الرابط المختصر :
بيعة علي رضي الله عنه
الحلقة الرابعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م
أولاً: كيف تمت بيعة علي رضي الله عنه:
تمت بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار ، وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاؤوا من الافاق ومن أمصار مختلفة ، وقبائل متباينة ، لا سابقة لهم ، ولا أثر خير في الدين ، فبعد أن قتلوه رضي الله عنه ظلماً وزوراً وعدواناً ، يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين؛ قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله ﷺ بمبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة ، وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق في ذلك الوقت ، فلم يدَّعِ الإمامة لنفسه أحد بعد عثمان رضي الله عنه ، ولم يكن أبو السبطين رضي الله عنه حريصاً عليها ، ولذلك لم يقبلها إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة ، وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها ، ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الجهال إثر تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفَّهم فأطاعوه لفسقهم ، ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى.
وقد روى الكيفية التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه للخلافة بعض أهل العلم، فقد روى أبو بكر الخلال بإسناده إلى محمد بن الحنفية قال: كنت مع علي رحمه الله وعثمان محاصر ، قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة، قال: فقام علي رحمه الله: قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه ، فقال: خلِّ لا أم لك ، قال: فأتى علي الدار وقد قتل الرجل رحمه الله ، فأتى داره فدخلها فأغلق بابه ، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا قد قتل ، ولا بد للناس من خليفة ولا نعلم أحداً أحق بها منك ، فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير ، خير مني لكم أمير ، فقالوا: لا والله لا نعلم أحداً أحق بها منك ، قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً ، ولكن أخرج إلى المسجد ، فبايعه الناس.
وفي رواية أخرى: عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن الحنفية: فأتاه أصحاب رسول الله ﷺ فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام ، ولا نجد أحداً أحق بها منك أقدم مشاهد ، ولا أقرب من رسول الله ﷺ ، فقال علي: لا تفعلوا فإني وزير ، خير مني أمير ، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ، قال: ففي المسجد ، فإنه لا ينبغي لبيعتي أن تكون خفياً ، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين ، قال: فقال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه ، وأبى هو إلا المسجد ، فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس.
ومن هذه الاثار الصحيحة بعض الدروس والعبر والفوائد ، منها:
1- نصرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه ، ودفاعه عنه ، وهذا متواتر عن علي رضي الله عنه، بل كان أكثر الناس دفاعاً عن عثمان رضي الله عنه؛ جاء ذلك بأسانيد كثيرة ، وشهد بذلك مروان بن الحكم حيث قال: ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم - يعني علياً - عن عثمان.
2- زهد علي رضي الله عنه في الخلافة وعدم طلبه لها أو طمعه فيها ، واعتزاله في بيته حتى جاءه الصحابة يطلبون البيعة.
3- إجماع الصحابة من المهاجرين والأنصار والناس عامة في المدينة على بيعته ، ويدخل في هؤلاء أهل الحل والعقد ـ وهم الذين قصدوا علياً وطلبوا منه أن يوافق على البيعة ، وألحّوا عليه حتى قبلها ، وليس للغوغاء وقتلة عثمان كما في بعض الروايات الضعيفة والموضوعة.
4- إن علياً كان أحق الناس بالخلافة يومئذ ، ويدلُّ على ذلك قصد الصحابة له، وإلحاحهم عليه ، ليقبل البيعة ، وتصريحهم بأنهم لا يعلمون أحق منه بالخلافة يومئذ.
5- أهمية الخلافة ، ولذلك رأينا أن الصحابة أسرعوا في تولية علي ، وكان علي يقول: لولا الخشية على دين الله لم أجبهم.
6- إن الشبهة التي أدخلوها على بيعة علي: كون الخوارج الذين حاصروا عثمان، وشارك بعضهم في قتله ، كانوا في المدينة ، وأنهم أول من بدؤوا بالبيعة، وأن طلحة والزبير بايعا مكرهين ، وهذه أقاويل المؤرخين ، لا تقوم على أساس وليس لها مسند صحيح ، والصحيح: أنه لم يجد الناس بعد أبي بكر وعمر وعثمان، كالرابع قدراً وعلماً ، وتقى وديناً ، وسبقاً وجهاداً ، فعزم عليه المهاجرون والأنصار ، ورأى ذلك فرضاً عليه ، فانقاد إليه ، ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي ، لأدى ذلك إلى فتن واختلافات في جميع الأقطار الإسلامية ، فكان من مصلحة المسلمين أن يقبل علي البيعة مهما كانت الظروف المحيطة بها ، ولم يتخلف عن علي أحد من الصحابة الذين كانوا بالمدينة ، وقد خلط الناس بين تخلف الصحابة عن المسير معه إلى البصرة وبين البيعة: أما البيعة فلم يتخلَّف عنها ، وأما المسير معه تخلفوا عنه لأنها كانت مسألة اجتهادية، كما أن علياً لم يلزمهم بالخروج معه كما سيأتي التفصيل بإذن الله عند حديثنا عن الجمل.
7- لا بد من الحذر من مبالغات الإخباريين التي تزعم أن المدينة بقيت خمسة أيام بعد مقتل عثمان وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، وتزعم أن الغوغاء من مصر عرضت الأمر على علي فرفضه ، وأن خوارج الكوفة عرضوا الخلافة على الزبير ، فلا يجدونه ، ومن جاء من البصرة عرضوا على طلحة البيعة؛ فهذا لا يثبت أمام الروايات الصحيحة ، ولا يصح إسناده.
كما أن من المعروف تمكن الصحابة من المدينة وقدرتهم على القضاء على الغوغاء لولا طلب عثمان رضي الله عنه بالكف عن استخدام القوة ضدهم ، وقد فصلت ذلك في كتابي (تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان) ، والصحيح أن بيعة علي كانت عن طواعية واختيار من المسلمين ، وليس لأهل الفتنة دور في مبايعة علي ، وإنما كل من كان من الصحابة في المدينة هم الذين اختاروا أمير المؤمنين علي.
8- بلغت الروايات الصحيحة والشواهد في بيعة علي إحدى عشرة رواية، كما سيأتي تفصيل بعضها بإذن الله.
ثانيا: أحقّية علي بالخلافة:
إن أحقَّ الناس بالخلافة بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة ، وهذا ما يجب على المسلم اعتقاده والديانة لله به في شأنه ترتيب الخلافة الراشدة.
وقد ورد الإيماء إلى أحقية خلافة علي رضي الله عنه في كثير من النصوص الشرعية منها:
1- قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستحلفنهم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾ [النور: 55]. ووجه الاستدلال بها على أحقية خلافة علي رضي الله عنه: أنه أحد المستخلفين في الأرض الذين مكن الله لهم دينهم.
2- قوله ﷺ : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ». ووجه الدلالة في هذا الحديث على أحقية خلافة علي رضي الله عنه: أنه أحد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وحافظوا على حدود الله ، وأقاموا الصلاة، واتوا الزكاة ، وساروا بسيرة رسول الله ﷺ في العدل وإقامة الحق.
3- قوله ﷺ : «خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء». وفي هذا الحديث إشارة إلى أحقية علي رضي الله عنه؛ حيث إن خلافته كانت اخر الثلاثين من مدة خلافة النبوة التي حددها النبي ﷺ في هذا الحديث ، وبموجب هذا قال أهل العلم، قال أحمد بن حنبل: حديث سفينة في الخلافة صحيح ، وإليه أذهب في الخلفاء، وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: إن قوماً يقولون: إنه ليس بخليفة ! قال: هذا قول سوء رديء ، فقال: أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يقولون له: يا أمير المؤمنين ، أفنكذبهم وقد حج وقطع ورجم؛ أفيكون هذا إلا خليفة ؟! .
وقال ابن تيمية في حديث سفينة: وهو حديث مشهور من رواية حماد بن سلمة وعبد الوارث بن سعيد والعوام بن حوشب عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله ﷺ ، رواه أهل السنن كأبي داود وغيره ، واعتمد عليه الإمام أحمد وغيره في تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة ، وثبته أحمد واستدل به على من توقف في خلافة علي من أجل افتراق الناس عليه ، حتى قال أحمد: من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضلُّ من حمار أهله ، ونهى عن مناكحته.
وقال شارح الطحاوية: ونثبت الخلافة بعد عثمان لعلي رضي الله عنهما ، لما قتل عثمان وبايع الناس علياً صار إماماً حقاً واجب الطاعة ، وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة ، كما دل عليه حديث سفينة أنه قال: قال رسول الله ﷺ : «خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء».
4- عن عكرمة: قال لي ابن عباس ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه ، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه ، فأخذ رداءه فاحتبى ، ثم أنشأ يحدثنا ... حتى أتى على ذكر بناء المسجد ، فقال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين ، فراه النبي ﷺ ، فينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن. وفي رواية مسلم: عن أبي سعيد قال لعمار حين جعل يحفر الخندق ، وجعل يمسح رأسه ويقول: «بؤسى ابن سمية ، تقتلك فئة باغية».
قال ابن تيمية: بعد ذكره لقوله ﷺ : «تقتل عمار الفئة الباغية»: وهذا يدل على صحة إمامة علي ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة ، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار وإن كان متأولاً ، أو باغٍ بلا تأويل، وهو أصح القولين لأصحابنا ، وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً ، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين ، وعندما أنكر يحيى بن معين على الشافعي استدلاله بسيرة علي في قتال البغاة المتأولين قال: أيجعل طلحة والزبير معاً بغاة؟! رد عليه الإمام أحمد فقال: ويحك وأي شيء يسعه أن يصنع في هذه المقام ؟ يعني: إن لم يقتدِ بسيرة علي في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة - إلى أن قال: ولم يتردد أحمد ولا أحد من أئمة السنة في أنه غير علي أولى بالحق منه، فلو قال قائل: إن قتل عمار كان بصفين ، وهو مع علي ، والذين قتلوه مع معاوية ، وكان معه جماعة من الصحابة؛ فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار ، فالجواب: أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم ، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها؛ وهو طاعة الإمام ، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك ، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك لكونهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم.
قال النووي بعد قوله ﷺ : «بؤسى ابن سمية تقتلك فئة باغية» قال العلماء: هذا الحديث حجة ظاهرة في أن علياً رضي الله عنه كان محقاً مصيباً ، والطائفة الأخرى بغاة ، لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك.. وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله ﷺ من أوجه: منها: أن عماراً يموت قتيلاً ، وأنه يقتله مسلمون ، وأنهم بغاة ، وأن الصحابة: يقاتلون ، وأنهم يكونون فرقتين باغية وغيرها ، وكل هذا وقع مثل فلق الصبح صلى الله وسلم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
5- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق». وفيه أيضاً: أنه قال: «تكون في أمتي فرقتان ، فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق» ، وفي لفظ: قال: «تمرق مارقة في فرقة من الناس ، فيلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق». وجاء بلفظ: «يخرجون على فرقة مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق» ، فقوله ﷺ : «على حين فرقة» - بضم الفاء - أي: في وقت افتراق الناس ، أي: افتراق يقع بين المسلمين ، وهو الافتراق الذي كان بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، والمراد بالفرقة المارقة؛ هم أهل النهروان، كانوا في عسكر علي رضي الله عنه في حرب صفين ، فلما اتفق علي ومعاوية على تحكيم الحكمين خرجوا وقالوا: إن علياً ومعاوية استبقا إلى الكفر كفرسي رهان ، فكفر معاوية بقتال علي ، ثم كفر علي بتحكيم الحكمين. وكفَّروا طلحة والزبير ، فقتلتهم الطائفة الذين كانوا مع علي ، وقد شهد النبي ﷺ أن الطائفة التي تقتلهم أقرب إلى الحق ، وهذا شهادة من النبي ﷺ لعلي وأصحابه بالحق ، وهذا من معجزات النبي ﷺ لكونه أخبر بما يكون ، فكان على ما قال ، وفيه دلالة واضحة على صحة خلافة علي رضي الله عنه ، وخطأ من خالفه.
ثالثاً: بيعة طلحة والزبير رضي الله عنهما:
عن أبي بشير العابدي قال: كنت بالمدينة حين قُتل عثمان رضي الله عنه ، واجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير ، فأتوا علياً ، فقالوا: يا أبا الحسن هلمّ نبايعك ، فقال: لا حاجة لي في أمركم ، أنا معكم ، فمن اخترتم فقد رضيت به.. فاختاروا والله فقالوا: ما نختار غيرك.. إلخ الرواية ، وفيها تمام البيعة لعلي ـ رضي الله عنه ـ ، والروايات في هذا كثيرة ذكر بعضها ابن جرير في تاريخه، وهي دالة على مبايعة الصحابة - رضي الله عنهم - لعلي - رضي الله عنه - واتفاقهم على بيعته بما فيهم طلحة والزبير ، كما جاء مصرحاً به في الرواية السابقة.
وأما ما جاء في بعض الروايات من أن طلحة ، والزبير؛ بايعا مكرهين ، فهذا لا يثبت بنقل صحيح ، والروايات الصحيحة على خلافه، فقد روى الطبري عن عوف بن أبي جميلة قال: أما أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول: إن علياً جاء فقال لطلحة: ابسط يدك يا طلحة لأبايعك. فقال طلحة: أنت أحق ، وأنت أمير المؤمنين ، فابسط يدك ، فبسط علي يده فبايعه، وعن عبد خير الخيواني: أنه قام إلى أبي موسى فقال: يا أبا موسى ، هل كان هذان الرجلان ـ يعني طلحة والزبير ـ ممن بايع علياً ؟ قال: نعم.
كما نص على بطلان ما يُدّعى من أنهما بايعا مكرهين ، الإمام المحقق ابن العربي وذكر: أن هذا مما لا يليق بهما ، ولا بعلي؛ قال - رحمه الله - : فإن قيل: بايعا مكرهين (أي: طلحة والزبير) ، قلنا: حاشا لله أن يكرها ، لهما ولمن بايعهما ، ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك ، لأن واحد واثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، وهذا اجتهاد مردود ، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له ، وهو مكره على ذلك شرعاً ، ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما ، ولا في بيعة الإمام ، وأما من قال: يد شلاء وأمر لا يتم، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع ، ولم يكن كذلك ، فإن قيل: فقد قال طلحة: بايعت واللج على قفي؛ قلنا: اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في (القفا) لغة (قفي) ، كما يجعل في (الهوى) (هوي) وتلك لغة هذيل لا قريش، فكانت كذبة لم تدبر ، وأما قولهم: (يد شلاء) لو صح فلا متعلق لهم فيه ، فإن يداً شلت في وقاية رسول الله ﷺ يتم لها كل أمر ، ويتوقى بها من كل مكروه ، وقد تم الأمر على وجهه ، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه.
إن الروايات التي تقول بأن طلحة والزبير أكرهوا على البيعة باطلة، وهناك روايات صحيحة أشارت كما ذكرت إلى بيعتهما لعلي رضي الله عنهما، وهناك رواية صحيحة أوردها ابن حجر، من طريق الأحنف بن قيس، وفيها: أن عائشة وطلحة والزبير رضوان الله عليهم قد أمروا الأحنف بمبايعة علي رضي الله عنه بعدما استشارهم في من يبايع بعد عثمان رضي الله عنه.
إن سابقة علي - رضي الله عنه - وفضله ، والتزامه بأحكام الكتاب والسنة ، وتمسكه الشديد بالعمل بهما ، وتعهده في خطبه بتطبيق الأوامر والنواهي الشرعية ، ما كان ليفتح لأحد باب الطعن في ولايته على المسلمين.
ويمكن القول: إن علياً كان أقوى المرشحين للإمامة بعد مقتل عمر رضي الله عنه؛ فالفاروق عيَّنه في الستة الذين أشار بهم ، وهو واحد منهم ، على أن الأربعة من رجال الشورى ، وهم عبد الرحمن ، وسعد ، وطلحة ، والزبير بتنازلهم عن حقهم فيها له ولعثمان تركوا المجال مفتوحاً أمام الاثنين ، فلم يبقَ إلا هو وعثمان، وهذا إجماع من أهل الشورى على أنه لولا عثمان لكانت لعلي ، وبعد موت عثمان ، وقد قدمه ورجحه أهل دار الهجرة صار مستحقاً للخلافة ، على أنه لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ﷺ الموجودين في ذلك الحين أحق بالخلافة منه - رضي الله عنه - ؛ فهو من السابقين والمهاجرين الأولين ، وابن عم رسول الله ﷺ ، وصهره ، بالإضافة إلى ذلك له من القدرة والكفاءة ما لا ينكر ، وله من الشجاعة ، والإقدام والذكاء والعقلية القضائية النادرة ، والحزم في المواقف، والصلابة في الحق ، وبعد نظره في تصريف الأمور ، فكل هذه العوامل تجعله بلا منازع المرشح الوحيد لإمامة المسلمين في تلك الفترة الحساسة من حياتهم، ومع هذا كله فإن خلافته صحت بعدما انعقد إجماع المهاجرين والأنصار عليه ومبايعتهم له.
رابعاً: انعقاد الإجماع على خلافة علي رضي الله عنه:
انعقد إجماع أهل السنة والجماعة على أن علياً رضي الله عنه كان متعيناً للخلافة بعد عثمان رضي الله عنه ، لبيعة المهاجرين والأنصار له لما رأوا لفضله على من بقي من الصحابة ، وأنه أقدمهم إسلاماً ، وأوفرهم علماً ، وأقربهم بالنبي ﷺ نسباً ، وأشجعهم نفساً ، وأحبهم إلى الله ورسوله ، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأشرفهم منزلة ، وأشبههم برسول الله ﷺ هدياً وسمتاً ، فكان رضي الله متعيناً للخلافة دون غيره ، وقد قام من بقي من أصحاب النبي ﷺ بالمدينة بعقد البيعة به بالخلافة بالإجماع ، فكان حينئذ إماماً حقاً وجب على سائر الناس طاعته ، وحرم الخروج عليه ومخالفته.
وقد نقل الإجماع على خلافته كثير من أهل العلم منهم:
1- نقل محمد بن سعد إجماع من له قدم صدق وسابقة في الدين ممن بقي من أصحاب النبي ﷺ بالمدينة على بيعة علي رضي الله عنه؛ حيث قال: وبويع لعلي بن أبي طالب رحمه الله بالمدينة الغد من يوم قتل عثمان بالخلافة؛ بايعه طلحة والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وعمار بن ياسر ، وأسامة بن زيد ، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب الأنصاري ، ومحمد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وخزيمة بن ثابت ، وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله وغيرهم.
2- وذكر ابن قدامة رحمه الله: أن الإمام أحمد رحمه الله روى بإسناده عن عبد الرزاق ، عن محمد بن راشد ، عن عوف قال: كنت عند الحسن؛ فكأن رجلاً انتقص أبا موسى باتباعه علياً ، فغضب الحسن ثم قال: سبحان الله قتل أمير المؤمنين عثمان فاجتمع الناس على خيرهم فبايعوه، أفيلام أبو موسى باتباعه؟!.
3- وقال أبو الحسن الأشعري: ونثبت إمامة علي بعد عثمان رضي الله عنه بعقد من عقد له من الصحابة من أهل الحل والعقد؛ لأنه لم يدعُ أحد من أهل الشورى غيره في وقته ، وقد اجتمع على فضله وعدله ، وأن امتناعه عن دعوى الأمر لنفسه في وقت الخلفاء قبله كان حقاً لعلمه أن ذلك وقت قيامه ، ثم لما صار الأمر إليه أظهر وأعلن ولم يقصر حتى مضى على السداد والرشاد ، كما مضى من قبله من الخلفاء وأئمة العدل على السداد والرشاد متبعين لكتاب ربهم وسنة نبيهم، هؤلاء الأربعة المجمع على عدلهم وفضلهم رضي الله عنهم.
4- وقال أبو نعيم الأصبهاني: فلما اختلف الصحابة كان على الذين سبقوا إلى الهجرة والسابقة والنصرة والغيرة في الإسلام ، الذين اتفقت الأمة على تقديمهم لفضلهم في أمر دينهم ودنياهم لا يتنازعون فيهم ، ولا يختلفون فيمن أولى بالأمر من الجماعة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة في العشرة ممن توفي وهو عنهم راضٍ ، فسلم من بقي من العشرة الأمر لعلي رضي الله عنه ، ولم ينكر أنه من أكمل الأمة ذكراً ، وأرفعهم قدراً ، لقديم سابقته وتقدمه في الفضل والعلم ، وشهوده المشاهد الكريمة ، يحبه الله ورسوله ، ويحب الله ورسوله ، ويحبه المؤمنون ، ويبغضه المنافقون ، لم يضع منه تقديم من تقدمه من أصحاب رسول الله ﷺ ، بل ازداد به ارتفاعاً لمعرفته بفضل من قدمه على نفسه ، إذ كان ذلك موجوداً في الأنبياء والرسل عليهم السلام قال تعالى: إلى قوله: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيْسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]. فلم يكن تفضيل بعضهم على بعض بالذي يضع ممن هو دونه؛ فكل الرسل صفوة الله عز وجل وخيرته من خلقه ، فتولَّى أمر المسلمين عادلاً زاهداً اخذاً في سيرته بمنهاج الرسول عليه الصلاة والسلام ، وأصحابه رضي الله عنهم ، حتى قبضه الله عز وجل شهيداً هادياً مهدياً ، سلك بهم السبيل المستبين والصراط المستقيم.
5- وقال أبو منصور البغدادي: أجمع أهل الحق والعدل على صحة إمامة علي رضي الله عنه وقت انتصابه لها بعد قتل عثمان رضي الله عنه.
6- وقال الزهري:.. وكان قد وفى بعهد عثمان حتى قتل ، وكان أفضل من بقي من الصحابة فلم يكن أحد أحق بالخلافة منه ، ثم لم يستبد بها مع كونه أحق الناس بها حتى جرت له بيعة ، وبايعه مع سائر الناس من بقي من أصحاب الشورى.
7- وقال عبد الملك الجويني: وأما عمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم؛ فسبيل إثبات إمامتهم وإجماعهم لشرائط الإمامة كسبيل إثبات إمامة أبي بكر ، ومرجع كل قاطع في الإمامة إلى الخبر المتواتر والإجماع.. ولا اكتراث بقول من يقول: لم يحصل إجماع على إمامة علي رضي الله عنه؛ فإن الإمامة لم تجحد له وإنما هاجت الفتن لأمور أُخر.
8- وقال أبو عبد الله بن بطة: كانت بيعة علي رحمه الله بيعة اجتماع ورحمة ، لم يدع إلى نفسه ولم يجبرهم على بيعته بسيفه ، ولم يغلبهم بعشيرته ، ولقد شرف الخلافة بنفسه ، وزانها بشرفه ، وكساها حلة البهاء بعدله ، ورفعها بعلو قدره ، ولقد أباها فأجبروه ، وتقاعس عنها فأكرهوه.
9- وقال الغزالي: وقد أجمعوا على تقديم أبي بكر ، ثم نص أبو بكر على عمر، ثم أجمعوا بعده على عثمان ، ثم على علي رضي الله عنهم ، وليس يظن منهم الخيانة في دين الله تعالى لغرض من الأغراض ، وكان إجماعهم على ذلك من أحسن ما يستدل به على مراتبهم في الفضل ، ومن هذا اعتقد أهل السنة هذا الترتيب في الفضل ، ثم بحثوا عن الأخبار ، فوجدوا فيها ما عرف مستند الصحابة وأهل الإجماع في هذا الترتيب.
10- قال أبو بكر بن العربي: فلما قضى الله من أمره ما قضى ، ومضى في قدره ما مضى؛ علم أن الحق لا يترك الناس سدى ، وأن الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم النظر فيه ، ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدراً وعلماً ، وتقى وديناً فانعقدت له البيعة ، ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي لجرى على من بها من الأوباش ما لا يرقع خرقه ، ولكن عزم عليه المهاجرون والأنصار ، ورأى ذلك فرضاً عليه فانقاد إليه.
11- وقال ابن تيمية: واتفق أصحاب رسول الله ﷺ على بيعة عثمان بعد عمر ، وثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة». فكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه اخر الخلفاء الراشدين المهديين ، وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان، ثم علي.
12- وقال ابن حجر: وكانت بيعة علي بالخلافة عقب قتل عثمان في أوائل ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ، فبايعه المهاجرون والأنصار وكل من حضر ، وكتب بيعته إلى الافاق ، فأذعنوا كلهم إلا معاوية في أهل الشام ، فكان بينهم بعد ما كان.
والذي نستفيده من هذه النقول المتقدمة للإجماع أن خلافة علي رضي الله عنه محل إجماع على أحقيتها ، وصحتها في وقت زمانها ، وذلك بعد قتل عثمان رضي الله عنه حيث لم يبق على الأرض أحق بها منه رضي الله عنه ، فقد جاءته رضي الله عنه على قدر في وقتها ومحلها.
وقد اعترض بعض الناس على الإجماع على خلافة علي رضي الله عنه من وجوه:
(1) تخلف عنه من الصحابة جماعة منهم: سعد بن أبي وقاص ، ومحمد بن مسلمة ، وابن عمر ، وأسامة بن زيد ، وسواهم من نظرائهم.
(2) إنما بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان.
(3) أن أهل الشام: معاوية ومن معه؛ لم يبايعوه بل قاتلوه.
وهذه الاعتراضات لا تأثير لها على الإجماع المذكور ، ولا توجب معارضته وذلك أنها مردودة من وجوه:
الوجه الأول: أن دعوى أن جماعة من الصحابة تخلفوا عن بيعته دعوى غير صحيحة؛ إذ إن بيعته لم يَتخلَّف عنها أحد وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذكر لأنها كانت مسألة اجتهادية ، فاجتهد كل واحد ، وأعمل نظره ، وأصاب قدره، وأما ما قاله ابن خلدون: إن الناس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار ، فلم يشهدوا بيعة علي، والذين شهدوا؛ فمنهم من بايع ، ومنهم من توقف حتى يجتمع الناس ويتفقوا على إمام كسعد وسعيد وابن عمر.. إلخ، ما ذكر؛ فهذا مبالغة من ابن خلدون رحمه الله ، أما سعد بن أبي وقاص فقد نقل بيعته ابن سعد ، وابن حبان ، والذهبي، وغيرهم، وكذلك البقية قد بايعوا كما ذكرنا الإجماع في ذلك في من حضر من الصحابة في المدينة ، على أن ابن خلدون نفسه نقل اتفاق أهل العصر الثاني من بعد الصحابة في المدينة ، على انعقاد بيعة علي ولزومها للمسلمين أجمعين ، وقد نقلت ما قاله ابن خلدون لأن كثيراً من الكتاب والباحثين اعتمدوا عليه فيما بعد.
الوجه الثاني: أن عقد الخلافة ونصب إمام واجب لا بد منه ، ووقف ذلك على حضور جميع الأمة واتفاقهم مستحيل متعذر؛ فلا يجوز اشتراطه؛ لإفضاء ذلك إلى انتفاء الواجب ووقوع الفساد اللازم من انتفائه.
الوجه الثالث: أن الإجماع حصل على بيعة أبي بكر بمبايعة الفاروق وأبي عبيدة ومن حضرهم من الأنصار مع غيبة علي وعثمان وغيرهما من الصحابة، وكذلك حصل الإجماع على خلافة علي بمبايعة سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد وعمار ، ومن حضر من البدريين وغيرهم من الصحابة ، ولا يضر هذا الإجماع من غاب عن البيعة أولم يبايعه من غيرهم رضي الله عنهم جميعاً ، قال الحسن البصري: والله ما كانت بيعة علي إلا كبيعة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.
الوجه الرابع: دعوى أنه إنما بويع على أن يقتل قتلة عثمان: هذا لا يصح في شرط البيعة ، وإنما يبايعونه على الحكم بالحق؛ وهو أن يحضر الطالب للدم ، ويحضر المطلوب ، وتقع الدعوى ، ويكون الجواب ، وتقوم البينة ، ويقع الحكم، بعد ذلك. وأما الروايات التي تزعم أن طلحة والزبير وبعض الصحابة رضوان الله عليهم قد اشترطوا في بيعتهم لعلي إقامة الحدود ، فهذا الخبر على ضعف سنده فإن في متنه مقالاً، وفي ذلك يقول ابن العربي: فإن قيل: بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان ، قلنا: هذا لا يصح في شرط البيعة.
الوجه الخامس: أن معاوية رضي الله عنه لم يقاتل علياً على الخلافة ، ولم ينكر إمامته ، وإنما كان يقاتل من أجل إقامة الحد الشرعي على الذين اشتركوا في قتل عثمان ، مع ظنه أنه مصيب في اجتهاده ، ولكنه كان مخطئاً في اجتهاده ذلك، فله أجر الاجتهاد فقط.
وقد ثبت بالروايات الصحيحة أن خلافه مع علي - رضي الله عنه - كان في قتل قتلة عثمان ، ولم ينازعه في الخلافة ، بل كان يقر له بذلك ، فعن أبي مسلم الخولاني أنه جاء أناس معه إلى معاوية وقالوا: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني ، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً ، وأنا ابن عمه والطالب بدمه فأتوه ، فقولوا له فليدفع إليَّ قتلة عثمان وأسلم له ، فأتوا علياً فكلموه فلم يدفعهم إليه.
ويروي ابن كثير من طرق ابن ديزيل بسنده إلى أبي الدرداء وأبي أمامة ـ رضي الله عنهما ـ: أنهما دخلاً على معاوية فقالا له: يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً ، وأقرب منك إلى رسول الله ﷺ ، وأحق بهذا الأمر منك ، فقال: أقاتله على دم عثمان ، وإنه آوى قتلته ، فاذهبا إليه فقولا له: فليقدنا من قتلة عثمان ، ثم أنا أول من أبايعه من أهل الشام.
والروايات في ذلك كثيرة مشهورة بين العلماء، وهي دالة على عدم منازعة معاوية لعلي رضي الله عنهما في الخلافة ، ولهذا نص المحققون من أهل العلم على هذه المسألة وقرروها.
يقول إمام الحرمين الجويني: إن معاوية وإن قاتل علياً فإنه لا ينكر إمامته، ولا يدعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظناً منه أنه مصيب، وكان مخطئاً.
ويقول ابن حجر الهيثمي: ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة: أن ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من الحروب فلم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة ، للإجماع على أحقيتها لعلي كما مر ، فلم تهج الفتنة بسببها ، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم ، لكون معاوية ابن عمه ، فامتنع علي، وسوف نبين موقف علي رضي الله عنه من عدم تسليم قتلة عثمان في حينه ، وإنما الشاهد هنا هو إثبات عدم مبايعة معاوية ليس اعتراضاً على شخص علي.
ويقول ابن تيمية: ومعاوية لم يَدَّعِ الخلافة ، ولم يُبَايَعْ له بها حين قاتل علياً ، ولم يقاتل على أنه خليفة ، ولا أنه يستحق الخلافة ، ويقرون له بذلك ، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه.. وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفؤاً لعلي بالخلافة ، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي - رضي الله عنه - فإن فضل علي وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة.
فثبت بهذا أنه لم ينازع علياً ـ رضي الله عنه ـ أحداً في الخلافة لا من الذين خالفوه ولا من غيرهم، فهذه الأقوال عن هؤلاء العلماء كلها في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في ترتيب الخلافة الراشدة ، فلا بد من الذود عنها والتبشير وتربية الأجيال عليها ، والاعتزاز والافتخار في الانتساب إليها.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره