من أهم ما تميزت به مجلة الأزهر: أنها قدّمت لنا علماء جددًا، وأظهرت لنا مفكرين لم يتعرف عليهم جمهور المجلة قبل ذلك، وهذه ميزة من مميزات أي مجلة: أن تقدّم كل جديد، وتعرّف بكل مجهول.
وكان من أهم هؤلاء المفكرين: الدكتور وصفي عاشور أبو زيد، الذي أخذت مقاصد الشريعة جل اهتماماته، فهو متخصص فيها، يجيد فنونها، ويتقن مراميها.
لذلك أفردت له مجلة الأزهر مكانًا بارزًا على صفحاتها، وقام بدوره بتجلية مقاصد الشريعة الإسلامية في كل فروع الحياة، لكن السؤال: كيف قام وصفي عاشور أبو زيد بذلك؟.
هذا ما تتحدث عنه السطور القادمة.
المطلب الأول: وصفي أبو زيد وأهمية المقاصد:
بيّن وصفي أبو زيد أهمية المقاصد بالنسبة للفرد والأسرة والمجتمع والأمة، فعن أهميتها للفرد والأسرة يقول:
“فالفرد حين تكفل له حقوقه وتصان كرامته، ويحفظ دينه ونفسه وماله ونسله وعقله وعرضه يعيش -لا شك- في أمن وأمان، وسِلْم وسلام، ويكون هناك اتساق على مستواه الفردي بينه وبين نفسه، وانسجام روحي يشعر بأثره في داخله، ومن هنا ينبعث الأمن النفسي الذي ينبثق من الإيمان بالله وشريعته: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيْمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ﴾، هذا الفرد إذا تحقق له هذا كله فإنه يحيا فردًا صحيحًا سليمًا نفسيًا وبدنيًا، آمنًا روحيًا وقلبيًا… وهو ما ينعكس على الأسرة استقرارًا وبقاء، ونشأة سوية سليمة صحيحة…”.
وعن أهميتها للمجتمع وللأمة يتحدث أبو زيد فيقول:
“ينبني على تحقيق مقاصد الشريعة للفرد تكوين أسر سوية مستقيمة، ومن ثم يُسْهم هذا كله في إقامة مجتمع متماسك مترابط قوي متعاون، ويضاف لهذا أنه حين تُحقَّق مقاصد الشريعة الاجتماعية في المجتمع، من أمن اجتماعي، ومساواة، وحرية بضوابطها، وعدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية، لا جرم يصبح مجتمعًا إنسانيًا بحق، تتحقق فيه معاني الإنسانية جميعًا”.
“أما مستوى الأمة وهو المستوى الإسلامي الكبير فمتى تحقق هذا المستوى بمقاصد الأمة وفق منهج الوسطية، فسوف يمكنها من أداء دورها المنشود، وهو دور قيادة العالم وتحقيق الشهود الحضاري: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾… فالنظر إلى مقاصد وجود هذه الأمة بمقتضى مسئوليتها نحو الأمم يفضي بنا إلى الأخذ بالتدابير التي تحقق هذه المقاصد، والقيام بالأسباب الممكنة والشروط الواجبة التي توقفنا على الهدف من إيجاد هذه الامة، وهو إرشاد هذه البشرية لما ينفعها ويسعدها في المعاش والمعاد”.
كما أشار أبو زيد أيضًا إلى أهمية تلك المقاصد على مستوى أهل الأديان، وعلى مستوى الإنسانية كلها.
المطلب الثاني: وصفي أبو زيد ومقاصد مجلة الأزهر:
في هذا المطلب يحاول الباحث أن يقف عند أهم المقاصد الشرعية، التي ذكرها أبو زيد في مقالاته بمجلة الأزهر، وسوف يقوم الباحث بتقسيمها إلى المسائل الآتية:
المسألة الأولى: مقاصد العبادات:
من أهم المقاصد التي ذكرها أبو زيد بمجلة الأزهر: مقاصد العبادت، ومن أهم مقاصد العبادات التي ذكرها أبو زيد مقاصد الصيام، فمن مقاصده:
“رحمة في الآخرة، وتتمثل في تولي الله بذاته العلية مجازاة ابن آدم عليها، وفي الأجر المضاعف الذي أخفى الله مقداره لخروجه عن دائرة الحصر وبعده عن لغة الأرقام، حين روى النبي عن ربه قوله: “قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ”… وهكذا تبدو رحمة الله جلية ظاهرة أضوأ من الشمس، وأوضح من فلق الصبح، وأبين من غرة النهار في فرضية الصيام وتشريعه، وفي إرادة الله الخير للعباد في معاشهم ومعادهم، في أبدانهم وأرواحهم، في عاجلهم وآجلهم من خلال فريضة واحدة هي فريضة الصيام”.
ومن مقاصد العبادات: مقاصد الستة أيام من شوال، ومن أهم مقاصدها كما ذكرها أبو زيد:
“إننا حين نتأمل هذا التتابع في العبادات –فرائض ونوافل- مع التداخل أيضًا؛ حيث يصوم المسلم، ويصلي، ويزكي في أيام واحدة- فإننا نقف على مدى الأثر الهائل الذي يحدثه الإسلام بهذا المنهج القويم في نفس المسلم؛ قربًا من الله، وضياء وجهٍ، وصفاء نفسٍ، وترشيد سلوك، وسموَّ ذوق، وبياضَ قلب، ونور وجدان. وكذلك نقف على مدى الاستيعاب الروحي والإيماني و”العبادي” الذي يحوطه الإسلام بالمسلم، ومدى قوة السياج الذي يحميه من الانحراف، ويمنعه من الوقوع في براثن المعاصي ومخالفة الإسلام”.
ومن مقاصد العبادات: مقاصد الحج، فيذكر أبو زيد أن منها:
“فمن هذه المقاصد التي شُرع الحج لها مقاصد تندرج تحت الإيمان وتزكية النفس، ففي كل شعيرة من شعائر الحج يبدو مقصد تحقيق التوحيد بارزًا وواضحًا بروزًا لا يحتاج إلى بيان، ووضوحًا لا غموض معه ولا لبس فيه. فالمسلم يخرج من بيته تاركًا أهله ووطنه وماله وتجارته مهاجرًا إلى الله، يرجو رحمته ويخشى عذابه، لا يعبد معه شيئًا، ولا يشرك به أحدًا، بل يتمحض التوحيد وإفراد الله بالعبودية هنا أتم ما يكون التمحُّض، فيا له من مشهد مهيب حين نرمق الوفود المنطلقة في البر والبحر والجو تجأر إلى الله تعالى بالدعاء والتهليل، والذكر والشكر والتمجيد في عالم ما أكثر التائهين فيه عن الله والمتمردين عليه، وما أكثر العابدين بغير ما أنزل الله وبغير ما شرع”.
المسألة الثانية: مقاصد المناسبات:
ويقصد الباحث بالمناسبات: المناسبات الإسلامية التي تمر على المسلم طوال العام.
ولقد كان للمقاصد عند أبو زيد دور واضح فيها، ويستطيع الباحث أن يبين ذلك بذكر بعض الأمثلة:
فبمناسبة العام الهجري لخّص أبو زيد المقاصد الشرعية للهجره في:
– حفظ تدين الأفراد.
– إقامة المجتمع الإسلامي.
– توسيع مجال الدعوة إلى الإسلام.
– إقامة دولة تحمي الإسلام وتدعو إليه.
– تحقيق الشهود الحضاري.
وتحدث أبو زيد عن الأبوة كمقصد من مقاصد المناسبات في ذكرى ميلاده (صلى الله عليه وسلم)، وكان مما قاله:
“وكثير من الناس يعلم الكثير عن حياة محمد “النبي”، لكنهم لا يعرفون إلا القليل عن محمد “الإنسان”، وربما ظنوا أن هيبة النبوة وقفت سدًا رادعًا بينه وبين الإنسانيات من المداعبة والملاعبة، والمرح والترح، والتبسم والبكاء…
ومن أبرز المجالات الإنسانية التي وجدتها في حياة المصطفى هو جانب الأبوة، وهو جانب إنساني بحت، وربما يتساءل إنسان: أتتكلم عن الأبوة وهذا شعور طبيعي وعاطفة جياشة عند كل مخلوق، ليس الآدميين فحسب، لكنها بلغت مداها عند أحنى الآباء، وأرأف الأجداد”.
وبعد ذكره لبعض الأمثلة لأبوة النبي (صلى الله عليه وسلم)، أكّد هذا المقصد بقوله:
“وبعد، فهذه صفحة مشرقة من الأبوة في حياة قدوة الدعاة (صلى الله عليه وسلم) جديرة أن يتأملها الآباء لا سيما حملة الدعوات وأصحاب الرسالات منهم، الذين ينشغلون بالدعوة عن أبنائهم وزوجاتهم وأهليهم، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا”.
ومن المناسبات التي ذكر أبو زيد مقاصدها: شهر رمضان، وهو شهر القرآن الكريم، فتحدث عن دلالات وواجبات نزول القرآن الكريم بقوله:
“لنزول القرآن في شهر رمضان دلالات ومعان عقديةٌ ونفسية وروحانية وأخلاقية وسلوكية، تحدث عنها علماؤنا حديثًا ممتعًا في تناولهم لتفسير سورة القدر؛ فهذا الإمام محمد أبو زهرة يقرر أن “اختصاص شهر رمضان بالصوم؛ لأنه نزل فيه القرآن، فيه تذكير بمبدأ الوحي، واحتفال بأكبر خير نزل في الأرض وهو بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) فإنه نور الأرض وإشراقها، والاحتفال به احتفال بنعمة الهداية، ونعمة الخروج من الظلمات إلى النور، ونعمة إرسال نبي الرحمة…”.
وذكر أبو زيد واجبات هذا التشريف ومقتضياته في:
– تعظيم أيام الله.
– تكبير الله وحمده وشكره على هذه النعم وتلك المنن التي لا توجد لأمة من الأمم في كتاب من الكتب، ولا تشريع من التشريعات.
– عبادة الله تعالى، والدعاء هو جوهرها وروحها، بل هو هي.
– الاستجابة لأمر الله تعالى والإيمان به الذي يترتب عليه حصول الرشاد والفلاح في الدنيا والآخرة.
– الاستجابة لأمر الله تعالى وأمر رسوله (صلى الله عليه وسلم) بقيام ليلة القدر التي شرفنا الله تعالى بإنزال القرآن فيها….
المسألة الثالثة: مقاصد المرأة:
فقد تكلّم أبو زيد عن هذه المقاصد في أكثر من موضع، فقد تحدث عن ضوابط مشاركة المرأة في العمل العام، وقد حددها في الآتي:
– أن يكون العمل في ذاته مشروعًا؛ بمعنى ألا يكون عملها حرامًا في نفسه أو مفضيًا إلى ارتكاب حرام.
– أن تلتزم آداب المرأة المسلمة إذا خرجت من بيتها في الزي والمشي والكلام والحركة.
– ألا يكون عملها على حساب واجبات أخرى لا يجوز لها إهمالها، كواجبها نحو زوجها وأولادها.
وقد بيّن أبو زيد الآثار السلبية للمشاركة دون ضوابط في:
– تدمير الأسرة المسلمة، وذلك إن كانت حاضنة لأطفال صغار، أو حدث بين عملها وبين بيتها أو زوجها تعارض .
– تفشي ظاهرة التحرش بالنساء، وانتشار الزنى …
– مخالفة المرأة لأمر الله حين تخرج رغمًا عن زوجها، أو تمارس عملا حرمه الشرع ….
– فقدان المرأة لأنوثتها ومناقضتها لفطرتها حين تمارس أعمالا لا تتناسب وطبيعتها ….
– تهديد الأمن الاجتماعي في المجتمع، وزعزعة الاستقرار؛ لانتشار الجريمة ….
وأكد أبو زيد على ضرورة الخطاب المتوازن في قضايا المرأة، فبعد أن بيّن أن الخطاب في قضايا المرأة يقع بين الإفراط والتفريط، بيّن مجموعة من الأمور تزكي خطاب الاعتدال وهي:
– الاستفتاء المباشر من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة …
– الاطلاع الواسع على تاريخنا المشرف في قضايا المرأة، لا سيما في عهد الرسالة، عهد النبوة، الذي باشره الوحي ….
– الاطلاع على نماذج النساء وسيرهن في عهود الخلفاء الراشدين …
– محاربة العادات الراكدة التي ورثتها مجتمعاتنا عبر العصور دون تمحيص لها …
– ليس كل تقليد للنموذج الغربي فيه الفلاح والتحرر، لكن نخضع هذه الثقافة لنصوصنا ومقرراتنا العامة ….
– الرجوع في قضايا المرأة إلى العلماء الثقات، الذين يفهمون الشرع في ضوء مقاصده ومبادئه…
وتحدث وصفي أبو زيد عن قضية مشاركة المرأة في العمل السياسي، وهي من أخطر القضايا المثارة في المجتمع، فبين أهم مقاصدها في الآتي:
مقاصد تعود على المرأة نفسها، ومن أهم هذه المقاصد:
– تنمية قدرات المرأة الاجتماعية والسياسية في التعامل مع الناس والأشياء في ضوء ضوابط الشرع.
– توسيع مدارك وأفق المرأة المعرفية من خلال متابعتها لما يجري في المجتمع بشكل واقعي وملموس، ومن خلال مشاركاتها الاجتماعية في الأندية والجماعات والمنظمات العاملة، وما تلقى من رجال ونساء ذوي خبرة في ساحة العمل السياسي ….
– تنمية ثقافة المرأة العامة من خلال مشاركتها في الفعاليات الثقافية.
ومقاصد تعود على أسرتها، ومن هذه المقاصد:
– إعالة أبويها وأخوتها وإخوانها إن لم يكن لهم عائل أو دخل يكفي.
– تعليم الأبناء كيف يمارسون الحياة العملية بناء على خبرتها داخل البيت وخارجه.
– المشاركة الفاعلة والجادة للزوج والأقارب في الشورى والآراء السديدة من خلال الخبرة العملية.
ومقاصد تعود على المجتمع، ومن هذه المقاصد:
– تحقيق حد الكفاية للمجتمع من فروض الكفايات في المجالات التشريعية والسياسية التي تخص المرأة.
– استفادة المجتمع من طاقات وإبداعات المرأة لا سيما فيما لا يحسنه الرجال.
– تحقيق النهضة الشاملة والكاملة بمساهمة النساء مع الرجال في هذا المجال، فللرجال ملكات وطاقات، وللنساء ملكات وقدرات، وبتحصيلها جميعًا يحدث التكامل والتفاعل، فتتحقق النهضة الشاملة.
ومقاصد تعود على الأمة، ومن أهم هذه المقاصد:
– أن يتحقق لها مجدها، فمجد الأمة -كما يقول الأستاذ البهي الخولي في كثرة الأيدي العاملة، والمرأة نصف المجتمع، وليس مما يتحقق به هذا المجد أن يكون نصف المجتمع عاطلا.
المسألة الرابعة: مقاصد الواقع المعاصر:
ويقصد الباحث بمقاصد الواقع المعاصر: المقاصد التي استطاع أبو زيد أن يقدّم بها رؤية للواقع المعاصر، وما يحدث فيه من أحداث ووقائع رأى أبو زيد أن المقاصد لها دور في تجليتها وبيانها.
ومن أهم هذه المقاصد:
– تفعيل المقاصد في المد الثوري الذي برز في الأمة، وما تصالح عليه “بثورات الربيع العربي”.
– استخدام المقاصد في تجلية حرية الاعتقاد في التشريع الإسلامي.
– استخدام المقاصد في تجديد الفقه الإسلامي.
– استخدام المقاصد للتقريب بين المذاهب المختلفة.
– استخدام المقاصد لتجلية صورة المرأة في الشريعة الإسلامية.
– استخدام المقاصد في حل المشكلات الاقتصادية.
– استخدام المقاصد في معالجة الاستبداد ومقاومة الطغاة.
هكذا استخدم أبو زيد المقاصد الشرعية في مجالات كثيرة من مجالات الحياة، وذلك يدل على مرونة الشريعة الإسلامية، وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)