من كتاب السِّيرة النَّبويّة للدكتور علي محمّد محمّد الصّلابيّ
الحلقة التاسعة والعشرون: سنَّة الابتلاء والحكمة منها
الابتلاء - بصفةٍ عامَّةٍ - سنَّة الله في خلقه، وهذا واضحٌ في تقريرات القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 165]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [الكهف: 7]، وقال جلَّ شأنهُ: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [الإنسان: 2] .
وإنّ الابتلاء مرتبطٌ بالتَّمكين ارتباطاً وثيقاً؛ فلقد جرت سنَّة الله تعالى ألا يُمكِّن لأمَّةٍ إلا بعد أن تمرُّ بمراحل الاختبار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطَّيِّب، وهي سنَّةٌ جاريةٌ على الأمَّة الإسلاميَّة لا تتخلَّف، فقد شاء الله - تعالى - أن يبلي المؤمنين، ويختبرهم؛ ليمحِّص إيمانهم، ثمَّ يكون لهم التَّمكين في الأرض بعد ذلك، ولذلك جاء هذا المعنى على لسان الإمام الشَّافعيِّ رضي الله عنه حين سأله رجلٌ: أيُّهما أفضل للمرء، أنَّ يُمكَّن، أو يبتلى؟ فقال الإمام الشَّافعيُّ: لا يُمَكَّن حتَّى يبتلى، فإنَّ الله - تعالى - ابتلى نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمَّداً - صلوات الله، وسلامه عليهم أجمعين - فلـمَّا صبروا مكَّنهم؛ فلا يظنُّ أحدٌ أن يخلص من الألم ألبتَّة.
وابتلاء المؤمنين قبل التَّمكين أمرٌ حتميٌّ من أجل التَّمحيص؛ ليقوم بنيانهم بعد ذلك على تمكُّنٍ ورسوخ، وهذا الابتلاء للمؤمنين ابتلاء الرَّحمة، لا ابتلاء الغضب، وابتلاء الاختيار، لا مجرَّد الاختبار.
إنَّ طريق الابتلاء سنَّة الله في الدَّعوات، كما أنَّه الطريق إلى الجنَّة، وقد «حُفَّت الجنَّةُ بالْمكَارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهوات» [مسلم (2822) وأحمد (3/153) والترمذي (2559)] .
حكمة الابتلاء، وفوائده: للابتلاء حِكَمٌ كثيرة؛ من أهمِّها:
- تصفية النُّفوس:
جعل الله الابتلاء وسيلةً لتصفية نفوس النَّاس، ومعرفة المؤمن الصَّادق من المنافق الكاذب؛ وذلك لأنَّ المرء قد لا يتبيَّن في الرَّخاء، لكن يتبيَّن في الشِّدَّة. قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2] .
- تربية الجماعة المسلمة:
وفي هذا يقول سيِّد قطب - رحمه الله -: «ثمَّ إنَّه الطَّريق الَّذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة الَّتي تحمل هذه الدَّعوة، وتنهض بتكاليفها؛ طريق التربية لهذه الجماعة، وآخراج مكنوناتها من الخير، والقوَّة، والاحتمال، وهو طريق المزاولة العمليَّة للتَّكاليف، والمعرفة الواقعيَّة لحقيقة النَّاس، وحقيقة الحياة؛ ذلك ليثبت على هذه الدَّعوة أصلبُ أصحابها عوداً، فهؤلاء هم الَّذين يصلحون لحملها - إذاً - بالصَّبر عليها، فهم عليها مؤتمنون».
- الكشف عن خبايا النُّفوس:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظِّلال: «والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوفٌ لعلم الله، مغيَّبٌ عن علم البشر، فيحاسب النَّاس - إذاً - على ما يقع من عملهم، لا على مجرَّد ما يعلمه سبحانه من أمرهم، وهو فضلٌ من الله من جانبٍ، وعدلٌ من جانبٍ، وتربيةٌ للنَّاس من جانبٍ، فلا يأخذون أحداً إلا بما استعلن من أمره، وبما حقَّقه فعله؛ فليسوا بأعلمَ من الله بحقيقة قلبه».
- الإعداد الحقيقيُّ لتحمُّل الأمانة:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظِّلال: «وما بالله - حاشا للهِ - أن يعذِّب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنَّه الإعداد الحقيقي لتحمُّل الأمانة، فهي في حاجةٍ إلى إعدادٍ خاصٍّ، لا يتمُّ إلا بالمعاناة العمليَّة للمشاقِّ، وإلا بالاستعلاء الحقيقيِّ على الشَّهوات، وإلا بالصَّبر الحقيقيِّ على الالام، وإلا بالثِّقة الحقيقيَّة في نصر الله وثوابه، على الرَّغم من طول الفتنة، وشدَّة الابتلاء. والنَّفس تصهرها الشَّدائد، فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذخورة، فتستيقظ وتتجمَّع، وتطرقها بعنف وشدَّةٍ، فيشتدُّ عودها، ويصلب ويُصقل، وكذلك تفعل الشَّدائد بالجماعات، فلا يبقى صامداً إلا أصلبها عوداً، وأقواها طبيعةً، وأشدُّها اتِّصالاً بالله، وثقةً فيما عنده من الحُسْنَيَيْن: النَّصر أو الشَّهادة، وهؤلاء هم الَّذي يُسلَّمون الرَّاية في النهاية مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار».
- معرفة حقيقة النَّفس:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظِّلال: «وذلك لكي يعرف أصحاب الدَّعوة حقيقتهم هم أنفسهم، وهم يزاولون الحياة، والجهاد مزاولةً عمليَّةً واقعيَّةً، ويعرفوا حقيقة النَّفس البشرَّية وخباياها، حقيقة الجماعات، والمجتمعات، وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم مع الشَّهوات في أنفسهم، وفي أنفس الناس، ويعرفون مداخل الشَّيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطَّريق ومسارب الضَّلال».
- معرفة قدر الدعوة:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظِّلال: «وذلك لكي تعزَّ هذه الدَّعوة عليهم، وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من جهدٍ وبلاءٍ، وبقدر ما يضحُّون في سبيلها من عزيزٍ، وغالٍ، فلا يفرِّطون فيها بعد ذلك مهما كانت الأحوال».
- الدِّعاية لها:
فصبر المؤمنين على الابتلاء دعوةٌ صامتةٌ لهذا الدِّين، وهي الَّتي تُدخِل النَّاس في دين الله، ولو وهنوا، أو استكانوا؛ لمَا استجاب لهم أحدٌ، لقد كان الفرد الواحد يأتي إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ يأتيه أمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يمضي إلى قومه، يدعوهم، ويصبر على تكذيبهم، وأذاهم، ويتابع طريقه؛ حتَّى يعود بقومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنرى ذلك في الصَّفحات القآدمة، إن شاء الله.
- جذب بعض العناصر القويَّة إليها:
أمام صمود المسلمين وتضحياتهم تتوق النُّفوس القويَّة إلى هذه العقيدة، ومن خلال الصَّلابة الإيمانيَّة تكبر عند هذه الشَّخصيات الدَّعوة، وحاملوها، فيسارعون إلى الإسلام دون تردُّدٍ، وأعظم الشَّخصيات الَّتي يعتزُّ بها الإسلام دخلت إلى هذا الدِّين من خلال هذا الطريق.
- رفع المنزلة والدَّرجة عند الله، وتكفير السَّيِّئات:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما يصيب المؤمنَ من شوكةٍ فما فوقها، إلا رفعه الله بها درجةً، أو حَطَّ عنه بها خطيئةً» [البخاري (6540) ومسلم (2572)].، فقد يكون للعبد درجةٌ عند الله تعالى لا يبلغها بعمله، فيبتليه الله تعالى حتَّى يرفَعه إليها، كما أنَّ الابتلاء طريقٌ لتكفير سيِّئات المسلم.
كما أنَّ للابتلاء فوائدَ عظيمةً؛ منها: معرفة عزِّ الرُّبوبية، وقهرها، ومعرفة ذلِّ العبودية، وكسرها، والإخلاص، والإنابة إلى الله، والإقبال عليه، والتَّضرُّع، والدُّعاء، والحلم عمَّن صدرت عنه المصيبة، والعفو عن صاحبها، والصَّبر عليها، والفرح بها لأجل فوائدها، والشُّكر عليها، ورحمة أهل البلاء، ومساعدتهم على بلواهم، ومعرفة قدر نعمة العافية، والشُّكر عليها، وما أعدَّه الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها، وغير ذلك من الفوائد، ومن أراد التوسُّع فليراجع كتاب فقه الابتلاء.
وقد تعرَّض النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأشكالٍ وأنواعٍ، وأصنافٍ متعدِّدةٍ من الابتلاء، كمحاولة قريش لإبعاد أبي طالب عن مناصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتشويه الدَّعوة، وإيذائه صلى الله عليه وسلم، وإيذاء أصحابه، وعرض المغريات، والمساومات لترك الدَّعوة، ومطالبته بجعل الصَّفا ذهباً، والاستعانة باليهود في مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والدِّعاية الإعلاميَّة في المواسم ضدَّ الدَّعوة، وشخص الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، والحصار الاقتصاديِّ الَّذي تعرَّض له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبنو هاشم، وبنو المطَّلب من قِبَل كفار مكَّة، والإيذاء الجسديِّ، وغير ذلك من أنواع الابتلاء، وسنبين في الصَّفحات القآدمة - بإذن الله تعالى - أساليب المشركين في محاربة الإسلام، وكيف تصدَّى لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكيف دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدَرَ سنَّة الابتلاء، بسنَّة الأسباب، وكيف تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سنَّة الأخذ بالأسباب، حتَّى أقام دولة الإسلام في المدينة.