تعدُّ القسطنطينيَّة من أهمِّ المدن العالميَّة، وقد أُسِّست في عام (330م) على يد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأوَّل. وقد كان لها موقعٌ عالميٌّ فريدٌ، حتَّى قيل عنها: «لو كانت الدُّنيا مملكةً واحدةً، لكانت القسطنطينيَّة أصلح المدن، لتكون عاصمةً لها».
عندما دخل المسلمون في جهادٍ مع الدَّولة البيزنطيَّة كان لهذه المدينة مكانتها الخاصَّة في ذلك الصِّراع، ولذلك فقد بشَّر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتحها في عدَّة مواقف، من ذلك ما حدث أثناء غزوة الخندق، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعاً في أن يتحقَّق فيهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لتفتحنَّ القسطنطينية على يد رجلٍ، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش!».
وقد كان هذا الأمير الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم هو السلطان محمد الفاتح، فمنذ أن ولي السَّلطنة العثمانيَّة سنة (855هـ الموافق 1451م) كان يتطلَّع إِلى فتح القسطنطينيَّة، ويفكِّر في فتحها، ولقد ساهمت تربية العلماء على تنشئته على حبِّ الإِسلام، والإِيمان، والعمل بالقرآن، وسنَّة سيِّد الأنام، ويعود تديُّنه الرَّفيع للتَّربية الإِسلاميَّة الرَّشيدة الَّتي تلقَّاها منذ الصِّغر بتوجيهاتٍ من والده، وجهود الشَّخصيات العلميَّة القويَّة الَّتي أشرفت على تربيته.
وقد كان فتح القسطنطينية حدثاً عالميّاً مؤثراً به تحولت الدولة العثمانية إلى دولة عالمية، بل إن بعض المؤرخين يعدُّه نقطة بداية للعصر الحديث، وقد اعتمد السلطان محمد الفاتح وأركان حربه مجموعة من الوسائل النفسية والروحية والمادية من أجل إتمام هذا الفتح العظيم، ومنها:
1- إعداد الجيش العثماني ماديا وروحياً، ودور العلماء في ذلك:
بذل السُّلطان محمَّد الثاني جهوده المختلفة للتَّخطيط، والتَّرتيب لفتح القسطنطينيَّة، وبذل في ذلك جهوداً كبيرةً في تقوية الجيش العثمانيِّ بالقوى البشريَّة حتَّى وصل تعداده إِلى قرابة ربع مليون مجاهد وهذا عددٌ كبيرٌ مقارنةً بجيوش الدُّول في تلك الفترة، كما عُني عنايةً خاصَّة بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة، وبمختلف أنواع الأسلحة الَّتي تؤهِّلهم للعمليَّة الجهادية المنتظرة، كما اعتنى الفاتح بإِعدادهم إِعداداً معنوياً قويَّاً، وغرس روح الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرَّسول صلى الله عليه وسلم على الجيش الذي يفتح القسطنطينيَّة، وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، ممَّا أعطاهم قوَّةً معنويَّةً، وشجاعةً منقطعة النَّظير. كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثرٌ كبيرٌ في تقوية عزائم الجنود، وربطهم بالجهاد الحقيقيِّ وفق أوامر الله.
(أ) اهتمام السُّلطان بجمع الأسلحة الَّلازمة:
اعتنى السُّلطان عنايةً خاصَّةً بجمع الأسلحة اللازمة لفتح القسطنطينيَّة، ومن أهمِّها المدافع الَّتي أخذت اهتماماً خاصَّاً منه، حيث أحضر مهندساً مجريَّاً يُدعى «أوربان» كان بارعاً في صناعة المدافع، فأحسن استقباله، ووفَّر له جميع الإِمكانيَّات الماليَّة، والمادِّيَّة، والبشريَّة، وقد تمكَّن هذا المهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضَّخمة كان على رأسها المدفع السُّلطانيُّ المشهور، والَّذي ذكر: أنَّ وزنه كان يصل إِلى مئات الأطنان، وأنَّه يحتاج إِلى مئات الثِّيران القويَّة لتحريكه، وقد أشرف السُّلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع، وتجريبها.
(ب) الاهتمام بالأسطول:
يضاف إِلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عنايةٍ خاصَّةٍ بالأسطول العثماني، حيث عمل على تقويته، وتزويده بالسُّفن المختلفة، ليكون مؤهَّلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينيَّة، تلك المدينة البحريَّة الَّتي لا يكمل حصارها دون وجود قوَّةٍ بحريَّةٍ تقوم بهذه المهمَّة، وقد ذكر: أنَّ السُّفن الَّتي أُعدَّت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمئة سفينةٍ.
2- عبقريَّةٌ حربيَّة فذَّةٌ:
لاحت للسُّلطان فكرةٌ بارعةٌ، وهي نقل السُّفن من مرساها في بشكطاش إِلى القرن الذَّهبي، وذلك بجرِّها على الطَّريق البرِّي الواقع بين الميناءين مبتعداً عن حي غلطة خوفاً على سفنه من الجنويِّين، وقد كانت المسافة بين الميناءين نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلةً، ولكنَّها كانت وهاداً، وتلالاً غير ممهَّدةٍ.
جمع محمد الفاتح أركان حربه، وعرض عليهم فكرته، وحدَّد لهم مكان معركته القادمة فتلقَّى منهم كلَّ تشجيعٍ، وأعربوا عن إِعجابهم بها.
بدأ تنفيذ الخطَّة، وأمر السُّلطان محمَّد الثاني فمُهِّدت الأرض، وسوِّيت في ساعاتٍ قليلةٍ وأُتِيَ بألواحٍ من الخشب دُهِنت بالزَّيت، والشَّحم، ثمَّ وضعت على الطَّريق الممهد بطريقةٍ يسهل بها انزلاج السُّفن، وجرُّها، وكان أصعب جزء من المشروع هو نقل السُّفن على انحدار التِّلال المرتفعة، إِلا أنَّه بصفةٍ عامَّةٍ كانت السُّفن العثمانية صغيرة الحجم، خفيفة الوزن.
وجُرَّت السُّفن من البسفور إِلى البر حيث سُحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزَّيت مسافة ثلاثة أميال، حتَّى وصلت إِلى نقطةٍ آمنةٍ، فأنزلت في القرن الذَّهبي، وتمكَّن العثمانيُّون في تلك اللَّيلة من سحب أكثر من سبعين سفينة، وإِنزالها في القرن الذَّهبي على حين غفلةٍ من العدوِّ بطريقةٍ لم يُسبق إِليها السُّلطان الفاتح قبل ذلك، وقد كان يشرف بنفسه على العمليَّة الَّتي جرت في اللَّيل بعيداً عن أنظار العدوِّ، ومراقبته.
كان هذا العمل عظيماً بالنسبة للعصر الَّذي حدث فيه، بل معجزةً من المعجزات، تجلَّت فيه سرعة التَّفكير، وسرعة التَّنفيذ، ممَّا يدلُّ على عقلية العثمانييِّن الممتازة، ومهارتهم الفائقة، وهمتهم العظيمة. لقد دهش الرُّوم دهشةً كبرى عندما علموا بها، فما كان أحد ليستطيع تصديق ما تمَّ. لكن الواقع المشاهد جعلهم يذعنون لهذه الخطَّة الباهرة.
3- الحرب النفسيَّة العثمانيَّة:
ضاعف السَّلطان محمَّد الثَّاني الهجوم على الأسوار، وجعله مركَّزاً عنيفاً ضمن خطة أعدَّها بنفسه أيضاً لإِضعاف العدوِّ، وكرَّرت القوَّات العثمانية عمليَّة الهجوم على الأسوار ومحاولة تسلُّقها مرَّاتٍ عديدةٍ بصورة بطوليَّةٍ بلغت غايةً عظيمةً من الشَّجاعة، والتَّضحية، والتَّفاني، وكان أكثر ما يرعب جنود الإمبراطور قسطنطين صيحاتهم، وهي تشقُّ عنان السَّماء، وتقول: (الله أكبر، الله أكبر) فتنزل عليهم كالصَّواعق المدمِّرة.
وشرع السُّلطان محمَّد الفاتح في نصب المدافع القويَّة على الهضاب الواقعة خلف غلطة، وبدأت هذه المدافع في دفع قذائفها الكثيفة نحو الميناء، وأصابت إِحدى القذائف سفينة تجاريَّة فأغرقتها في الحال، فخافت السُّفن الأخرى، واضطرت للفرار، واتَّخذت من أسوار غلطة ملجأً لها، وظلَّ الهجوم العثماني البرِّيِّ في موجاتٍ خاطفةٍ وسريعةٍ هجمةً تلو الأخرى.
وكان السُّلطان محمَّد ـ رحمه الله ـ يفاجئ عدوَّه من حينٍ لآخر بفنٍّ جديدٍ من فنون القتال، والحصار، وحرب الأعصاب، وبأساليب جديدةٍ، وطرق حديثةٍ مبتكرةٍ غير معروفةٍ للعدوِّ.
ففي المراحل المتقدِّمة من الحصار لجأ العثمانيُّون إِلى طريقةٍ عجيبةٍ في محاولة دخول المدينة؛ حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من مناطق مختلفةٍ إِلى داخل المدينة، وسمع سكَّانها ضرباتٍ شديدةٍ تحت الأرض أخذت تقترب من داخل المدينة بالتَّدريج، فأسرع الإمبراطور بنفسه، ومعه قوَّاده، ومستشاروه إِلى ناحية الصَّوت، وأدركوا: أنَّ العثمانيِّين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض للوصول إِلى داخل المدينة، فقرَّر المدافعون الإِعداد لمواجهتها بحفر أنفاق مماثلة مقابل أنفاق المهاجمين لمواجهتهم دون أن يعلموا، حتَّى إِذا وصل العثمانيُّون إِلى الأنفاق الَّتي أعدَّت لهم ظنُّوا: أنَّهم وصلوا إِلى سراديب خاصَّةٍ وسرِّيَّةٍ تؤدي إِلى داخل المدينة ففرحوا بهذا، ولكن الفرحة لم تطل إِذ فاجأهم الرُّوم، فصبُّوا عليهم ألسنة النِّيران، والنَّفط المحترق، والمواد الملتهبة، فاختنق كثير منهم، واحترق قسمٌ آخر، وعاد النَّاجون منهم أدراجهم من حيث أتوا.
لكنَّ هذا الفشل لم يفتَّ في عضد العثمانيِّين، فعاودوا حفر أنفاق أخرى، وفي مواضعٍ مختلفةٍ من المنطقة الممتدَّة بين «أكرى فبو» وشاطئ القرن الذَّهبي، وكانت مكاناً ملائماً للقيام بمثل هذا العمل، وظلُّوا على ذلك حتَّى أواخر أيام الحصار، وقد أصاب أهل القسطنطينية من جرَّاء ذلك خوفٌ عظيمٌ، وفزعٌ لا يوصف حتَّى صاروا يتوهَّمون: أنَّ أصوات أقدامهم، وهم يمشون إِنَّما هي أصواتٌ خفيَّةٌ لحفرٍ يقوم به العثمانيُّون، وكثيراً ما كان يخيَّل لهم: أنَّ الأرض ستنشقُّ ويخرج منها الجند العثمانيُّون ويملؤون المدينة، فكانوا يتلفَّتون يمنةً، ويسرةً، ويشيرون هنا، وهناك في فزعٍ، ويقولون: (هذا تركي! هذا تركي!)
4- مفاجأة عسكرية عثمانيَّة:
لجأ العثمانيُّون إِلى أسلوبٍ جديدٍ في محاولة الاقتحام، وذلك بأن صنعوا قلعةً خشبيَّةً ضخمةً، شامخةً، متحرِّكةً، تتكوَّن من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من الأسوار، وقد كسيت بالدُّروع، والجلود المبلَّلة بالماء لتمنع عنها النِّيران، وأعدَّت تلك القلعة بالرِّجال في كلِّ دورٍ من أدوارها، وكان الَّذين في الدَّور العلويِّ من الرُّماة يقذفون بالنِّبال كلَّ مَنْ يطلُّ برأسه من فوق الأسوار، وقد وقع الرُّعب في قلوب المدافعين عن المدينة حينما زحف العثمانيُّون بهذه القلعة، واقتربوا بها من الأسوار عند باب رومانوس، فاتَّجه الإمبراطور بنفسه، ومعه قوَّاده ليتابع صدَّ تلك القلعة، ودفعها عن الأسوار، وقد تمكَّن العثمانيُّون من لصقها بالأسوار ودار بين مَن فيها وبين النَّصارى عند الأسوار قتالٌ شديدٌ، واستطاع بعض المسلمين ممَّن في القلعة تسلُّق الأسوار ونجحوا في ذلك، وقد ظنَّ قسطنطين: أنَّ الهزيمة حلَّت به إِلا أنَّ المدافعين كثَّفوا من قذف القلعة بالنِّيران حتَّى أثَّرت فيها، وتمكَّنت منها النِّيران فاحترقت، ووقعت على الأبراج البيزنطيَّة المجاورة لها، فقتلت من فيها من المدافعين، وامتلأ الخندق المجاور لها بالحجارة والتُّراب.
ولم ييأس العثمانيون من المحاولة، بل قال الفاتح، وكان يشرف بنفسه على ما وقع: غداً نصنع أربعاً أخرى.
وهكذا فقد كان فتح القسطنطينية حدثاً عظيماً تضافرت فيه عدة عوامل، لم يكن الإعداد المادي أولها ولا كان الاتكال على الإعداد الروحي آخرها، بل جمعت هذه القيادة الفذة بين كل ذلك إضافة إلى ما تمتع به هذا الجيش المُبَشَّرُ من شجاعة واستعداد فطري قل نظيره، وقد أدى فتح القسطنطينية إلى تغييرات على مستوى العالم وردود فعل قد نتعرض لها في مقالات لاحقة إن شاء الله.
المراجع:
- د. علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص. ص (69-80).
- سعيد عاشور، أوربة في العصور الوسطى، الطَّبعة السَّادسة، مكتبة الأنجلو المصريَّة 1975م، ص(29).
- محمَّد مصطفى، فتح القسطنطينيَّة، وسيرة السُّلطان محمَّد الفاتح، ص(36 ـ 46).
- أحمد في مسنده (4/335).
- د. علي حسُّون، تاريخ الدَّولة العثمانيَّة، المكتب الإِسلامي، الطَّبعة الثَّالثة 1415هـ/1994م.ص(42).
- محمَّد فريد بك، تاريخ الدَّولة العليَّة العثمانيَّة، تحقيق الدُّكتور إِحسان حقِّي، دار النَّفائس، الطَّبعة السَّادسة، 1408هـ/1988م.ص(161).
- د. عبد العزيز العمري، الفتوح الإِسلاميَّة عبر العصور، دار إِشبيلية، الرِّياض، الطَّبعة الأولى، 1418هـ/1997م. ص(361). ص(370).
- د. سالم الرَّشيدي، محمَّد الفاتح، الإِرشاد، جدَّة، الطَّبعة الثَّالثة، 1989م/1410هـ، ص(90).
- عبد السَّلام عبد العزيز فهمي، السُّلطان محمَّد الفاتح، فاتح القسطنطينيَّة، وقاهر الرُّوم، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الرَّابعة، 1407هـ/1987م.، ص(100). ص(102). ص(108).
- يلماز أوزنتونا، تاريخ الدولة العثمانيَّة، ترجمه إِلى العربيَّة عدنان محمود سلمان، د. محمود الأنصاري، المجلَّد الأوَّل، منشورات مؤسَّسة فيصل للتَّمويل، تركيا، إِستانبول 1988م.، ص(135).