• ( 3 ) خدمة الرفقاء في الجهاد وإيثارهم:
ومن أدب الجهاد، وخصال المجاهدين الصادقين: التفاني في خدمة رفقاء الجهاد، وإيثارهم بكلِّ خير، وتقديمهم على نفسه، والتقرُّب إلى الله تعالى بخدمتهم، والسهر على راحتهم.
روى البخاري في كتاب الجهاد، عن أنس بن مالك قال: صحبتُ جرير بن عبد الله فكان يخدمني، وهو أكبر من أنس. ورواه مسلم أيضا[1[
قال جرير: إني رأيتُ الأنصار يصنعون شيئا، لا أجد أحدا منهم إلا أكرمته [2]، وذلك أنهم كانوا يعظِّمون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى البخاري ومسلم، عن أنس أيضا قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرنا ظلا: الذي يستظلُّ بكسائه. فأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا، وأما الذين أفطروا، فبعثوا الرِّكاب، وامتهنوا وعالجوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر"[3[
وفي رواية مسلم أنه قال: كنا في سفر، فمنا الصائم، ومنا المفطر، قال: فنزلنا نُزلا في يوم حار، وفي هذه الرواية: فسقط الصُوَّام، (أي عجزوا عن العمل من إرهاق الصوم). وقام المفطرون بالعمل، فحرَّكوا الإبل لخدمتها وسقيها وعلفها، ونصبوا الخيام، وغير ذلك. فحصل لهم أجر عملهم، ومثل أجر الصائمين، لتعاطيهم أشغالهم، وأشغال الصُوَّام، ولذا قال بعض العلماء: إن أجر الخدمة في الغزو أكثر من أجر الصيام، وهو ما يفيده ظاهر الحديث.
قال في (الفتح): (وفيه الحضُّ على المعونة في الجهاد، وعلى أن الفطر في السفر أولى من الصيام)[4[
وخصوصا في الوقت الحار، كما جاء في الحديث.
وذكر البخاري في باب مَن اختار الغزو على الصوم: حديث أنس قال: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم، لم أره مفطرا إلا يوم فطر أو أضحى [5[
والمراد بالأضحى: يوم العيد وما يتبعه من أيام النحر والتشريق الممنوع فيها الصيام، وإنما ترك التطوع بالصوم لأجل الغزو، خشية أن يُضعفه الصوم عن القتال.
وقد جاء في الصحيحين، عن أبي سعيد الخُدْرِي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن صام يوما في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفا"[6[
(قال ابن الجوزي: إذا أُطلق ذكر (سبيل الله) فالمراد به الجهاد.
وقال القرطبي: سبيل الله: طاعة الله. فالمراد به: مَن صام قاصدا وجه الله.
وقال ابن دقيق العيد: العُرف الأكثر: استعماله في الجهاد، فإن حمل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين. (يعني: الجهاد والصيام). ويحتمل أن يراد بـ(سبيل الله) طاعته كيف كانت، والأول أقرب. ولا يعارض ذلك: أن الفطر في الجهاد أولى، لأن الصائم يضعُف عن اللقاء، كما تقدَّم تقريره في (باب مَن اختار الغزو على الصوم). لأن الفضل المذكور محمول على مَن لم يخشَ ضعفا، ولا سيما مَن اعتاد به، فصار ذلك من الأمور النسبية. فمَن لم يضعفه الصوم عن الجهاد، فالصوم في حقِّه أفضل ليجمع بين الفضيلتين) [7] انتهى.
والمقصود: أن من أدب الجهاد الذي توارثه الخلف عن السلف: الحرص على خدمة الإخوة ورفقاء الجهاد، دون منٍّ ولا أذى، ولا رياء ولا عُجب، بل لوجه الله تعالى، والسهر على راحتهم، والسعي في كلِّ ما يخفِّف عنهم، من طهو الطعام، وسقي الماء، وإفاءة الظلِّ، وتنظيف المكان، وإغاثة الملهوف، وإعانة الضعيف، وإرشاد الحيران. وكلِّ ما يدخل الرَّوح والفرح على أنفس المجاهدين، أو يزيل الضرَّ عن أبدانهم، والقلق عن نفوسهم، أو يساعدهم على أداء مهمتهم على الوجه المرضِيِّ.
• من قصص السلف في خدمة الإخوة وإيثارهم :
وللسلف في ذلك مقولات وقصص جديرة أن تروى.
روى بلال بن سعد، عمَّن رأى عامر بن عبد قيس رضي الله عنه - وهو من كبار التابعين الصادقين الزهَّاد المشهورين - بأرض الروم على بغلة يركبها عُقْبةً[8] ، ويحمل المهاجرين عُقْبَةً، قال بلال بن سعد: وكان إذا فصل غازيا وقف يتوسَّم الرفاق، فإذا رأى رُفقة توافقه قال: يا هؤلاء، إني أريد أن أصحبكم على أن تعطوني من أنفسكم ثلاث خلال، فيقولون: ما هي؟ قال: أكون خادمكم لا ينازعني أحد منكم الخدمة، وأكون مؤذنا لا ينازعني أحد منكم الأذان، وأنفق عليكم بقدر طاقتي. فإذا قالوا: نعم. انضمَّ إليهم، فإن نازعه أحد منهم شيئا من ذلك: رحل عنهم إلى غيرهم. رواه ابن المبارك في الجهاد، ومن طريقه ابن عساكر[9[
قال العلاَّمة ابن النحاس: (قد كان السلف رضي الله عنهم إذا خرجوا غزاة يجتهد كلٌّ منهم أن يكون خادم رفقائه، وأن يُدخل عليهم من السرور ما قدر عليه، وأن ينفق عليهم ما وجد السبيل إليه، وأن يؤثرهم إذا لم يجد سَعَة بما يقدر عليه، احتسابا لذلك عند الله عز وجل، وابتغاء مرضاته، ورغبة في ثوابه.
ومن أعجب ما جاء في إيثارهم: ما رواه ابن المبارك بإسناده، عن أبي الجهم بن حذيفة العدوي، قال: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمي ومعي شَنَّة من ماء، فقلت: إن كان به رمق سقيتُه من الماء، ومسحتُ به وجهه، فإذا أنا به يَنشَغ [10] فقلتُ: أسقيك؟ فأشار: أي نعم. فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي: أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، فأتيتُه، فقلتُ: أسقيك؟ فسمع آخر يقول: آه، فأشار هشام: أن انطلق إليه، فجئتُه فإذا هو قد مات، ثم رجعتُ إلى هشام، فإذا هو قد مات، ثم أتيتُ ابن عمي، فإذا هو قد مات. رحمة الله عليهم جميعا[11[
وروى حبيب بن أبي ثابت: أن الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل، وعيَّاش بن أبي ربيعة رضي الله عنهم، خرجوا إلى اليرموك، فلما أثبتوا، دعا الحارث بن هشام بماء ليشربه، فنظر إليه عكرمة، فقال: ادفعه إلى عكرمة، فلما أخذه عكرمة، نظر إليه عيَّاش، فقال: ادفعه إلى عيَّاش، فما وصل إلى عيَّاش حتى مات، ولا وصل إلى أحد منهم حتى ماتوا.
أخرجه ابن مَندَه في الصحابة وأبو نُعيم وابن عبد البرِّ [12[
قال ابن النحاس: كانت وقعة اليرموك في سنة خمس عشرة، وكانت الروم في مائة ألف، وقيل في ثلاثمائة ألف، وكان المسلمون ثلاثين ألفا.
يقول ابن النحاس: انظر رحمك الله إلى إيثارهم في هذه الحال، وجودهم بما قد اشتدَّت حاجتهم إليه، وسماحة أنفسهم بما هو عديل حياتهم، لا جرم استحقُّوا رضوان الله وحسن المآب)[13[
• ( 4 ) مراعاة حقوق الرفقة في الجهاد:
إن رفيقك في الجهاد في سبيل الله، قد تكوَّنت له عليك جملة حقوق يجب عليك أن ترعاها:
أولها: حقُّ الأخوة الإسلامية العامة، فـ"المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره ولا يخذله"[14]، و"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا"[15[
وثانيها: حقُّ الصحبة الخاصة، والزمالة التي توجب على كلِّ صاحب لأخيه حقوق الصحبة من النصح والمعاونة والإيثار، كما قال الشاعر:
إن أخاك الحقَّ مَن كان معك ... ومَن يضرُّ نفسه لينفعك!
ومَن إذا ريب الزمان صدَعك ... شتَّت فيك شمله ليجمعك [16[!
وثالثها: حقُّ السفر والاغتراب، فالسفر يقرِّب المسافرين بعضهم من بعض، والاغتراب يؤلِّف بينهما، كما قال الشاعر:
أيا جارتا إنا غريبان ههنا ... وكلُّ غريب للغريب نسيب[17[
ورابعها: حقُّ الرفقة في الجهاد، وهذه أعلاها، فهما يشتركان معا في أعظم ما يقرِّب إلى الله، وأفضل ما يتطوَّع به مسلم تقرُّبا إلى ربه. وكلٌّ منهم يرتقب أعلى ما يسأله مؤمن ربه: أن يُختم له بالشهادة في سبيله! فهؤلاء الذين يعيشون في الدنيا بقلوب أهل الآخرة، ويمشون على الأرض وأعينهم ترنو إلى السماء: ينبغي أن يكون تعاملهم فيما بينهم على قدر سمو أهدافهم، وعلو مراتبهم. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
• ( 5 ) اقتراب القائد من جنده:
ومن أدب الجهاد في الإسلام: قوة الصلة بين القيادة والجنود، فإذا كان من أدب الجندي أن يطيع الأمر، ويلبي النداء، ويقوم بواجبه في أيِّ مكان وُضع: في المقدمة أو في المؤخرة. فإن من أدب القائد مع جنده: ألا يستعلي عليهم، ولا يشعرهم بأيِّ لون من الفوقية والزَّهو، بل يُشعرهم بأنه واحد منهم، يسرُّه ما يسرُّهم، ويسوؤه ما يسوؤهم، فهم جميعا - قادة ومقودين – "كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كلُّه"[18] . والقيادة عنده: تكليف لا تشريف، ومغرم لا مغنم، وكما قال عمر بن عبد العزيز حين وُلِّي الخلافة: إنما أنا واحد منكم، غير أن الله تعالى جعلني أثقلكم حملا.
ولا يجوز للقائد أن يستأثر لنفسه ولخاصته بما لذَّ وطاب من الطعام والشراب، ومن الألبسة والفُرُش والأغطية وألوان المرفِّهات: ما لا يجد الجيش شيئا منه، فإن هذا يورث الحسد والضغينة عند الجند، ويجلب القيل والقال على القادة. وقد يستغلُّ ذلك مرضى القلوب فينفخون فيه، ويجعلون من الحبَّة قُبَّة، ومن الشرارة نارا تحرق.
والمطلوب من قادة الجهاد في سبيل الله: التواضع لله، والذلَّة على المؤمنين، وإظهار المساواة بين الجميع.
• تعامله صلى الله عليه وسلم مع جنوده :
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الأسوة والمثل للقادة من بعده في تعامله مع جنوده.
ففي غزوة بدر كانت ركائب المسلمين قليلة، فقد كان معهم سبعون من الإبل، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، فكان كلُّ ثلاثة أو أربعة يتناوبون الركوب على بعير واحد، وقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم شريكان في بعيره: علي بن أبي طالب وأبو لُبابة، فعرضا عليه أن يتنازلا له عن نوبتهما، ويؤثراه بالركوب، لأنهما شابان، وهو في العقد السادس من عمره صلى الله عليه وسلم، فأبى صلى الله عليه وسلم ذلك، وأصرَّ على أن يمشي - كما يمشيان وكما يمشي سائر أصحابة – في نوبته، قائلا: "ما أنتما بأقوى مني (أي على المشي)، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما"[19[
وفي غزوة بدر وقعت حادثة طريفة دلَّت على مدى حبِّ الصحابة لقائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلُّقهم به. رواها ابن إسحاق والطبري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّل صفوف أصحابه بقِدح في يده، فمر بسوّاد بن غزيَّة - حليف بني عدي بن النجار - وهو مستنتل (أي متقدِّم) من الصفِّ، فطعنه في بطنه بالقدح، وقال: "استوِ يا سواد". فقال: يا رسول الله، أوجعتني، وقد بعثك الله بالحقِّ والعدل! فأقدني (مكنِّي أقتصُّ منك) فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، فقال: "استقد". قال: فاعتنقه فقبَّل بطنه، فقال: "ما حملك على هذا يا سواد؟". قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك: أن يمسَّ جلدي جلدك: فدعا له رسول الله بخير[20[
وروى مسلم بسنده، عن عبد الرحمن بن شُمَاسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء، فقالت: ممَّن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر. فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا عليه شيئا، إن كان ليموت للرجل منا البعير، فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة. فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي: أن أخبرك بما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم مَن ولِي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، فارفق به. ومَن شقَّ عليهم فاشقق عليه"[21[
قال الإمام عزُّ الدين بن عبد السلام معلِّقا على الحديث: (على مَن تولَّى أمر المسلمين في جهاد أو غيره: ألا يكلِّفهم ما لا يطيقون، ولا ما تشتدُّ مشقَّته عليهم، فلا يُغزي قوما ويريح آخرين، بل يقارب بينهم في ذلك، فيُغزي بعضهم ويُريح بعضهم، ثم يُغزي المستريحين، ويُريح الغازين، إلا أن يحضر مهمٌّ، فيجمع له جميع الغزاة)[22[
• التحذير من التشديد على الجنود في أشياء لا يطيقونها :
ومما أورده الإمام البخاري في كتاب الجهاد: (باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون)، وذكر فيه عن عبد الله بن مسعود قوله: لقد أتاني اليوم رجل فسألني عن أمر ما دريتُ ما أردُّ عليه فقال: أرأيتَ رجلا مؤدِّيا (ناويا حسن الأداء) نشيطا، يخرج مع أمرائنا في المغازي، يعزم علينا (يشدِّد علينا) في أشياء لا نحصيها (لا نطيقها)؟ فقلتُ له: والله لا أدري ما أقول لك، إلا أنا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعسى ألا يعزم علينا في أمر إلا مرَّة حتى نفعله، وإن أحدكم لن يزال بخير ما اتَّقى الله. وإذا شكَّ في نفسه شيء (أي حاك في نفسه وارتاب فيه) سأل رجلا فشفاه منه، وأوشك ألا تجدوه ... [23[
والمقصود بهذا الحديث: أنه لا يجوز للأمير أو القائد أن يشدِّد على الناس في أشياء لا يطيقونها، ويجب أن يأخذهم بالرفق والتيسير، فإن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه، وإن الله يحبُّ الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، ومن حُرِم حظَّه من الرفق فقد حُرِم الخير كلُّه، كما قطعت بذلك الأحاديث الصحيحة [24[
وقد قال تعالى لرسوله الكريم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159[
• ( 6 ) مشاورة القائد لجنده:
ومما يدخل في حسن الصلة بين القيادة والجندية: أن يشاور القائد جنوده في الأمور التي تحتاج إلى المشاورة واستطلاع الآراء، فإن رأي الجماعة أقرب إلى الصواب من رأي الفرد، ويد الله مع الجماعة. ومَن شاور الرجال شاركها في عقولها.
وقد قال علي رضي الله عنه: المشاورة حصن من الندامة، وأمن السلامة.
وقيل: الأحمق: مَن قطعه العجز عن الاستخارة، والاستبداد عن الاستشارة.
إشارة إلى ما رُوي: "ما خاب مَن استخار، وما ندم مَن استشار"[25[
وقد استحسن الحكماء قول بشَّار:
إذا بلغ الرأي المشورة فـاسـتـعن برأي لبيب أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة فريش الخوافي قوة للقـوادم
وقال بعض الحكماء: الناس ثلاثة: رجل رجل، ورجل نصف رجل، ورجل لا رجل.
فأما الرجل الرجل، فهو الذي له رأي وحكمة ويشاور غيره.
وأما الرجل نصف الرجل، فهو الذي ليس له رأي وحكمة، ولكنه يشاور غيره.
وأما الرجل اللارجل، فهو الذي ليس له رأي ولا حكمة، ولا يشاور غيره.
• مشاورة القائد عامة الناس أو خاصتهم :
وهناك أشياء يشاور فيها القائد عامة الناس، وأخرى يشاور فيها الخاصة.
لقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل معركة بدر، يقول: أشيروا عليَّ أيها الناس، وسمع من أبي بكر وعمر والمقداد، ولم يكتفِ بذلك، لأنه يريد رأي الأنصار، وهم جمهرة الناس.
وكذلك شاور في أُحد عموم الناس: أيخرج إلى المشركين أم يبقى في المدينة، ويقاتلهم إذا دخلوها؟
والقرآن الكريم جعل الشورى من الصفات الأساسية للمؤمنين، وذلك في سورة مكية سمِّيت سورة (الشورى)، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:38[
فجعلها واسطة العقد بين إقامة الصلاة والإنفاق مما رزق الله، وهو يشمل الزكاة.
وفي القرآن المدني جاء أمر الله تعالى لرسوله بعد غزوة أحد: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. فرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في هذه الغزوة على مشورة الصحابة، وكانت العاقبة ما تعرفه من انكسار المسلمين، واستشهاد سبعين من خيارهم، اتَّخذهم الله شهداء: لم يمنع ذلك أن يؤمر باستشارتهم في الأمر، فإن المشاورة لا تثمر إلا خيرا. وإذا كان هو صلى الله عليه وسلم مأمورا بالمشاورة - وهو المؤيَّد بالوحي من الله - فغيره أولى أن يشاور. وبذلك يحمِّل الجنود والأتباع مسؤولية القرار الذي يُتَّخذ، وتَحَمُّل نتائجه أيًّا كانت.
• تدريب الأمة على تحمل المسؤولية :
وتدريب الأمة على تحمُّل المسؤولية من أهم ما تحرص عليه الأمم ذات الرسالة، ويحرص عليه القادة الصالحون. يقول الإمام ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}: (والشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، مَن لا يستشير أهل العلم والدين، فعزله واجب، هذا ما لا خلاف عليه)[26] اهـ.
ويقول الإمام عزُّ الدين بن عبد السلام في كتابه عن (الجهاد) مبيِّنا فضل المشاورة وآثارها:
(قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. أي توكَّل على الله ولا تتوكَّل على المشاورة.
ثم قال: ما علم أنه مصلحة راجحة فلا مشاورة في فعله، وما علم أنه مفسدة راجحة فلا مشاورة في تركه، وما التبس أمره ففيه المشاورة، فإن الله لم يجمع الصواب كلَّه لواحد. ولذلك شرعت المشاورة، فإن الصواب قد يظهر لقوم، وقد يغيب عن آخرين، وقد قيل للشافعي رضي الله عنه: أين العلم كلُّه؟ فقال: في العالم كلِّه!
يعني أن الله فرَّقه في عباده، ولم يجمعه في واحد.
مع ما في ذلك من تطييب النفوس، وتأليف القلوب، وقد قال رب العالمين لسيد المرسلين {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159[
فينبغي لمَن تولَّى أمر المسلمين أن يقتدي بسيد المرسلين في ذلك، فيشاور في كلِّ تصرف مَن كان عارفا بذلك التصرُّف، ويشاور في كلِّ فن أربابه، مقدِّما لأفاضلهم وأماثلهم على مَن دونهم)[27] انتهى.
• استشارة الرسول أصحابه في غزواته ونزوله عن رأيه إلى رأيهم :
وقد رأينا سيد الرسل صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في غزواته، وكثيرا ما ينزل عن رأيه إلى رأيهم.
استشارهم في غزوة بدر قبل الغزوة، حتى استوثق من موقف الأنصار، واستشارهم في أثناء الغزوة، ونزل على رأي الحُبَاب بن المنذر في اختيار الموقع، وعلى رأي سعد بن معاذ في بناء عريش له، يقيم فيه ويشرف على المعركة منه.
واستشارهم بعد الغزوة في الأسرى من مشركي قريش، واختلفوا عليه، فنزل على رأي أبي بكر رضي الله عنه.
وفي غزوة أُحد استشارهم، ونزل على رأي الأكثرية الظاهرة في ضرورة الخروج.
وفي غزوة الخندق (الأحزاب) استشارهم في دفع ثلث ثمار المدينة لغَطَفَان، حتى يفرِّقهم عن قريش، فأبى عليه السعدان - سعد بن معاذ وسعد بن عُبادة - ممثِّلا الأنصار، فنزل على رأيهما.
واستشارهم في غزوة الحديبية وفي غيرها.
بل استشار أم سلمة رضي الله عنها في الحديبية، فأشارت عليه برأي كان فيه السداد والمصلحة، وأخذ به ونفذه[28[
وذكر الإمام البخاري في كتاب (الاعتصام بالكتاب والسنة) من صحيحه بابا في الشورى قال فيه: باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، وأن المشاورة قبل العزم والتبين لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، فإذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدُّم على الله ورسوله. وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أُحد في المُقام والخروج، فرأوا له الخروج، فلما لبس لأمته وعزم قالوا: أقم. فلم يمِل إليهم بعد العزم، وقال: "لا ينبغي لنبي يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله".
وشاور عليا وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة فسمع منهما، حتى نزل القرآن، فجلد الرامين، ولم يلتفت إلى تنازعهم، ولكن حكم بما أمره الله. وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدَّوه إلى غيره، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ورأى أبو بكر قتال مَن منع الزكاة، فقال عمر: كيف تقاتل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله"؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلنَّ مَن فرَّق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم[29]، ثم تابعه بعدُ عمر، فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة، إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين فرَّقوا بين الصلاة والزكاة، وأرادوا تبديل الدين وأحكامه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن بدَّل دينه فاقتلوه"[30] . وكان القرَّاء أصحاب مشورة عمر، كهولا كانوا وشبانا، وكان وقَّافا عند كتاب الله عز وجل.
ثم يذكر البخاري حديث عائشة رضي الله عنها، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، قالت: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يسألهما، وهو يستشيرهما في فِراق أهله، فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله، وأما علي فقال: لم يضيِّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسلِ الجارية تَصدُقك. فقال: "هل رأيتِ من شيء يَريبك؟". قالت: ما رأيتُ أمرا أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله! فقام على المنبر فقال: "يا معشر المسلمين، مَن يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي! والله ما علمتُ على أهلي إلا خيرا". فذكر براءة عائشة[31[
وقال أبو أسامة، عن هشام. وحدثني محمد بن حرب، حدثنا يحيى بن أبي زكريا الغساني، عن هشام، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "ما تشيرون عليَّ في قوم يسبُّون أهلي؟ ما علمتُ عليهم من سوء قط". وعن عروة قال: لما أُخبرت عائشة بالأمر قالت: يا رسول الله، أتأذن لي أن أنطلق إلى أهلي؟ فأذن لها وأرسل معها الغلام. وقال رجل من الأنصار: سبحانك! ما يكون لنا أن نتكلم بهذا! سبحانك هذا بهتان عظيم) [32]! انتهى.
• الترجيح بالأغلبية بين الرأيين المتنازعَيْن :
إن الشورى قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، ويلزم كلَّ جماعة الالتزام بها في مسيرتها، في شؤون الحياة كافَّة، مدنية وعسكرية، فإذا اختلفوا ولم يكن هناك سبيل إلى الترجيح بين الرأيين المتنازعين، كان الترجيح بالأغلبية، كما فعل الرسول في غزوة أُحد، وكما قال في بدر لأبي بكر وعمر: "لو اتَّفقتما على رأي ما خالفتكما"[33] . إذ سيكون صوتاهما مقابل صوته، ولأمره في بعض الأحاديث باتبِّاع السواد الأعظم[34]
وهذا ما طبَّقه عمر في شأن الستة أصحاب الشورى، حيث أمر باتِّباع الأكثر منهم، واطِّراح رأي الأقل. وهذا ما تجري عليه الأنظمة (الديمقراطية) اليوم، أي العمل برأي الأكثرية، وهذا في الأمور المباحة التي ليس فيها نصٌّ يحسم القضية. والله أعلم.