الرابط المختصر :
د.فايز النوبي
لقد سألت عن عظيم لقد سألتَ عن عظيمٍ .
عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قالَ:
قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الجَنَّةَ ويُباعِدُني عَنِ النَّارِ.
قالَ : لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ؛
تَعْبُدُ اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ , وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ.
ثمَّ قَالَ : أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ .
ثُمَّ تَلاَ : تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ.. حَتى بَلَغَ : يَعْمَلُونَ .
ثُمَّ قالَ : أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟.
قُلْتُ : بَلى يَا رسولَ اللهِ .
قالَ : رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ .
ثمَّ قالَ : أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ.
قلتُ : بلى يا رسولَ اللهِ . فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وقالَ : كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا .
قُلْتُ : يا نَبِيَّ اللهِ ، وإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ به؟
فقالَ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أو قالَ : عَلَى مَنَاخِرِهِم إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ .
رواه التِّرمذيُّ , وقالَ : حديثٌ حسنٌ صَحيح . راوي الحديث وهو الذي سأل النبيَ -- صلى الله عليه وسلم -- هو الصحابيُ الجليلُ معاذُ بنُ جبلٍ بن عمرو بن أَوسِ الأنْصاري الخَزْرجي المَدني البَدري -- رضي الله عنه -- وكُنيتُه : أبو عبد الرحمن أَسلمَ شاباً صغيراً كان ابن ثماني عشرة سنة وقد شهد بَيعةَ العَقَبة مع السبعين من الأنصارِ وشهد بدراً وأُحُداً والخندق والمشاهد كلها مع رسولِ الله -- صلى الله عليه وسلم -- وهو أعلمُ الصحابةِ بالحلالِ والحرامِ وأحدُ السِتّةِ الذين جَمعوا القرآن على عهد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حتى قال فيه الحبيبب -- صلى الله عليه وسلم -- : (خذوا القرآن من أربعةٍ من ابنِ مسعُود وأُبَي -- بن كعب -- ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى أبي حذيفة) وقال فيه عمرُ : لو أدركتُ مُعاذاً ثم وَلَّيتُه ثُمَ لقِيتُ ربي فقال : من استخلفتَ على أُمةِ محمدٍ ؟ لقلتُ : سمعتُ نبيَكَ وعبدَك يقول : لا يأتي معاذُ بنُ جبلٍ بين يَديِّ العُلماءِ بِرَتْوة ) والرتوة : رميةُ سهمٍ وقيل : مُدُ البصر . وقد بعثه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بعد غزوة تبوك إلى اليمن مُعلما ومُرشدا وقاضيا فبقِيَ فيها إلى أن تُوفِي رسولُ الله -- صلى الله عليه وسلم -- ووُلِي أبوبكرٍ ، فعاد إلى المدينة ، ثم كان مع أبي عبيدة عامر بن الجراح في فتوح الشام ، ولما أُصيب أبو عبيدة في طاعونِ عَمْواس استخلف معاذا وأقره عمر ، فمات في ذلك العام ، كان معاذا رضي الله عنه : من أجمل الناس وأحسنِهم وجها ، وأسمحِهم كَفاً ، وقد رَوى عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- مائة وسبعة وخمسين حديثا ، تُوفِي -- رضي الله عنه -- عقيما بناحية الأردن ، ودفن بالقصر المعيني بمنطقة الغور ، سنة ثماني عشرة - رضي الله عنه -
والحديث أصلٌ عظيم وقاعدةٌ متينةٌ من قواعد الدين ، وقد جمع أصولا عديدة وفوائد جمة ، وبين فيه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الأعمالَ الصالحةِ التي تكونُ سبباً لبلوغِ صاحِبها الجنةَ ونجاتهِ من النار ، وهو أمرٌ عظيمُ الأهميةِ ؛ لأن الله -- عزوجل -- ما أرسل رُسلَهُ وأنزل كتبَه ؛ إلا لإرشاد خلقه لعبادته والقيام بحقه ، وأداءِ الأعمال الصالحة التي تكون سببا في دخولهم الحنة وإبعادهم عن النار ، وهذا الحديث الشريف : أشبه مايكونُ بندوة أوحوار بين أستاذ وتلميذ ، بدأ التلميذ وهو معاذ بسؤال أستاذه -- وأستاذ الوجود صلى الله عليه وسلم -- والذي أفاض في الإجابة والبيان والتفصيل ، وكان من دَأْبِه وسُنته -- صلى الله عليه وسلم -- أنه يُفَصِلُ للسائلِ أحيانا : أمورا لم ترد في سؤاله لكنها تتعلق بالموضوع أو المسألة المطروحة ، فيقول معاذ : أخبرني عن عمل يُدخلني الجنة ويُبعدني عن النار ، أي : ارشدني ودُلَّني على عمل جامع شامل لأعمال القلب والجوارح ، حتى أتمسك به وأسير عليه ؛ ليكون سببا في وصولي إلى الجنة ، ونجاتي من النار فيجيب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قائلا : لقد سألتَ عن عظيمٍ ، والعبارةُ تفيدُ تعظيم السؤال والجواب ، لأن عِظَم الشئِ بِعِظَمِ الأسبابِ المُوصلةِ إليهِ ، فدخول الجنة والبعد عن النار أمرٌ عظيمٌ ، والذي يُوَصِل لذلك أمرٌ عظيمٌ كذلك ، وإنّه ليسيرٌ على من يَسَّره الله تعالى إليه ، هذا يفيدُ : بأنّ العملَ الذي يكونُ سبباً لدخول الجنة والإبعاد عن النار أمره يسير وهين على من سهله الله عليه ، ومَنَّ عليه بالمحبةِ والإِعَانةِ والتوفيقِ والسَدادِ ، والرشادِ ، وتَهيئَةِ الأسبابِ ، وشرحِ الصدرِ فالهداية والتوفيق من الله أولاً ، ولو لم يَمُنَّ عليك بالهداية مااهتديت ولو لم يُوفقكْ ماوُفَقتْ لطاعتهِ ، فلولا طَلبهُ -- عزوجل -- لك ما طلبتَه فأنت له طالبٌ وبه مطلوبٌ .
ثم شرع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في بيان وتفصيلِ تلك الأعمال المُوصلةِ لطلبِ معاذٍ ، وهو دخول الجنة والبعدِ عن النار فقال له : تعبدُ اللهَ ولاتشركْ به شيئا ، والعبادة هي : أمرٌ جامعٌ لكلِ مايحبه الله -- عزوجل -- ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، والبُعد والبراءةِ مما يخالف ذلك ، فهي تعني : القيام بما حض عليه المولى -- عز وجل-- وأمر ، والبعد عن ما نهى عنه وزجر ، امتثالا لأمره ، واجتنابا لنهيه مخلصا له ومُتَبِعاً لِهَدْي نبيهِ -- صلى الله عليه وسلم -- .
وتقيم الصلاة أي : تأتي بها تامة كاملة مستقيمةَ الأركانِ والواجباتِ والشروطِ ، فهي : عماد الدين الذي لا يقوم إلا به ، من أقامها أقام دينَه ومن هدمها هدم دينه ، وعرَّض نفسَه لسخطِ الله -- عزوجل-- وانتقامهِ .
ثم قال : وتُؤَدي الزكاةَ الواجبة المفروضة ، بأن : تدفعها وتُؤَديها لمستحقيها متى ملكت النصاب ، وحال عليه الحول ،
وتصوم رمضان شهر البر والقرآن ، وشهر الخيرات والإحسان ، بأن تُمسِك فيه عن المفطرات تعبدا لله -- عزوجل -- من طلوعِ الفجرِ إلى غروب الشمس ، وتَحُج البيت الحرام -- مرة في العمر إن استطعت إليه سبيلا --
ثم زاده النبي-- صلى الله عليه وسلم -- تفصيلا وبيانا ، بعد أن ذَكرَ له أصولَ الدين وأركان الإسلام وقواعده ، وتَدَرَج به في البيان والتوجيه والتعليم ، فقال له : ألا أَدُلك على أبوابِ الخير ؟ ) : وهي الطرق الموصلة إليه .
الصومُ جُنَّةٌ والمراد هنا -- والله أعلم -- : صيام التطوع في غير رمضان ؛ لأنه تقدم الحديثُ عن صيام رمضان ، ومُراده الآن الإكثار من الصيام في غير رمضان ،
والجُنَّةُ تعني : الستر والوقاية ؛ لأن الصيام يقي صاحبه مما يُؤذيه من الشهوات والآثام ، ووقاية له كذلك من النيران ، والصدقةُ تطفئ الخطيئة والمراد بها كذلك : صدقة التطوع غير الزكاة ، فقد تقدم الحديثُ عن الزكاة المفروضة ، ومعنى تطفئ الخطيئة : أي تمحوها وتُذهِبها فلا يبقى لها أثر لقوله تعالى : (إن الحسنات يذهبن السيئات ) وقوله -- صلى الله عليه وسلم -- : (واتبع السيئة الحسنةَ تَمْحُها )
وقد فَصَّل أهلُ العلم في هذه المسألة ، فذكروا أن الصدقة : تمحو أثر الخطيئة إن كانت من الصغائر بحق الله -- عزوجل -- ، أما الكبيرة فلا يمحوها إلا التوبة ، وحق الآدمي لايمحوه إلا استرضاء صاحبه وتطيب خاطره ، ورد حقوقه إليه ، كما يُطفئ الماءُ النارَ ، فكما أن إطفاء الماءِ للنارِ لايُبْقِي من النار شيئا ، كذلك الصدقة لاتُبْقِي من الذنوب شيئا ، وصلاة الرجل في جوف الليل أي : وسطه أو آخره لقوله -- صلى الله عليه وسلم -- في حديث آخر عندما سُئِل : أيُ الدعاءِ أسمع قال : جوف الليل الآخر ، والمعنى هنا : أن صلاة الإنسان في الليل باب من أبواب البِر ، وأنها تُطْفئ الخطيئةَ أيضاً كالصدقةِ وقيامِ الليل يكون من الرجال والنساء ، وخصَ الرجلَ بالذكرِ من باب تغليب الذكورة لغةً ، أو لأن السائل ذَكرٌ ، وإلا فالحديث ينطبق على الرجل والمرأة على السواء ،
ثم تلا -- صلى الله عليه وسلم -- قول الله -- عزوجل -- في سورة السجدة : ( تتجافى جنوبُهم عن المضاجِع يَدْعون ربَهم خوفا وطمعا ، وممارزقناهم ينفقون ، فلا تعلمُ نفْسٌ ماأُخفِي لهم من قرة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون ، ولأن الصلاةَ في جوفِ الليلِ من أعظمِ أبوابِ الخيرِ رَتَّبَ عليها حُسَنَ الجزاءِ ، فهي : دأْبُ الصالحين وشعارهم ومَقْرُبةٌ إلى الله تعالى ومَكفرةٌ للسيئاتِ ومَنْهاةٌ عن الإثمِ ومطردةٌ للداءِ من الجسدِ ،
ثم قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ألا أُخبِرك برأسِ الأمرِ وعمودهِ وذِروةِ سنامهِ قلت : بلى يارسول الله يعني : دلني وأخبرني قال : رأسُ الأمرِ الإسلام ويعني به هنا : التوحيد والشهادتان وسائر الأركان ، وعموده الصلاة أي : المفروضة وخصها هنا لأهميتها وجعلها عمودَ الإسلامِ لأن العمودَ رَكيزةٌ الشئِ ، والذي يُقام عليه ولايثبت بناءٌ في العادةِ بغير عمود ، ولأن الصلاة عمادُ الدين وقِوامِه الذي يقوم به ، كما أن العمود يرفع البيت ويُهيئُه للإنتفاع به ، فكذلك الصلاة ترفع الدين وتُطهره ، وذروة سنامه الجهاد أي : أعلى مافي الإسلام وارفعه الجهاد لأنّ به إعلاء كلمة الله -- عزوجل -- ونصرة الدين والدفاع عنه وحمايته ، وبه يظهر الإسلامُ ويعلو شأنه على سائرِ الملل ، ولذلك كانت للجهاد منزلة ومكانة ليست لغيرة من العبادات ، فهو أعلاها بهذا الإعتبارِ ، وكما قيل : لاشئ من معالم الإسلام أشهر ولا أظهر من الجهاد فهو كذروة السنام التي لاشئ في البعير أعلى منه ، وعليه يقع بصر الناظرين من بُعدٍ ، والحكمة في تشبيهه -- صلى الله عليه وسلم -- مكانة الجهاد بِذروةِ سنام البعير : لأنها خيار أموالهم ، ومن ثَمّ كانوا يُشَبِهون بها رؤساءهم
ثم قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ألا أُخبِرك بملاكِ ذلك أي : بجماع ذلك الأمر كله فقلت : بلى يارسول الله يعني : أخبرني ، فأخذ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بلسان نفسه بيدهِ ، والحكمة في ذلك : المبالغة في الزجر وقال : كُفَّ عليك هذا أي : لاتتكلم بما لايعنيك وكَفُ اللسانِ عن المحارم سلامةٌ وأمانٌ ، والسلامة عند العقلاء مقدمة على الغنيمة ، وقد جاء أيضا في حديث آخر -- قوله صلى الله عليه وسلم -- : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) .
فقلت : يانبي الله أي : قال معاذ : وإِنَّا لمؤاخذون بمانتكلم به، أي : إنا معاقبون بما نقول ، قال : ثكِلتك أمُك أي : فقدتك ، وهو دعاء عليه بالموت على ظاهره ، و ليس المراد به الدعاء على معاذ بالموت ، ولكنه حديثٌ بما جَرت عليه العادةُ عند العرب في الخطاب ، كتَرِبَت يداك ، ولا أُم لك ، ولا أب لك ، وأشباه ذلك .
وهل يكُبُ الناس في النار على وجوههم أو قال : على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ؟ فشبّه مايتكلم به الإنسان بالزرع المحصود بالمنجل ، وهو من بلاغته -- صلى الله عليه وسلم -- فكما أن المنجل يقطع الزرع ولايميز بين الرطب واليابس والجيد والردئ ، فكذلك اللسان عند كثير من الناس الذين يتكلمون بكل أنواع الكلام حسنا وقبيحا ، والمعنى لايكُبُ الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم ، من الكفر والقذف والسبِ والشتم والغيبةِ والنميمة والبهتان ونحوها ، وهذا الحكم وارد على الأغلب لأنك لو نظرت فلن تجد أحداً سَلِم لسانُه عن قالة السوء إلا نادرا ، والحديث يفيد حرص الصحابة الكرام على تعلمِ أعمال الخير ، وشدة إعتناء الصحابي الجليل معاذ بن جبل -- رضي الله عنه-- بالأعمال الصالحة ، والرغبة الشديدة في دخول الجنة والبعد عن النار ، وهذا ما ينبغي أن يحرص عليه كلُ مسلم ويفيدُ الحديث كذلك أن أهم الأعمال وأعظمها : توحيد الله وعبادته ، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان وحج البيت الحرام والإخلاص لله فيها ،
وأن الجهاد فيه علوُ الإسلام ورفعته ونَبّه الحديث كذلك على : حفظِ اللسانِ وبيان خطرهِ وآفتهِ
نسأل اللهَ -- عزوجل -- أن يُوفِقنا للهُدى والحقِ ويرزقنا الجنةَ ومايُقرِب إليها من قولٍ أو عملٍ ويُبعدنا عن النار ومايُقرِب إليها من قولٍ أو عملٍ وأن يُعِينَنا على ذكرهِ وشكرهِ وحسنِ عبادتهِ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الراجي عفو ربه .