ممالك النار في ميزان حقائق التاريخ... قراءة في ظروف وتفاصيل الدخول العثماني لمصر
د. علي محمد الصّلابيّ
لاشك أن قراءة التاريخ لم تعد عبر الكتب والمقالات أو المؤتمرات والمحاضرات فقط، فاليوم أصبحت الدراما ووسائل التواصل الاجتماعي رافداً مهماً في إنتاج التصورات التاريخية لدى الشعوب والأمم، وفي تاريخنا الإسلامي المعاصر هناك من يحاول من خلال مسلسل يتم إنتاجه وعرضه حالياً باسم " ممالك النار" تقديم صورة مغلوطة عن واحدة من أهم مراحل التاريخ العثماني، وهي الدخول العثماني للمنطقة العربية، وقد تعمد منتجو هذا المسلسل والقائمون عليه مخالفةَ الحقيقة وتحريف الوقائع، فمالوا إلى أهوائهم وخالفوا شرع الله وسنة رسوله الذي يأمر بالقسط وشهادة الحق حتى مع العدو، فقد قال الله تعالى: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".
وانطلاقاً من الالتزام بقوله تعالى: "وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ"، ومن شعورنا بالمسؤولية تجاه تاريخ أمتنا الإسلامية كان حقاً علينا أن نبين الوقائع والأحداث على حقيقتها، وذلك بدحض الأباطيل والأكاذيب التي تعمد البعض الترويج لها وعرضها على الناس. وبعيداً عن الدخول في أي سجالات عقيمة حول ما يقدمه مسلسل "ممالك النار" من مغالطات تاريخية مشحونة بأفكار وإيديولوجيات مقيتة، بعيدة كل البعد عن الواقع التاريخي، يأتي هذا المقال لسرد أحداث الدخول العثماني إلى البلاد العربية والصدام مع المماليك. فبعد أن تغلَّب السُّلطان سليم الأوَّل على الصَّفويِّين في شمال وغربي إِيران بدأ السُّلطان العثمانيُّ يستعدُّ للقضاء على دولة المماليك، ولقد ساهمت عدَّة أسباب في توجه العثمانيين لضمِّ الشَّام، ومصر منها:
1 ـ موقف المماليك العدائي من الدَّولة العثمانيَّة؛ حيث قام السُّلطان قانصوه الغوري (907 - 922هـ/1501 - 1516م) سلطان الدَّولة المملوكيَّة بالوقوف مع بعض الأمراء العثمانيِّين الفارِّين من وجه السُّلطان سليم، وكان في مقدِّمتهم الأمير أحمد أخو السُّلطان سليم، وأرادت السُّلطات المملوكيَّة أن تتَّخذ من وجود هؤلاء الأمراء لديها أداةً لإثارة مزيدٍ من المتاعب في وجه السُّلطان سليم، بالإضافة إلى الموقف السَّلبي للدَّولة المملوكية في وقوفها المعنوي مع الشَّاه إِسماعيل الصَّفوي، فهي لم تلتزم الحياد التَّامَّ بين العثمانيِّين، والصَّفويِّين، ولم تتَّخذ موقفاً عدائيَّاً صريحاً من السُّلطان سليم.
2 ـ الخلاف على الحدود بين الدَّولتين في طرسوس وفي المنطقة الواقعة بين الطَّرف الجنوبي الشَّرقي لآسيا الصُّغرى، وبين شمالي الشَّام؛ فقد تناثرت في هذه المنطقة إِماراتٌ، وقبائلُ تأرجحت في ولائها بين الدَّولة العثمانيَّة، ودولة المماليك، وكان هذا التأرجح مبعث اضطرابٍ في العلاقات بين الدَّولتين، ومصدر نزاعٍ مستمرٍّ، وأراد السُّلطان سليم الأوَّل بادئ الأمر أن يحسم مسألة الحدود بالسَّيطرة التامَّة على منطقتها، وسكَّانها.
3 ـ تفشِّي ظلم الدَّولة المملوكيَّة بين النَّاس، ورغبة أهل الشَّام، وعلماء مصر في التخلُّص من الدَّولة المملوكيَّة، والانضمام إِلى الدَّولة العثمانيَّة؛ فقد اجتمع العلماء، والقضاة، والأعيان، والأشراف، وأهل الرَّأي مع الشَّعب، وتباحثوا في حالهم، ثمَّ قرروا أن يتولَّى قضاة المذاهب الأربعة، والأشراف كتابة عريضةٍ نيابةً عن الجميع، يخاطبون فيها السُّلطان العثماني سليم الأوَّل، ويقولون: إِنَّ الشعب السُّوري ضاق «بالظُّلم» المملوكي، وإِنَّ حكام المماليك «يخالفون الشَّرع الشَّريف»، وإِنَّ السُّلطان إِذا قرر الزَّحف على السَّلطنة المملوكيَّة؛ فإِنَّ الشعب سيرحِّب به، وتعبيراً عن فرحته، سيخرج بجميع فئاته، وطوائفه إلى عينتاب ـ البعيدة عن حلب ـ ولن يكتفوا بالتَّرحيب به في بلادهم فقط، ويطلبون من سليم الأوَّل أن يرسل لهم رسولاً من عنده، وزيراً ثقةً، يقابلهم سرَّاً، ويعطيهم عهد الأمان، حتَّى تطمئنَّ قلوب النَّاس.
ولقد ذكر الدُّكتور محمَّد حرب: أنَّ هذه الوثيقة موجودةٌ في الأرشيف العثماني في متحف طوب كابي في إستانبول، رقم 11634 (26) وبيَّن: أنَّ ترجمة الوثيقة من العثمانيَّة إِلى العربيَّة كما يلي: (يقدِّم جميع أهل حلب: علماء، ووجهاء، وأعيان، وأشراف، وأهالي، بدون استثناء طاعتَهم، وولاءهم ـ طواعيةً ـ لمولانا السُّلطان ـ عزَّ نصره ـ وبإِذنهم جميعاً، كتبنا هذه الورقة لِتُرسَل إِلى الحضرة السُّلطانية العالية. إِنَّ جميع أهل حلب، وهم الموالون لكم، يطلبون من حضرة السُّلطان، عهد الأمان، وإِذا تفضَّلتم بالتَّصريح فإِنَّنا نقبض على الشَّراكسة، ونسلِّمهم لكم، أو نطردهم، وجميع أهل حلب مستعدُّون لمقابلتكم، واستقبالكم، بمجرَّد أن تضع أقدامكم في أرض عينتاب، خلِّصنا أيُّها السُّلطان من يد الحكم الشَّركسي، احمنا أيضاً من يد الكفَّار، قبل حضور التُّركمان، وليعلم مولانا السُّلطان: أنَّ الشَّريعة الإِسلاميَّة لا تأخذ مجراها هنا، وهي معطَّلةٌ. إِنَّ المماليك إِذا أعجبهم أيُّ شيءٍ ليس لهم يستولون عليه، سواءٌ كان هذا الشيء مالاً، أو نساءً، أو عيالاً، فالرَّحمة لا تأخذهم بأحدٍ، وكلٌّ منهم ظالمٌ، وطلبوا منَّا رجلاً من كلِّ ثلاثة بيوت، فلم نستجب لطلبهم، فأظهروا لنا العداء، وتحكَّموا فينا، (ونريد) قبل أن يذهب التُّركمان أن يقدم علينا وزيرٌ من عندكم أيُّها السُّلطان صاحب الدولة، مفوَّضٌ بمنح الأمان لنا، ولأهلينا، ولعيالنا، أرسلوا لنا رجلاً حائزاً على ثقتكم يأتي سرَّاً، ويلتقي بنا، ويعطينا عهد الأمان، حتَّى تطمئنَّ قلوب هؤلاء الفقراء. وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّدٍ، وعلى آله أجمعين).
أمَّا علماء، وفقهاء مصر؛ فقد ذكر عبد الله بن رضوان في كتابه: تاريخ مصر (مخطوط رقم 4971) بمكتبة بايزيد في إستانبول: إِنَّ علماء مصر (وهم نفس الشَّعب المصري وممثِّلوه) يلتقون سرَّاً بكلِّ سفيرٍ عثمانيٍّ يأتي إِلى مصر، ويقصُّون عليه (شكواهم الشَّريف) و(يستنهضون عدالة السُّلطان العثماني لكي يأتي، ويأخذ مصر).
لقد كان علماء مصر يراسلون السُّلطان سليماً الأوَّل؛ لكي يقدم إِلى مصر على رأس جيشه؛ ليستولي عليها، ويطرد منها الجراكسة (المماليك).
4 ـ رأى علماء الدَّولة العثمانيَّة أنَّ ضمَّ مصر، والشَّام يفيد الأمَّة في تحقيق أهدافها الاستراتيجيَّة؛ فالخطر البرتغالي على البحر الأحمر والمناطق المقدَّسة الإِسلاميَّة، وكذلك خطر فرسان القدِّيس يوحنا في البحر المتوسط كانت أسباب وجيهة دعت السُّلطان العثماني لأن يتوجَّه نحو الشرق، فتحالف مع القوَّات المملوكيَّة لهذا الغرض في البداية، ثمَّ تحمَّل العبء الكامل في مقاومة هذه الأخطار بعد سقوط الحكم المملوكي.
ونستدلُّ على ذلك بما قاله السُّلطان سليم الأوَّل العثمانيُّ لـ: «طومان باي» آخر سلاطين المماليك بعد أن هزمه في معركة الرَّيدانيَّة: (أنا ما جئت عليكم إِلا بفتوى علماء الأمصار، وأنا كنت متوجِّهاً إِلى جهاد الرَّافضة (يعني: الصفويِّين) والفجَّار (يعني بهم: البرتغاليِّين، وفرسان القدِّيس يوحنا)، فلمَّا بغى أميركم الغوري، وجاء بالعساكر إِلى حلب، واتَّفق مع الرَّافضة، واختار أن يمشي إِلى مملكتي الَّتي هي موروث آبائي، وأجدادي، فلمَّا تحقَّقتُ؛ تركت الرَّافضة، ومشيت إِليه).
أولاً: وقوع الصِّدام:
بعد التطوُّرات الَّتي حدثت بين الدَّولة العثمانيَّة، والدَّولة الصَّفوية كان على السُّلطان المملوكي «قانصوه الغوري» أن يتَّخذ أحد المواقف تجاه الحدث، إِمَّا:
1 ـ أن يأخذ جانب العثمانيِّين ضدَّ الصَّفويِّين.
2 ـ أن يأخذ جانب الصَّفويِّين ضدَّ العثمانيِّين.
3 ـ أن يقف على الحياد بين الطَّرفين.
وفضَّل الغوري أن يقف على الحياد في ظاهره، إِلا أنَّ المخابرات العثمانيَّة عثرت على خطاب تحالفٍ سرِّي يؤكِّد العلاقة الخفيَّة بين المماليك، والفرس، والخطاب محفوظٌ في أرشيف متحف طوب قابي في إستانبول.
وكان السُّلطان سليم يريد الكرَّة على الشِّيعة الصَّفويَّة في بلاد فارس، ومع توتُّر الأحداث؛ رأى السُّلطان سليم تأمين ظهره، وذلك بضمِّ الدولة المملوكيَّة إِلى أملاكه.
والتقى الجمعان على مشارف حلب في مرج دابق عام 1516م وانتصر العثمانيُّون، وقُتِل الغوري سلطان المماليك، وأكرم العثمانيُّون الغوري بعد مماته، وأقاموا عليه صلاة الجنازة، ودفنوه في مشارف حلب، ودخل سليم حلب، ثمَّ دمشق، ودُعي له في الجوامع، وسُكَّت النُّقود باسمه سلطاناً، وخليفةً. ومن الشَّام أرسل السُّلطان سليم إِلى زعيم المماليك في مصر «طومان باي» أن يلتزم بالطَّاعة للدَّولة العثمانيَّة، وكان ردُّ المماليك السُّخرية من رسول السُّلطان، ثمَّ قتله.
وقرَّر السلطان سليم الحرب، وتحرَّك نحو مصر، وقطع صحراء فلسطين قاصداً مصر، ونزلت الأمطار على أماكن سير الحملة ممَّا يسَّرت على الجيش العثماني قطع الصَّحراء النَّاعمة الرِّمال بعد أن جعلتها الأمطار الغزيرة متماسكةً يَسهل اجتيازها.
يروي المؤرِّخ: «سلاحثور» صاحب مخطوطة فتح نامه ديار العرب ـ وكان مصاحباً لسليم ـ: أنَّ سليماً الأوَّل كان يبكي في مسجد الصَّخرة بالقدس بكاءً حارَّاً، وصلَّى صلاة الحاجة داعياً الله أن يفتح عليه مصر.
وحقَّق العثمانيُّون انتصاراً ساحقاً على المماليك في معركة غزَّة، ثم معركة الرَّيدانيَّة.
وتعود الأسباب الَّتي أدَّت إِلى هزيمة المماليك، وانتهاء دولتهم، وانتصار العثمانيِّين، وعلوِّ نجمهم إِلى:
1 ـ التَّفوُّق العسكري لدى العثمانيِّين: فسلاح المدفعيَّة المملوكي كان يعتمد على مدافع ضخمة ثابتة لا تتحرَّك، في حين كان سلاح المدفعيَّة العثماني يعتمد على مدافع خفيفة يمكن تحريكها في كلِّ الاتجاهات.
2 ـ سلامة الخطط العسكرية العثمانيَّة: فرغم قطع العثمانيِّين لمسافاتٍ طويلةٍ في سرعةٍ اضطروا إِليها، ومحاربتهم في أرضٍ يسيطر عليها عدوُّهم، ومباغتتهم للمماليك، كلُّ ذلك كان ممَّا يدخل في عوامل النَّصر، ومن سلامة التَّخطيط أيضاً استدارة القوات العثمانيَّة من خلف مدافع المماليك الثَّقيلة الحركة ـ إِذا أريد تحريكهاـ ودخول هذه القوات العثمانيَّة القاهرة عن طريق المقطَّم ممَّا شلَّ دور المدفعيَّة المملوكيَّة، وأحدث بالتَّالي الاضطراب في صفوف الجيش المملوكي، لتدافعهم بلا انتظامٍ خلف العثمانيِّين.
3 ـ معنويات الجيش العثماني العالية، وتربيته الجهاديَّة الرَّفيعة، واقتناعه بأنَّ حربه عادلةٌ بعكس القوات المملوكيَّة؛ الَّتي فقدت تلك الصِّفات.
4 ـ حرص الدولة العثمانيَّة على الالتزام بالشَّرع في جميع نواحي حياتها، واهتمامها البالغ بالعدل بين رعايا الدَّولة، بعكس الدَّولة المملوكيَّة الَّتي انحرفت عن الشَّريعة الغرَّاء، ومارست الظُّلم على رعاياها.
5 ـ قناعة مجموعةٍ قياديَّةٍ من أمراء المماليك بالانضمام لجيش السُّلطان سليم، وكانوا مستعدِّين للتَّعاون مع الدَّولة العثمانيَّة، وتحمُّل مسؤوليَّة الحكم تحت إِطار الحكم العثمانيِّ، ومن أمثال هؤلاء: «فاير بك» الَّذي أسند إِليه سليم الأوَّل حكم مصر، و«جان برد الغزالي» الَّذي تولَّى حكم دمشق.
لقد تلقَّى المماليك الهزيمة في سنة 1516/1517م وهم في شيخوخة دولتهم، وفي آخر صفحةٍ من صفحات تاريخهم، كقوَّة إِسلاميَّة كبرى سواءٌ في الشَّرق الأوسط، أو في العالم، كانوا قد فقدوا حيويَّتهم، وقدرتهم على تجديد شبابهم، فكان أن زالت دولتهم، وذهبت البلاد الَّتي كانت تحت حكمهم للنُّفوذ العثماني.
وقد نقل الدُّكتور علي حسُّون عن الجبرتي من كتابه: «تاريخ عجائب الآثار في التَّراجم والأخبار» في المجلَّد الأول وصفاً لفترة حكم العثمانيِّين في مصر إِبَّان عهد سلاطينهم العظماء، اقتطف بعضاً منها:
(.. وعادت مصر إِلى النِّيابة، كما كانت في صدر الإِسلام، ولمَّا خلص له (أي: السُّلطان سليم) أمر مصر؛ عفا عمَّن بقي من الجراكسة، وأبنائهم، ولم يتعرَّض لأوقاف السَّلاطين المصريَّة، بل قرَّر مرتَّبات الأوقاف، والخيرات، والعلوفات، وغلال الحرمين، والأنبار، ورتَّب للأيتام، والمشايخ، والمتقاعدين، ومصارف القلاع، والمرابطين، وأبطل المظالم، والمكوس، والمغارم، ولمَّا توفي؛ تولى ابنه الغازي السُّلطان سليمان عليه الرَّحمة، والرِّضوان، فأسَّس القواعد، وأتمَّ المقاصد، ونظَّم الممالك، وأنار الحوالك، ورفع منار الدِّين، وأخمد نيران الكافرين.. لم تزل البلاد منتظمةً في سلكهم، ومنقادةً تحت حكمهم.. وكانوا في صدر دولتهم من خير مَنْ تقلَّد أمور الأمَّة بعد الخلفاء المهديِّين، وأشدِّ من ذبَّ عن الدِّين، وأعظم من جاهد في المشركين، فلذلك اتَّسعت ممالكهم بما فتحه الله على أيديهم، وأيدي نوَّابهم.. هذا مع عدم إِغفالهم الأمر، وحفظ النَّواحي، والثُّغور، وإقامة الشَّعائر الإِسلاميَّة، والسنن المحمَّديَّة، وتعظيم العلماء، وأهل الدِّين، وخدمة الحرمين الشَّريفين).
ثانياً: مسألة انتقال الخلافة:
إِن مسألة انتقال الخلافة إِلى آل عثمان ترتبط بالفتح العثماني لمصر، وقد قيل: إِنَّ آخر الخلفاء العباسيِّين في القاهرة قد تنازل لسليم عن الخلافة، فالمؤرِّخ ابن إِياس المعاصر لضمِّ العثمانيِّين لمصر لم يتطرَّق إِليها، كما أنَّ الرسائل الَّتي أرسلها السُّلطان سليم إِلى ابنه سليمان لم ترد فيها أيَّةُ إِشارةٍ لتنازل الخليفة عن لقبه للسُّلطان، كما أنَّ المصادر المعاصرة لا تشير إِلى مسألة نقل الخلافة إِلى آل عثمان الَّذين لا ينتسبون إِلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
إِنَّ الواقع التَّاريخي يقول بأنَّ السُّلطان سليماً الأوَّل أطلق على نفسه لقب «خليفة الله في طول الأرض وعرضها» منذ عام 1514م (920هـ) أي: قبل فتحه للشَّام، ومصر، وإِعلان الحجاز خضوعه لآل عثمان.
فالسُّلطان سليم وأجداده كانوا قد كسبوا مكانةً عظيمةً تلائم استعمال لقب الخلافة؛ في الوقت الَّذي كان فيه مركز الخليفة في القاهرة لا يعتدُّ به. كما أنَّ فتوح سليم أكسبته قوَّةً، ونفوذاً معنوياً ومادِّيّاً، وخصوصاً بعد دخول الحرمين الشَّريفين تحت سلطانه، وأصبح السُّلطان العثمانيُّ مقصداً للمستضعفين المسلمين؛ الَّذين يتطلَّعون إِلى مساعدته بعد أن هاجم البرتغاليُّون الموانئ الإسلاميَّة في آسيا، وإفريقية.
إنَّ السُّلطان سليم لم يكن مهتمَّاً بلقب الخلافة، وكذلك سلاطين آل عثمان من بعده، وأنَّ الاهتمام بهذا اللَّقب قد عاد بعد ضعف الدَّولة العثمانيَّة.
ثالثاً: أسباب انهيار الدَّولة المملوكيَّة:
هناك مجموعةٌ من العوامل التي أدت إلى نهايةٍ دولة المماليك، أهمُّها:
1 ـ عدم تطوير المماليك أسلحتهم، وفنونهم القتاليَّة، فبينما كان المماليك يعتمدون على نظام الفروسيَّة؛ الَّذي كان سائداً في العصور الوسطى؛ كان العثمانيُّون يعتمدون على استخدام الأسلحة النَّارية، وبخاصَّةٍ المدفعيَّة.
2 ـ كثرة الفتن، والقلاقل، والاضطرابات بين المماليك حول ولاية الحكم؛ ممَّا أدَّى إِلى عدم استقرار الحكم في أحرج الأوقات.
3 ـ كُرْهُ الرَّعايا للسَّلاطين المماليك؛ الَّذين كانوا يشكِّلون طبقةً أرستقراطيَّةً مترفِّعةً منعزلةً عن الشُّعوب.
4 ـ وقوع بعض الانشقاقات بين صفوف المماليك، كما فعل والي حلب «خاير بك، وجان برد الغزالي» مما أدَّى إِلى سرعة انهيار الدَّولة المملوكيَّة.
5 ـ سوء الأحوال الاقتصاديَّة، وبخاصَّةٍ عندما تغيَّرت طرق التُّجارة المارَّة بمصر، واكتشاف طريق رأس الرَّجاء الصَّالح.
6 ـ العامل الجامع للأسباب السَّابقة: ضعف التزام المماليك بمنهج الله، ويقابله قوَّة تمسُّك العثمانيِّين بشرع الله.
رابعاً: خضوع الحجاز للعثمانيِّين:
كانت الحجاز تابعةً للمماليك، وعندما علم شريف مكَّة بمقتل السُّلطان الغوري، ونائبه طومان باي، بادر شريف مكَّة «بركات بن محمَّد» إِلى تقديم السَّمع والطَّاعة إِلى السُّلطان سليم الأوَّل، وسلمه مفاتيح الكعبة، وبعض الآثار، فأقرَّ السُّلطان سليم شريف الحجاز بركات باعتباره أميراً على مكَّة، والحجاز، ومنحه صلاحياتٍ واسعةً.
وبذلك أصبح السُّلطان سليم خادماً للحرمين الشَّريفين، وأصبحت مكانته أقوى أمام الشُّعوب الإِسلاميَّة، وذلك لأن الدَّولة العثمانية أوقفت أوقافاً كثيرةً على الأماكن المقدَّسة، وكانت إِيراداتها تصبُّ في خزانةٍ مستقلَّةٍ بالقصر السُّلطاني، وقد أدَّى ضمُّ الحجاز إِلى العثمانيِّين إِلى بسط السِّيادة العثمانيَّة في البحر الأحمر ممَّا أدى إِلى دفع الخطر البرتغاليِّ عن الحجاز، والبحر الأحمر، واستمرَّ هذا حتَّى نهاية القرن الثامن عشر.
مراجع المقال:
- علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، (285-289).
- محمَّد حرب، العثمانيُّون في التَّاريخ والحضارة، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الأولى 1409هـ/1989م، ص (30).
- إِسماعيل ياغي، الدَّولة العثمانيَّة في التاريخ الإِسلامي الحديث، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1416هـ/1996م. ص (61، 62).
- عبد العزيز سليمان نوار، الشعوب الإِسلاميَّة، الأتراك العثمانيُّون، الفرس، مسلمو الهند، دار النَّهضة العربيَّة، طبعة 1411هـ/1991م، ص (40).
- يلماز أوزنتونا، تاريخ الدولة العثمانيَّة، ترجمه إِلى العربيَّة عدنان محمود سلمان، د. محمود الأنصاري، المجلَّد الأوَّل، منشورات مؤسَّسة فيصل للتَّمويل، تركيا، إِستانبول 1988م. ص (63).
- قراءة جديدة في تاريخ العثمانيِّين، د. زكريَّا سليمان بيُّومي، الطَّبعة الأولى 1411هـ/1991م، ص (71).