#الإيمان والحرية في دعوة أولي العزم 3
الدكتورة ليلى محمد بلخير (عضو الاتحاد)
الإيمان ما وقر في القلب وصدقت به الجوارح وظهر في سمت الإنسان وطريقته في الحياة
لا ينسجم مع العنف ولا مع الإكراه، ومن ثمة كان دور الرسل عليهم السلام لا يبتعد عن دور صاحب البذر الذي من شأنه الاطمئنان على استقرار البذور النفيسة في الجوانح، حتى تخرج العود الأخضر اليانع، وتزهر وتثمر في كل حين، هم الأئمة الرواد في التربية والجهاد بالحكمة، إذا عرفنا أن مصدر الدين واحد يعود كله لله الواحد فالقوانين والسنن مستمرة وفق نظام علائقي منسجم وفائق الدقة.
وبطبيعة الحال ما دامت القوانين والسنن المطردة، ومستمرة ومرتبطة بإرادة الله، فالسؤال الذي يطرح نفسه، أين مجال الحرية الإنسانية من السنن الإلهية؟! وإذا سلمنا بحكم السنن والقوانين وهيمنتها على حرية الاختيار، فإن نقض الحرية الإنسانية معناه نقض لمهمة الرسل في التبليغ؟ ونقض للهدف الذي أرسلوا من أجله {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [هود:15].
لأن هذا الشأن الجليل المؤثر في حركة التاريخ، إرسال الرسل، أكبر مظهر لتقدير حرية الإنسان، بإعطائه فرصا سخية للبناء الذاتي والاجتماعي، والإيمان حركة تغيير شاملة وعلى كل المستويات، ومن ثم كان إرسال الرسل لتوجيه وقيادة هذه الحركة نحو البناء الذاتي والاجتماعي
هل هيمنة السنن وإطرادها حجر على الحرية الإنسانية؟! أم أنها الصمام الضابط للحفاظ على مقوماتها، لتقوم بمهمتها المسؤولة فهما وتطبيقا؟
والجواب نحاول استخلاصه من النماذج القصصية في سورة الأنبياء للوصول إلى جمالية التناسق بين السنن الإلهية والحرية الإنسانية.
تستهل المنظومة القصصية بمحاورة المشركين وطلب من الرسول الإتيان بالدليل على دعواهم{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }[الأنبياء:25] وفيه كشف للمعارضين بغير علم، وفضح لمن يعبد القديم لقدمه حتى وهو يصدم المنطق والواقع.
ثم تتسق النماذج القصصية لتعزيز هذا الموقف وتأكيد علم الله الواسع، وإحاطته بأحوال الأمم السالفة، وقصور علم الإنسان الذي يجد حجة يبرز بها انصرافه عن عبادة الله الواحد سوى اتباع ما يعبد الآباء وفي قصة موسى يختص الخطاب المتقين بالذكر، وهم المتحررين بإيمانهم من الخوف من التغيير، بعد استقانهم بالله الواحد، وتنتهي القصة بتوظيف أسلوب المحاجة {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}[الأنبياء:50] وما فيه من دلالة جمالية بالغة القيمة على بعث روح التفكير الحر، فيعرف أسلوب المحاجة تميزا جماليا على المستوى البنائي للمنظومة القصصية في سورة الأنبياء من خلال الاتساع السردي وما يحمل من تفصيلات.
هذا التميز الجمالي يظهر في حسن توظيفه لحدث تحطيم الأصنام لإثراء وإغناء أسلوب المحاجة بالانتقال به من قوة المنطق إلى منطق القوة، ومن المحاجة النظرية إلى المحاجة العملية، وذلك كله يندرج في إطار الدعوة إلى التحرر من الموروثات التقليدية بتحطيم الحواجز الوهمية.
وتتسق بنائيا قصة نوح عليه السلام، مع خاتمة قصة إبراهيم عليه السلام {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ }[الأنبياء:76/77]، وفيه أيضا تظهر هيمنة السنن الإلهية في إنجاء نوح عليه السلام، والمؤمنين معه، وإغراق المكذبين لمناهضتهم لحرية الآخرين في العقيدة.
ويحتفل النص السردي بعرض جمالية التناسق السنني دون اعتبار للترتيب الزمني، وينتهي بنا إلى النموذج المتفرد في قصة عيسى عليه السلام في تجاوزه للسنن يبحكم كونه في شخصه آية لا نظير لها، ولا يمكن أن تكرر لأن الله تعالى شاء أن يجعل عيسى عليه السلام معجزة تدل على قدرته، والذين انحرفوا بفهمهم لا برهان لهم، ولا أساس لزعمهم.
وتختم المنظومة القصصية على نسق ما بدأت به تأكيدا على حرية الاختيار بعد عرض جمالية التناسق البنائي للمنظومة القصصية، وعرض جمالية التناسق السنني للمنظومة القصصية
تذكير بالمهمة الرسالية المتمثلة في التبليغ والدعوة وهي القاسم المشترك بين الأنبياء، وباستشارة العقل والوجدان معا للاقتناع الحر النزيه {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}[الأنبياء: 108].
ويتسق مع ما جاء بداية في إثراء أسلوب المحاجة وتقرير مبدأ الحوار {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24] وبعد قرعهم بالحجج الدامغة لعرض المواقف المتحركة في نسق المنظومة القصصية في القرآن، ينتهي بنا السياق إلى نقطة الفصل بتوظيف أسلوب الاستفهام وما له من دلالة بالغة على التلازم بين الحرية والإيمان “ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ” لأن العقيدة الصحيحة والتصور السليم لا يقوم إلا على الحرية في الاختيار عن يقين، الحرية من أعظم آثار الإيمان بالله، حيث يشكلان رباطا لا فصام له يظهر في الواقع سلوكيات واعية مسؤولة، والقرآن يتعامل مع الحرية كجزء لا يتجزأ من الإيمان .
ومن ذلك نخلص إلى أن الإيمان والحرية متلازمان في التصور وفي الواقع، ويشمل هذا التلازم حركة تغيرية على مستوى الوجدان ثم تنعكس آثارها على مستوى المكان
من الذات وإلى المجتمع… يتبع …