معركة وادي المخازن.. يوم ارتفاع نجم الدولة السعدية ونصر المسلمين
د. علي محمَّد محمَّد الصَّلابيّ
إِنَّ من الأعمال العظيمة الَّتي قامت بها الدَّولة السَّعديَّة في زمن السُّلطان عبد الملك انتصارهم الرَّائع، والعظيم على نصارى البرتغال في معركة الملوك الثلاثة، والَّتي تسمَّى في كتب التَّاريخ: معركة القصر الكبير أو معركة وادي المخازن بتاريخ30 جمادى الآخرة 986هـ الموافق 4 آب (أغسطس) 1578م.
أسباب المعركة:
1 ـ أراد البرتغاليُّون أن يمحوا عن أنفسهم العار، والخزي الَّذي لحقهم بسبب ضربات المغاربة الموفَّقة، والتي جعلتهم ينسحبون من اسفى، وأزمور، وأصيلا، وغيرها في زمن يوحنا الثَّالث اب (1521 ـ 1557م).
2 ـ أراد ملك البرتغال الجديد «سبستيان بن يوحنا» أن يخوض حرباً مقدَّسةً ضدَّ المسلمين؛ حتّى يعلو شأنه بين ملوك أوربة، وزاد غروره بعد ما حقَّقه البرتغاليُّون من اكتشافاتٍ جغرافيَّةٍ جديدةٍ أراد أن يستفيد منها من أجل تطويق العالم الإِسلاميِّ، يدفعه في ذلك حقده على الإِسلام وأهله عموماً، وعلى المغرب خصوصاً، لقد جمع ذلك الملك بين الحقد الصَّليبي، والعقليَّة الاستعماريَّة ؛ الَّتي ترى: أنَّ يدها مطلقةٌ، في كل أرضٍ مسلمةٍ تعجز عن حماية نفسها من أيِّ خطرٍ خارجيٍّ من أيِّ جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى خطَّط لغزو واحتلال المغرب.
حشود النَّصارى (الجيش البرتغالي):
استطاع سبستيان أن يحشد من النَّصارى عشرات الألوف من الإسبان، والبرتغاليِّين، والطُّليان، والألمان، وجهَّز هذه الألوف بجميع الأسلحة الممكنة في زمنه، وجهَّز ألف مركبٍ لتحمل هؤلاء الجنود نحو المغرب. ووصلت قوات النَّصارى إِلى «طنجة» و«أصيلا» في عام 1578م.
وقال أبو عبد الله محمَّد العربي الفاسي في (مرآة المحاسن): إنَّ مجموعهم كان مئةً وعشرين ألفاً، وأقلُّ ما قيل في عددهم ثمانون ألف مقاتل.
كان مع الجيش البرتغالي: 20000 إسباني، 3000 ألماني، 7000 إيطالي... وغيرهم عددٌ كبير.. مع ألوف الخيل، وأكثر من أربعين مدفعاً.. وكلُّ هذه القوى البشريَّة والمادِّيَّة بقيادة الملك «سبستيان».
حشود المسلمين (الجيش المغربي):
كانت الصَّيحة من جنبات المغرب الأقصى: «أن اقصدوا وادي المخازن للجهاد في سبيل الله». والتقت جموع المغاربة حول قيادة عبد الملك المعتصم بالله، وسار أخوه أحمد المنصور بأهل فاس وما حولها، وكان اللقاء قرب محلَّة القصر الكبير.
وكان جيش المغاربة تعداده 40000 مجاهد يملكون تفوقاً في الخيل، ومدافعهم أربعة وثلاثون مدفعاً فقط، وكانت معنويّاتهم مرتفعةً جدّاً بسبب:
1 ـ أنَّهم ذاقوا حلاوة الانتصار على النَّصارى المحتلِّين، واستخلصوا من أيديهم ثغوراً كثيرةً كانت محاطـة بالأسوار العاليـة، والحصون المنيعـة، والخنادق العميقة.
2 ـ التفاف الشَّعب حول القيادة، والتحام القبائل، والطُّرق الصُّوفية، وأهل المدن، لأنَّ المعركة كانت حاسمةً في تاريخ الإِسلام، وفاصلةً في تاريخ المغرب.
أحداث المعركة:
أظهر عبد الملك المعتصم بالله، وأخوه أبو العبَّاس، والقادة العثمانيون عبقريةً فذةً في المعركة. لقد جعل عبد الملك المدفعية في المقدِّمة، ثمَّ صفوفاً للرُّماة المشاة، وجعل قيادته في القلب، وعلى المجنبتين رماةٌ فرسانٌ، والقوى الإِسلاميَّة المتطوعة، وجعل مجموعةً من الفرسان كقوةٍ احتياطيَّة لتنقضَّ في الوقت المناسب وهي في غاية الرّاحة لمطاردة فلول البرتغاليِّين، واستثمار النَّصر.
كان صباح الاثنين 30 جمادى الآخرة 986هـ/1578 يوماً مشهوداً في تاريخ المغرب، ويوماً خالداً في تاريخ الإِسلام، حيث وقف السُّلطان عبد الملك المعتصم بالله خطيباً في جيشه، مذكِّراً بوعد الله للصّادقين المجاهدين بالنَّصر:{وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠} [سورة الحج:40]. وبوجوب الثبات{يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحفا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدبَارَ } [سورة الأنفال:15]. وبضرورة الانتظام {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّا كَأَنَّهُم بُنيَٰن مَّرصُوص} [سورة الصف:4] .
وذكر أيضاً حقيقةً لا مراء فيها: إِن انتصرت الصَّليبيَّة اليوم؛ فلن تقوم للإِسلام بعدها قائمةٌ، ثمَّ قرئت آياتٌ كريمة من كتاب الله العزيز، فاشتاقت النُّفوس للشَّهادة.
وانطلقت عشرات الطَّلقات النَّارية من الطَّرفين كليهما إِيذاناً ببدء المعركة. وقام السُّلطان عبد الملك برد الهجوم الأوَّل منطلقاً كالسَّهم شاهراً سيفه يمهِّد الطَّريق لجنوده إِلى صفوف النَّصارى، وغالبه المرض الَّذي سايره من مراكش، ودخل خيمته وما هي إلا دقائق حتّى فاضت روحه في ساحة الفدا، لقد رفض أن يتخلَّف عن المعركة قائلاً: ومتى كان المرض يثني المسلمين عن الجهاد في سبيل الله.
وقاد أحمد المنصور مقدِّمة الجيش، وصدم مؤخرة الجيش البرتغالي، وأُوقدت النَّار في برود النَّصارى، وصدم المسلمون رماتهم، فتهالك قسمٌ منهم صرعى، وولَّى الباقون الأدبار قاصدين قنطرة نهر وادي المخازن، وأصبحت تلك القنطرة أثراً بعد عين، نسفها المسلمون بأمر سلطانهم، فارتموا بالنَّهر، فغرق من غرق، وأُسر من أُسر، وقُتل من قُتل، وصُرع سبستيان وألوف مِنْ حوله، ووقع المتوكِّل رمز الخيانة غريقاً في نهر وادي المخازن. واستمرَّت المعركة أربع ساعات وثلث السَّاعة، وكتب الله فيها النَّصر للإِسلام والمسلمين.
أسباب نصر وادي المخازن:
- القيادة الحكيمة الَّتي تمثَّلت في زعامة عبد الملك المعتصم بالله، وأخيه أبي العبَّاس، ولحاجبه المنصور، وظهور مجموعة من القادة المحنَّكين من أمثال أبي علي القوري، والحسن العلج، ومحمَّد أبي طيبة، وعلي بن موسى؛ الَّذي كان عاملاً على العرائش.
- التفاف الشَّعب المسلم المغربيُّ حول قيادته بسبب أبي المحاسن يوسف الفاسي، والَّذي استطاع أن يبعث روح الجهاد في القوى الشَّعبية.
- رغبة المسلمين في الذَّود عن دينهم، وعقيدتهم، وأعراضهم، والعمل على تضميد الجراح بسبب سقوط غرناطة، وضياع الأندلس، والانتقام من النَّصارى الَّذين عذَّبوا المسلمين المهاجرين، والَّذين تحت حكمهم في الأندلس.
- اشتراك خبراء من العثمانيِّين تميَّزوا بالمهارة في الرَّمي بالمدفعية، وشارك كذلك مجموعةٌ من الأندلسيِّين تميَّزوا بالرَّمي، والتَّصويب بدقَّةٍ ممّا جعل المدفعيَّة المغربيَّة تتفوَّق على المدفعية البرتغاليَّة النَّصرانيَّة.
- القدوة، والأسوة المثاليَّة الَّتي ضربها للنَّاس كلٌّ من عبد الملك، وأخيه أحمد المنصور، حيث شاركا بالفعل في القتال، فكان حالهما له أثرٌ أشدُّ في أتباعهم من قولهم.
- تفوُّق القوَّات المغربيَّة بالخيل، حيث استطاع الفرسان أن يستثمروا النَّصر، ويطوِّقوا النَّصارى المنهزمين، ومنعتهم خيلُ المسلمين الخفيفة الحركة من أيِّ فرصةٍ للفرار.
- استبداد سبستيان بالرَّأي، وعدم الأخذ بمشورة مستشاريه وكبار رجال دولته ممَّا جعل القلوب تتنافر.
- وعي الشَّعب المغربيِّ المسلم بخطورة الغزو النَّصراني البرتغاليِّ، واقتناعه بأنَّه جهادٌ في سبيل الله ضدَّ غزوٍ صليبيٍّ حاقدٍ.
- دعاء وتضرُّع المسلمين لله بإِنزال النَّصر عليهم، وخذل، وهزيمة أعدائهم، وغير ذلك من الأسباب.
نتائج المعركة:
- أصبح سلطان المغرب بعد عبد الملك أحمد المنصور بالله الملقَّب بالذَّهبي، وبويع بعد الفراغ من القتال بميدان المعركة، وذلك يوم الاثنين 30 جمادى الآخرة سنة ستٍّ وثمانين وتسعمئة للهجرة.
- وصلت أنباء الانتصار بواسطة رسل السُّلطان أحمد الذَّهبي إِلى مقرِّ السلطنة العثمانيَّة، وفي زمن السُّلطان مراد خان الثَّالث، وإِلى سائر ممالك الإِسلام المجاورة للمغرب، وغيرها، وحلَّ السُّرور بالمسلمين، وعمَّ السَّعد في ديارهم، ووردت الرَّسائل من سائر الأقطار مهنِّئين ومباركين للشَّعب المغربيِّ نصرهم العظيم.
- ارتفع نجم الدَّولة السَّعدية في آفاق العالم، وأصبحت دول أوربة تخطب ودَّها، واضطرَّ ملك البرتغال الجديد، وملك إسبانيا أن يرسلوا وفوداً محمَّلةً بالهدايا الثَّمينة. ثمَّ قَدِمَتْ رسل السُّلطان العثماني مهنِّئةً، ومباركة، ومعهم هداياهم الثَّمينة، وبعدها رسل ملك فرنسا، وأصبحت الوفود (تصبح، وتمسي على أعتاب تلك القصور).
- سقط نجم نصارى البرتغال في بحار المغرب، واضطربت دولتهم، وضعفت شوكتهم، وتهاوت قوَّتهم.
- مات في تلك المعركة ثلاثة ملوكٍ، صليبيٌّ حاقدٌ «سبستيان» ملك البرتغال، وملكٌ مخلوعٌ خائنٌ «محمَّد المتوكِّل» ومجاهدٌ شهيدٌ «عبد الملك المعتصم بالله».
- سارع البرتغاليُّون النَّصارى بفكاك أسراهم، ودفعوا أموالاً طائلةً للدَّولة السَّعديَّة.
- سادت فترة هدوءٍ، ورخاءٍ، وبناءٍ، وازدهارٍ في العلوم، والفنون، والصِّناعات في بلاد المغرب.
- حدث تحوُّلٌ جذريٌّ في التَّفكير، والتَّخطيط على مستوى أوربة، حيث رأوا أهميَّة الغزو الفكري لبلاد المسلمين؛ لأنَّ سياسة الحديد والنَّار تحطَّمت أمام إِرادة الشُّعوب الإِسلاميَّة في المشرق والمغرب.
مراجع البحث:
- د. علي محمّد الصلابي. الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص (210: 217).
- د. شوقي أبو خليل، وادي المخازن - معركة الملوك الثلاثة - القصر الكبير، دار الفكر المعاصر، بيروت - دار الفكر، دمشق، 1988م، ص (45 : 76).