوة، ولن تتحدَّد المواقف إلا بعد آماد طوال يصبر فيها الدعاة، يقابلون الهُزء بالسكينة، والاستفزاز بالحلم...
كذلك كان الأنبياء على امتداد العصور، وكذلك كانت سيرة خاتمهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ... مع ما تميَّزت به رسالاتهم من وضوح وتجرُّد وإشراق .
أما اليوم فالدعوة مُثقلة بما يَضيرها أو يزهِّد فيها ؛ هناك مَن يدعو إلى الشكل قبل الموضوع، وإلى النافلة قبل الفريضة، وإلى الحكم الفرعي قبل القاعدة الكلية، وإلى ما فيه خلاف قبل ما لا خلاف فيه! ثم يدقُّ طبول الحرب وهو صِفر اليدين من سلاح يُجدي، فإذا الغبار ينجلي عن هزيمة مضاعَفة للحقِّ، إنه انهزم مرتين، مرة في ميدان الدليل، ومرة في ميدان القتال!
وبهذا الفكر المعتلِّ يكتب دعاة عن قيام الإسلام على السيف، واجتياحه للخصوم، ورغبته في الهجوم!
ويرجعون إلى الكتاب الكريم والسنة المطهرة، كي يحرِّفوا الكلم عن مواضعه، أو يقلبوا النصوص رأسا على عقب.
• الرد على مقولة حزب التحرير:
ثم يقول شيخنا الغزالي في السياق نفسه: (خذ مثالا آخر:
إن النبي عليه الصلاة والسلام أُخرج من مكة هو ومَن آمن به بعد ثلاث عشرة سنة حافلة بالآلام والأحزان.
ولم تهدأ عداوة قريش ضدَّ الإسلام بعد الهجرة، بل وَثَبَت على كل مَن شرح بالإسلام صدرا من أهل مكة، فنكلَّت به، وكان دعاء المستضعفين والمفتونين: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75[
فهل يوصف قتال المسلمين لقريش بأنه حرب هجومية بعد هذه الأحداث الواضحة؟
ومعروف أن الرومان انتشروا في آسيا وأفريقيا كالجراد الذي يأتي على الأخضر واليابس. والاستعمار الروماني مقرون بالاستبداد والقسوة والكبرياء.
وقد احتضن النصرانية فشوَّهها، ومال بها نحو الوثنية، وطارد الكنائس الموحِّدة حتى أبادها، وعندما ظهر الإسلام اعترض طريقه، وضنَّ عليه بحرية الحركة، ونازله شمالي الجزيرة ليقضي عليه!
فهل تصدِّي المسلمين للصلف الروماني، وكسرهم الطوق الذي وضعه: يوصف بأنه حرب هجومية نشأت عن رغبة الإسلام في التوسُّع؟ أي توسُّع؟ هل حقُّ الدين الجديد في عرض نفسه على الناس كلهم، وإباؤه تكميم الأفواه وفتنة الضعاف، هو العيب الذي يُوصف به ويُلام عليه؟
ومع هذه المقرَّرات البديهية، فإن رئيس حزب إسلامي يكتب في نشرة مطوَّلة لأعضاء حزبه: أن الإسلام يبدأ بالقتال ويرسم خطة الهجوم على مخالفيه.
يقول الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله: (إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام وفعله يدلُّ دلالة واضحة على أن الجهاد هو بدء الكفار بالقتال، لإعلاء كلمة الله، ولنشر الإسلام) ويقول: (إن خروج الرسول إلى بدر لأخذ قافلة قريش هو خروج للقتال، هو مبادأة بالقتال، فقريش كانت دولة، ولم تكن بعد قد اعتدت بعد على الرسول أو على المدينة حتى يدافع عنها، بل هو الذي بدأهم بالقتال) (!) اهـ.
إن تصوُّر الوقائع على هذا النحو أقرب إلى الهزل منه إلى الجِد، ولا أدري كيف يستقيم في عقل إنسان أن المطرودين من ديارهم، المصادَرين في عقيدتهم لم يتعرَّض لهم أحد بعدوان؟؟
ويمضى رئيس حزب التحرير الإسلامي فيقول: (إن قيام النبي بإرسال الجيش إلى (مؤتة) لقتال الروم، وتوجُّهه إلى تبوك مقتربا من حدود الروم، لمقاتلتهم ظاهر فيه كل الظهور أنه بدء بالمقاتلة( (!).
وهذا الكلام من أغرب ما يقال، وعلى ضوء هذا المنطق المدهش يمكن وصف الحروب التي يقوم بها زنوج إفريقيا الجنوبية الآن بأنها حروب هجومية، ووصف المناوشات التي يقوم بها عرب فلسطين ضد دولة إسرائيل، بأنها قتال هجومي!
إن العقل الذي يلتقط صُور الأحداث بهذا الإبتار والتقطيع والحكم العَجُول: يجب الإعراض عنه.
ومن المؤسف أن يكون لهذا التفكير وجود بين الإسلاميين.
لا يحتاج الإسلام إلا إلى جو حُرٍّ كي ينتشر ويدخل الناس فيه أفواجا، ما دام العَرض سليما، والعائق منفيًّا.
ونحن لا نُكره أحدا على دين، ولا نقبل إيمان مكرَه، كما أننا نحتكم إلى العدل المطلق فيما ينشب بيننا وبين غيرنا من خلاف، ولا يميل بنا عن العدل حب ولا بغض.
ولو كانت دولتا الروم والفرس تقومان على مبادئ الحرية والعدالة وضمان الحقوق الإنسانية ما قامت بيننا وبينها حروب.
الذي وقع داخل الدولتين وخارجهما: أن الاستبداد السياسي حبس الجماهير وراء سياج حديدي بالغ القسوة، وأن جنون القوة أغرى الدولتين معًا بتكسير المصابيح التي حملها الإسلام، فكان القتال لا لنشر الإسلام، ولا لإكراه أحد على اعتناقه، بل لكي تسود الأوضاع الطبيعية.
بعدئذ فمَن شاء فليؤمن، ومَن شاء فليكفر.
ولا يطلب الإسلام في الميدان العالمي أكثر من حريات مستقرَّة، وإذا عجز المسلمون في ميدان تكافؤ الفرص، وحرية الأخذ والردِّ، عن نشر دينهم، فلا أقدرهم الله، ولا بارك فيهم!
إنني أعود إلى قومي فأسألهم: لقد أمركم الله أن تكونوا أمة دعوة: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، فماذا صنعتم لتلبية هذا التكليف الإلهي؟ أين الأجهزة التي تنهض بهذا العبء النبيل؟
إن فنَّ الدعوة يحتاج إلى ألوف من الأذكياء الأتقياء، يأخذون طريقهم إلى الأفئدة والعقول بلباقة ورفق، فإذا اعترض السيف هؤلاء برز من جانبنا سيف يناوشه، ويعيده إلى غِمده، ويترك الحكم للمنطق والأدب لا لغرائز السباع .
إن هذا هو اتجاه الوحي النازل علينا، وهو المفهوم من عشرات النصوص التي نتلوها .
ومن ثَمَّ فإنني أنظر باحتقار شديد إلى أشخاص عَجَزَة في ميدان الدعوة، كُسالى في سباق الخير، لا صياح لهم إلا: السيفَ السيفَ! ولو قام السيف لكانوا أول ضحاياه!
لقد أصاب الإسلام ضرر شديد من الانحصار العقلي الذي سيطر على أولئك المتحدِّثين، ومن التحريف الذي فرضوه على الأحداث، فأمست قريش معتدًى عليها في معركة بدر! وأمست الإمبراطورية الرومانية الإستعمارية معتدًى عليها في مؤتة وتبوك!
وانتقل هذا الاضطراب الفكري إلى نصوص الكتاب والسنة، فإذا تيار من الفوضى يُلغى باسم النسخ نحو 120 آية قرآنية، ويعوَجُّ بمفهوم آيات أخرى، ويُخرج الإسلام للناس في صورة دميمة! نحن بتوفيق الله نتناول الموضوع كله بشيء من التفصيل، وأصارح بأني أتبع خُطَى الراسخين في العلم، وأطيل التأمل فيما ينقل إلينا من أقوال ومذاهب.
إن كتبنا القديمة تجمع في القضية الواحدة رُكاما من الآراء؛ فيه الصحيح، وفيه الذي يحتمل الصحة، وفيه الباطل، وفيه السقيم، ويجيء ذوو النظرات السطحية فيقرؤون هذا وذاك، وربما لم يعلَق بأذهانهم إلا ما لا خير فيه .
وهذا الخلط المتباين أساء إلى ثقافتنا الإسلامية، وربما منح الحياة مرويات كان يجب أن توأد يوم وُلدت! وقد سمعتُ البعض يرحِّب بهذه الحرية! ولكني عند التدبُّر والموازنة شعرتُ أن العملة المزيفة طردت العملة الصحيحة.
ولَمَّا كان الحكام المسلمون في أغلب العصور أفرادا يغلب عليهم الجهل، فإن سلطاتهم الواسعة ساندت الأوهام والأخطاء، لا سيما في ميدان الدعوة .
إن المسلمين حَمَلة رسالة عالمية بيقين، ونقل هذه الرسالة إلى الناس وظيفة شريفة.
وغياب الحكومات الإسلامية عن هذا النقل وضماناته وتبعاته أمر غير طبيعي، كما أن ربط هذا النقل بأهواء الحكَّام وأمجادهم الخاصة مرفوض.
وسأبدأ سردا للآيات التي تضمَّنت سياسة الدعوة وجهادها، وردًّا للآراء التي وقفت تنفيذها باسم النسخ.
ومن خلال السَّرد والردِّ معا سيعرف القارئ المسلم أسلوب النَفَس الطويل الذي سلكه الإسلام في هداية أهل الأرض، واقتيادهم برفق إلى الصراط المستقيم ، وعندئذ نعلم: متى يلجأ المُحرج إلى السيف وكيف يستخدمه) [2[
وقد كتب الشيخ رحمه الله فصلا رائعا في هذا الكتاب (جهاد الدعوة)[3] في بيان الآيات التي زعم الزاعمون نسخها بآية السيف، وبيَّن بالبرهان أنها مُحكمة غير منسوخة، وفسَّرها بعقله النَّير، وبقلمه البليغ، تفسيرا تنشرح له صدور العالمين، وتطمئن به قلوب المؤمنين، وتقتنع به عقول الباحثين، يتفق مع هداية القرآن، وهدْي النبوة، ومقاصد الإسلام. فليراجع هذا الفصل القيم كل مَن يريد أن يستزيد علما وهدى في فهم آيات الدعوة والجهاد، وما قيل فيها: إنه منسوخ، بغير بيِّنة من الله ولا برهان.
• ( 3 ) رأي أحمد زكي باشا:
أما رأي شيخ العروبة - أحمد زكي باشا - فقد نقله الأستاذ عباس العقاد في كتابه (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) حين تحدَّث عن غزوات الرسول، وأنه كان فيها: المفترَى عليه، والمدافع عن نفسه، وعن حرية دعوته، كما تجلَّى ذلك في كل حروبه مع قريش، التي ناصبته العداء من أول يوم، وأخرجته وأصحابه من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله.
وأما قبائل الجزيرة العربية في غير قريش، فلم يحاربهم الإسلام إلا حرب دفاع، أو حرب مبادرة لاتقاء الهجوم من جانبها، وأخبار السرايا الإسلامية في بلاد العرب معروفة محفوظة بأسبابها ومقدماتها، وكلها كما أحصاها المؤرخ العصري - أحمد زكي باشا - حروب دفاع واتِّقاء هجوم. وسنورد هنا أهم ما ذكره شيخ العروبة، وسنوثِّقه بتخريجه وإسناده إلى مصادره في كتب السيرة والسنة. يقول رحمه الله بعد كلام:
(ونذكر من بعد ذلك: غزوة بني قينقاع من يهود المدينة، فقد حاربهم المسلمون لنقضهم العهد بعد غزوة بدر الكبرى، وهتكهم حُرمة سيدة من نساء الأنصار [4[
ثم غزوة بني غَطَفَان، ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا بعد أن علموا أن بني ثعلبة ومحارِب من غَطَفَان، تجمعوا برئاسة دُعثُور المحاربي، للإغارة على المدينة [5].
ثم سرية عاصم بن ثابت الأنصاري، وكانوا مع رهط عَضَل والقارَة الذين خانوهم، ودلُّوا عليهم هُذَيلاً قوم سفيان بن خالد الهُذَلي الذي قتله عبد الله بن أُنيس [6[
ثم سرية المنذر بن عمرو، وهم سبعون رجلا يسمون (القرَّاء) أخذهم عامر بن مالك مُلاعب الأسِنَّة لطمعه في هداية قومه وإيمانهم، فلم يَرعَ قومه جواره، وقتلوا القرَّاء [7[
ثم غزوة بني النضير من يهود المدينة، وذلك لنقضهم العهد و[محاولة] إلقائهم صخرة على النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا كان في ديارهم [8[
ثم غزوة دُومَة الجَندَل، ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا لما علموا أن في ذلك المكان أعرابا يقطعون الطريق على المارَّة، ويريدون الإغارة على المدينة [9[
ثم غزوة بني المُصطَلِق وهؤلاء ممَّن ساعدوا المشركين في أُحد، ولم يكتفوا بذلك، بل أرادوا جمع الجموع للإغارة على المدينة [10[
ثم غزوة الخندق، وكانت مع الأحزاب الذين حاصروا المدينة [11[
ثم غزوة بني قريظة من يهود المدينة، لنقضهم العهد واجتماعهم مع الأحزاب [12[
ثم غزوة بني لِحيان، لقتلهم عاصم بن ثابت وإخوانه الذين حزن عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [13[
ثم غزوة الغابة، لإغارة عُيينة بن حِصن في أربعين راكبا على لِقَاح النبي صلى الله عليه وسلم كانت ترعى الغابة [14[
ثم سرية محمد بن مَسْلَمة إلى القَصَّة؛ لما بلغ المسلمين أن بذلك الموضع ناسا يريدون الإغارة على نَعَم المسلمين التي ترعى بالهيفاء [15[
ثم سرية زيد بن حارثة، لمعاكسة بني سُليم الذين كانوا من الأحزاب يوم الخندق [16[
ثم سرية زيد كذلك؛ للإغارة على بني فَزَارة الذين تعرَّضوا له [17[
ثم سرية عمر بن الخطاب؛ لما بلغ المسلمين من أن جمعا من هَوازِن يُظهرون العداوة للمسلمين [18[
ثم سرية بشير بن سعد لما بلغهم من أن عيينة بن حِصن واعد جماعة من غَطَفَان مقيمين بقرب خيبر للإغارة على المدينة [19[
ثم سرية غالب الليثي؛ ليقتصَّ من بني مُرَّة بفَدَك، لأنهم أصابوا سرية بشير بن سعد [20[
ثم غزوة مؤتة؛ وكانت لتعرض شُرَحْبيل بن عمرو الغسَّاني للحارث بن عمير الأَزدِي رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمير بُصرَى، يحمل كتابا، وقتله إياه، ولم يقتل للنبي صلى الله عليه وسلم رسول غيره، حتى وجد لذلك وَجدًا شديدا [21[
ثم سرية عمرو بن العاص؛ لما بلغهم من أن جماعة من قُضَاعَة يتجمعون في ديارهم وراء وادي القُرى للإغارة على المدينة [22[
ثم سرية علي بن أبي طالب لما بلغهم من أن بني سعد بن بكر يجمعون الجموع لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين [23[
ثم غزوة خيبر لأن أهلها كانوا أعظم محرِّض للأحزاب [24[
ثم سرية عبد الله بن رواحة؛ لما بلغهم من أن ابن رِزَام رئيس اليهود يسعى في تحريض العرب على قتال المسلمين [25[
ثم سرية عمرو بن أمية الضَمْرِي؛ لقتل أبي سفيان، جزاء إرساله مَن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم غدرا [26[
ثم حرب العراق، لما ارتكبه كسرى عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه كتابا عرض عليه فيه الإسلام، فإنه مزَّق الكتاب، وكتب إلى باذان - أمير له باليمن - يقول له: بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي، فسِر إليه، فاستتبه، فإن تاب وإلا فابعث إليَّ برأسه. أيكتب إليَّ هذا الكتاب وهو عبدي؟! فبعث باذان بكتاب كسرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع فارسين، يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، فقدما إليه، وقالا له: شاهنشاه بعث إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك مَن يأتي بك، وقد بعثنا إليك، فإن أبيت هلكت، وأهلكت قومك، وخرَّبت بلادك . فليس بعد ذلك عذر للمسلمين في امتناعهم عن حرب الفرس خصوصا، وقد كان للعرب ثارات كثيرة في ذمِّة العجم.
ثم غزوة تبوك لما بلغ المسلمين من أن الروم جمعت الجموع تريد غزوهم في بلادهم، وقد أعقبها فتح الشام والقسم الأعظم من دولة الروم [27]) [28[
وعقَّب على ذلك الأستاذ عباس العقاد، بقوله:
(فهذا حقُّ السيف كما استخدمه الإسلام في أشدِّ الأوقات حاجة إليه.
حق السيف مرادف لحق الحياة، وكل ما أوجب الإسلام، فإنما أوجبه لأنه مضطَّر إليه، أو مضطَّر إلى التخلي عن حقِّه في الحياة، وحقِّه في حرية الدعوة والاعتقاد، فإن لم يكن درءا للعدوان والافتيات على حقِّ الحياة وحقِّ الحرية، فالإسلام في كلمتين هو (دين السلام) [29]اهـ.