نبي الله ـ كما هو معلوم ـ مؤيد بالوحي معصوم . فلو أنه لم يستشر قط في حياته أحدا ، لكان الأمر واضحا لا غبار عليه . ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يتصرف ليَسُن لأمته، وليرسم النهج للأئمة من بعده . فلذلك كان يستشير ويكثر الاستشارة ، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه : ( ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه و سلم )[10[
لكن هل كان يلتزم ـ في مشاوراته مع الصحابة ـ الأخذ برأي أكثريتهم ، أم يُمضي ما يراه حتى لوكان على خلاف مستشاريه ؟
الحقيقة أنه لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة في أمر، ثم خالف رأيهم أو رأي أكثريتهم فيه ، بل الثابت هو العكس . وفيما يلي نماذج من ذلك
في غزوة بدر:
لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن قريشا قد تجهزت لقتال المسلمين، استشار الصحابة في شأن الاستعداد لملاقاة قريش ومناجزتها . فتكلم أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو، وكلهم أيدوا الرأي النبوي لمواجهة قريش ، ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا كلهم من المهاجرين، وكان عليه السلام يريد أساسا معرفة رأي الأنصار، فاستمر يقول: "أشيروا علي أيها الناس". قال ابن إسحاق: "وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس".([11]) أي أكثريتهم.
فقد كان عيله السلام ، حريصا على معرفة رأي الأكثرية ، ومدى استعدادهم للقتال ضد قريش. فلذلك أراد أن يسمع رأي زعماء الأنصار بالذات . فلما علموا هذا وفهموه ، قاموا فأعلنوا تأييدهم وجاهزيتهم للمعركة . فلما ضمن ذلك وتأكد منه، بتصريح سادتهم وزعمائهم أمر بالانطلاق قائلاً: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم".([12[
وفي غزوة أُحُد :
لما علم المسلمون بتجهز قريش وتحركها لمقاتلتهم بالمدينة ، استشار عليه السلام عموم الصحابة ، فكان رأي أكثرهم الخروج لمناجزة المشركين خارج المدينة ، حتى لا يظن الأعداء وعموم العرب ، أن المسلمين ضعفوا وجبنوا . وكان رأي النبي وجماعةٌ من شيوخ الصحابه ، هو الـمُـكث في المدينة ، فإذا دخلها المشركون سهُل على جميع المسلمين الانخراط في قتالهم ، ومع ذلك فقد أخذ عليه الصلاة والسلام ، برأي الأكثرية المخالفة لرأيه.
وفي غزوة الأحزاب
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن تحالف المشركين واليهود والمنافقين ، وحصارهم للمدينة ، قد أوقع المسلمين في خطر ماحق ، فكر في خطة يكسر بها هذا الحصار المطبق ، فلجأ إلى أضعف حلقاته ، قبيلة غطفان ، ففاوض زعماءهم ، وعرض عليهم الخروج من هذ الحلف مقابل ثلث ثمار المدينة لتلك السنة ، فقبلوا . لكنه اشترط مشاورة أهل الثمار، وهم الأنصار أهل المدينة . فلما عرض الأمر على زعماء الأنصار، سألوه إن كان هذا وحيا من الله فيطيعوه ، أو هو شيئ يحبه النبي ويرغب فيه فيلبوا رغبته ، أم هو شيئ يصنعه رفقا بهم وتخفيفا عليهم ؟ فلما أخبرهم أنه اجتهاد منه ليخفف عنهم وطأة الحصار ، قالوا ـ على لسان سعد بن معاذ ـ : "يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنت وذاك" فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا" ([13 ([
لقد كان بإمكان النبي الأمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع هذه الحالات ، وغيرها مما لم أذكره ، أن يستعمل صلاحيته النبوية ، أو صلاحيته القيادية ، فينفذ ما يراه بمفرده ، أو ما يراه وقلة من الصحابة ، ولكنه لم يكن يفعل. وإن في ذلك لمغزى ومنهجا ، يجب فهمه واتباعه