الرابط المختصر :
فضائل وصفات علي بن أبي طالب رضي الله عنه ٢
الحلقة السابعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م
2- المقارنة بين العلم والمال:
وجاء في وصية أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لكميل بن زياد: ... العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، العلم يزكو على العمل والمال تنقصه النفقة ، العلم حاكم ، والمال محكوم عليه ، وصنعة المال تزول بزواله ، ومحبة العالم دين يدان بها ، العلم يُكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد مماته ، مات خُزَّان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة. عقد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مقارنة بين العلم والمال ، باعتبار أن العلم الشرعي هو عماد أهل الاخرة ، ومعقد عزهم وشرفهم في الدنيا والاخرة ، والمقصود بالمال هنا الذي يجمعه صاحبه لذاته ولا يتوجه فيه بالطاعات وفق شرع ربه ، وقد سوَّغ هذا الحكم بعدة أمور:
(أ) أن العلم يحرس صاحبه بينما صاحب المال هو الذي يحرسه ، فأما حراسة العلم صاحبه فإن العلم الإلهي يقي صاحبه من المهالك في الدنيا والاخرة ، فأما أمر الاخرة فظاهر معلوم ، حيث إن هذا العلم يقود صاحبه إلى رضوان الله تعالى والجنة ، ويجنبه طريق النار ، وما أعظمها من مطالب ، وما أبلغها من مكاسب ، وأما الوقاية من مهالك الدنيا فإن السعادة الروحية الحقة لا تكون إلا باليقين الذي تتضاءل أمامه الحياة الدنيا ، فتصبح جميع ماسيها ونكباتها برداً وسلاماً على أصحاب اليقين؛ لأنهم لا يلقون لها بالاً ، ولا يعيرونها اهتماماً بينما تتحول هذه الماسي والنكبات إلى حياة جحيمية على أهل الدنيا الذين يعتبرون الحياة الدنيا هي رأس المال والمكسب ، وأما حراسة صاحب المال ماله فأمرها ظاهر ، فكم تململ أصحابها من الهم والخوف عليها تململ المريض ، وباتوا يحرسون أموالهم بالهم والقلق والحزن المنهك. والعلم ينور بصيرة صاحبه في الاختيار الأفضل وفي استخلاص العبر من الأمم الماضية ، والعيش بها في الحياة ، والعلم يفتح افاقاً واسعة في فقه الخلاف ، ومعرفة المصالح والمفاسد ، والمقاصد ، وترتيب الأولويات ، فيسير صاحبه بنور بين الناس.
(ب) أن العلم ينمو ويترسخ بالعمل ، لأن العمل تطبيق للعلم ، فهو بذلك يزيده عمقاً في الذاكرة؛ بخلاف المال فإن الإنفاق منه ينقصه ، ولا يغيبنَّ عن البال أن المقصود هنا أموال أهل الدنيا التي ينفقون منها من أجل الدنيا ، أما أموال أهل الاخرة فإنها محكومة بالعمل الشرعي ، فالإنفاق منها يزيدها نمواً كما جاء في قول الرسول ﷺ : ما نقص مال عبد من صدقة.
(ج) أن العلم الشرعي حاكم لأنه به تنتظم به شؤون الحياة ، وعلى منهاجه يجب أن تقرر جميع الأنظمة التي تحكم الناس ، فهو الحاكم الحقيقي ، أما المال فإنه محكوم عليه؛ لأن إصداره وإيراده يخضع للأنظمة الحاكمة سواء كانت شرعية أو غير شرعية.
(د) أن العلاقات الاجتماعية التي تقوم على المصالح المالية المشتركة تزول بزوال المال؛ لأنه هو الذي عقد تلك العلاقات بناء على تبادل المصلحة بوجوده، فإذا زال زالت تلك المصالح ، أما العلاقات الأخوية التي تقوم على تبادل العلم الشرعي بين العالم ومحبيه؛ فإنها باقية خالدة في الدنيا والاخرة ، قال تعالى: ﴿ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67].
(هـ) أن العلم الشرعي يكسب صاحبه ولاء المسلمين وطاعتهم لأهله اختياراً منهم من غير أن تفرض عليهم هذه الطاعة ، وذلك على امتداد حياتهم ، كما يكسبهم الذكر الحسن بعد مماتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، حيث لا يفقد الناس إلا صورهم وأشكالهم ، وإننا لو استعرضنا التاريخ إلى عصرنا هذا لوجدنا العلماء من عهد الصحابة رضي الله عنهم تتردد أسماؤهم ، ويذكر التاريخ حياتهم في الكتب والخطب والدروس العلمية ، بينما اندرست أسماء كبار أهل الدنيا بانقضاء حياتهم ، وأحياناً يشاهدون انطفاء سمعتهم وهم أحياء.
3- من هو الفقيه الحقيقي؟
إن الفقيـه كل الفقيه الذي لا يقنِّط الناس من رحمة الله ، ولا يُؤَمِّنهم من عذاب الله ، ولا يرخص لهم في معاصي الله ، ولا يدع القران رغبة عنه إلى غيره ، ولا خير في عبادة لا علم فيها ، ولا خير في علم لا فهم فيه ، ولا خير في قراءة لا تدبُّر فيها.
في هذا النص يبين أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أن من الفقه في الدين التزام صفة الاتزان والاعتدال في عرض أمور الدين ومحاولة إصلاح الناس ، وذلك بأن يسير الداعية في خط وسط بين مقامي الخوف والرجاء ، فلا ينطلق في تخويف الناس إلى الحدِّ الذي يجعلهم يقنطون من رحمة الله ، ولا ينطلق في ترغيب الناس إلى الحدِّ الذي يجعلهم يأمنون من عذاب الله تعالى.
ونجد علياً رضي الله عنه في هذا النص يبين أن من مظاهر الفقه في الدين ألا يهوِّن العالم من شأن المعاصي فيجرئ الناس على ارتكابها ، وأن يحافظ على مستوى الإيمان والتقوى لدى الناس مع محاولة رفعهم نحو الكمال في ذلك ، كما يبين أن من الفقه أن يحاول العالم ربط المسلمين بكتاب الله تعالى ، وهنا يبين علي رضي الله عنه أهمية القران الكريم وتفضيله المطلق على كل ما سواه ، وفيه تبيين أو تعليم للطريقة التي نتعامل بها مع القران الكريم. وأن لا يتجاوزه إلى غيره رغبة عنه؛ لأنه مصدر الهداية الأول. ومن المعلوم أن السنة النبوية بيان تفصيلي للقران الكريم ، فالتوجيه إلى القران يعتبر توجيهاً إلى السنة.
ثم يبين أن من أهم شروط العبادة الشرعية المقبولة: أن تكون صادرة عن علم بالكتاب والسنة ، وأن العلم لا يكون نافعاً إلا إذا رافقه الفهم الصحيح.
ويختم وصيته النافعة ببيان أهمية تدبُّر معاني كتاب الله تعالى حال التلاوة؛ لأن الخير كل الخير في فهم مقاصد القران الكريم للعمل بأحكامه ، والتوجه الكامل لله بالقلب والعقل والروح والجوارح عند قراءتنا لكتابه ، وبذل كل ما نستطيع لفهم مراد الله ، والعمل بأوامره واجتناب نواهيه ، والتخلص من كل العوائق التي تحول بيننا وبين كتاب الله ، فهذا يدعونا للتجرد لله بالكلية ، وإخلاص الدين له ، وتحري مراد الله ورسوله ودين الحق ولو أدى إلى مفارقة الأهل والمال والولد والوجاهة الدنيوية ، فإن ما عند الله خير وأبقى. والاتعاظ بمواعظه وتنمية الإيمان بتذكر معاني هذا الكتاب العظيم.
4- ما أبردها على الكبد:
عن الشعبي ، عن علي رضي الله عنه: أنه خرج عليهم وهو يقول: ما أبردها على الكبد ! فقيل له: وما ذلك؟ قال: أن تقول للشيء لا تعلمه: الله أعلم.
5- أهل العلم وتعليم الناس:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: ما أخذ الله العهد على أهل الجهل أن يتعلموا ، حتى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا.
6- الخير في كثرة العلم لا المال والولد:
قال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أن يكثر علمك ، ويعظم حلمك ، وأن تباهي الناس بعبادة ربك ، فإن أحسنت حمدت الله ، وإن أسأت استغفرت الله ، ولا خير في الدنيا إلا أحد رجلين ، رجل أذنب ذنباً فهو يتدارك ذلك بتوبة ، أو رجل يسارع في الخيرات ، ولا يقلُّ عمل في تقوى، وكيف يقل ما يتقبل.
7- العلم والجهل:
قال رضي الله عنه: كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه ، ويفرح به إذا نُسب إليه ، وكفى بالجهل ضَعَةً أن يتبرأ منه من هو فيه ، ويغضب إذا نسب إليه.
8- سبب زهد الناس في العلم:
قال رضي الله عنه: إنما زهد الناس في طلب العلم ، لما يرون من قلة انتفاع من عَلِم بما عَلِم. وهذا فيه تحذير لعلماء السوء الذين يصدون عن سبيل الله ، ودعوة للعلماء بالعمل بعلمهم ، ودعوة الناس إليه والصبر على أذاهم في سبيل الله تعالى.
9- من حقوق العلماء على أمتهم:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: من حق العالم: أن لا تكثر عليه بالسؤال ، ولا تعنته بالجواب ، ولا تحلّ عليه إذا كسل ، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض ، ولا تفشين له سراً ، ولا تغتابن عنده أحداً ، ولا تطلبن عثرته ، وإن زلّ قبلت معذرته ، وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام يحفظ أمر الله ، ولا تجلس أمامه ، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته.
10- مكانة العلماء العاملين عند الله:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: من عَلِمَ وعَمِلَ دُعِيَ في ملكوت السموات عظيماً. وهذه دعوة للعلم والعمل ، وحث للسعي للمقامات العالية التي يكرم الله بها من علم وعمل ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى.
11- الاشتغال بالعلم أولى من الاشتغال بالعبادات التطوعية:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف مثله.
وهذا التوجيه فيه دلالة على فقه ترتيب الأولويات عند أمير المؤمنين علي ، فهو يرى العمل المتعدي لخير الناس - وهو العلم - أولى بالتقديم من العمل التعبدي الذي ترجع فائدته على الشخص نفسه.
هذه بعض التوجيهات النافعة والإرشادات الصالحة من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لطلاب العلم.
ثانياً: زهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وورعه:
فهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من خلال معايشته للقران الكريم وملازمته للنبي الأمين ﷺ ومصاحبته للصحابة الكرام ، ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء ، فقد تربى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على كتاب الله ، واستوعب الآيات التي تحدثت عن الدنيا ، وأخبرتنا بخستها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها ، والآيات التي رغبت في الاخرة ، وأخبرت بشرفها ودوامها كقوله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ [الكهف: 45 - 46].
وتربى على يدي النبي ﷺ الذي كان أعرف الخلق بالدنيا ومقدارها ، إذ هو القائل ﷺ : «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء»، وقال ﷺ : «ما الدنيا في الاخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمِّ فلينظر بما ترجع»، وقال ﷺ : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر».
وقد تأثر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالتربية القرانية والنبوية ، فكان من أصدق النماذج التي زكتها تربية النبي عليه الصلاة والسلام ، قال الله فيها: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ ﴾ [البقرة: 151] ، فقد ضرب لنا أروع الأمثلة في الزهد؛ وهذه بعض المواقف المدهشة في هذا الباب:
1- يا صفراء ، ويا بيضاء غُرِّي غيري:
عن علي بن ربيعة الوالبي: أن علي بن أبي طالب جاءه ابن النباح فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت مال المسلمين من صفراء وبيضاء ، فقال: الله أكبر ، فقام متوكئاً على ابن النباح ، حتى قام على بيت مال المسلمين فقال:
هذا جَنَايَ خياره فيه
وكلُّ جَانٍ يده إلى فيهِ
يابن النباح عليَّ بأشياع الكوفة ، قال: فنودي في الناس ، فأعطى جميع ما في بيت مال المسلمين وهو يقول: يا صفراء ويا بيضاء غُرِّي غيري ، ها ، ها ، حتى ما بقي منه دينار ولا درهم ، ثم أمره بنضحه وصلى فيه ركعتين. وفي رواية أخرى لأبي نعيم من خبر مجمع التيمي قال: كان علي يكنس بيت المال ويصلي فيه ويتخذه مسجداً؛ رجاء أن يشهد له يوم القيامة.
ففي هذا مثل بليغ في الترفُّع عن متاع الدنيا الزائل ، فبيت المال قد امتلأ من الذهب والفضة ، ولا ينظر إليه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه نظرة إعجاب وغرور ، بل كان جوابه حينما أبلغه المسؤول المالي عن ذلك أن قال: الله أكبر ، فإذا كان بعض الناس يكبرون الدنيا ويعظمونها؛ فالله تعالى أكبر منها ومن كل شيء ، وما دام المسلم يشعر حقاً بأن الله أكبر فلماذا يجعل قلبه مستسلماً لما هو أصغر ؟! إنه فقه عظيم من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه؛ حينما تذكَّر هوان الدنيا وحقارتها فكبَّر الله تعالى ، ولسان حاله يؤنِّب من انخدع بمتاع الدنيا الزائد ، ونسي أن الله جل وعلا أكبر من كل شيء ، وإنه لميزان دقيق يحسه المؤمن الذي نَوَّر الله سبحانه بصيرته ، فكلما كان الله تعالى أعظم وأكبر من كل شيء في قلبه كانت الدنيا وما فيها أهون شيء عليه ، وأصبح يُسَخِّر المال الحلال في طاعة الله جل وعلا ، وكلما عظمت الدنيا في قلبه كان ذلك على حساب نقص تعظيمه لله تعالى.
ونجد أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه يُحَلِّق في افاق العظمة وهو يخاطب الدنيا بقوله: يا صفراء يا بيضاء غُرِّي غيري.. مما يدل على الوجدان الحيّ والحسِّ المرهف الذي يصوِّر الدنيا كخصم يخاتل ويراوغ خصمه.. وهو بهذا يعلن انتصاره على جموح النفس وجنوح العواطف ، ويُحَكِّم عقله الذي يعطي الدنيا حجمها المناسب لزمنها المحدود في شقائها ونعيمها ، ويعطي الاخرة حجمها المناسب لخلودها وعظمة نعيمها وهول جحيمها ، ونجده رضي الله عنه يصل إلى قمة المعالي حينما صلى في بيت المال ركعتين؛ لتكونا شاهدتين له يوم القيامة بأنه عدل في حكمه واستقام في أمره ، ولعل في اتخاذ بيت المال مسجداً رمزاً لعلو الاخرة على الدنيا ، وهو مكمِّل للسلوك العالي الذي مارسه في تصريف ذلك المال في وجوهه المشروعة.
2- والله ما أرزؤكم من مالكم شيئاً:
ومن مواقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في الزهد والورع: ما رواه هارون ابن عنترة عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب بالخوْرنَق، وهو يُرعَد تحت سمل قطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين ! إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال ، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع ، فقال: والله ما أرزؤكم من مالكم شيئاً ، وإنها لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي ـ أو قال: من المدينة.
وهنا نتساءل فنقول: ما الذي حمل أمير المؤمنين علياً على أن يعيش عيشة الفقراء ، وأن يتحمل البرد القارس وهو قادر على أن يشتري أفخر ما يوجد في الأرض من الملابس وأكثرها دفئاً؟! إنه مثال للزهد الحقيقي؛ حيث يرغب عن متاع الدنيا مع القدرة على تحصيله ، إنه تلميذ المدرسة النبوية التي تربى فيها على الزهد في متاع الدنيا الزائل ، والتنافس على نعيم الاخرة الخالد ، فلقد عاش رسول الله ﷺ عيشة الفقراء ، وهو يستطيع أن يكون كأفضل الأغنياء.
3- باعني رضاي وأخذه رضاه:
عن أبي مطر عمر بن عبد الله الجهني قال: رأيت عليّاً عليه السلام متَّزراً بإزار مرتدياً برداء ومعه الدِّرَّة، كأنه أعرابي بدوي ، ثم ذكر دخوله إلى السوق ومساومته أحد التجار في ثوب بثلاث دراهم ، وأن التاجر عرفه ، قال: فلما عرفه لم يشتر منه شيئاً ، فأتى اخر فلما عرفه لم يشتر منه شيئاً ، فأتى غلاماً حدثاً فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم ، ثم جاء أبو الغلام فأخبره ، فأخذ أبوه درهماً ثم جاء به فقال: هذا الدرهم يا أمير المؤمنين ، قال: ما شأن هذا الدرهم؟ قال: كان ثمن القميص درهمين ، فقال: باعني رضاي وأخذ رضاه.
فهذا مثل في الزهد من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فلقد كان مظهره في لباسه يوحي بأنه رجل أعرابي لخشونة ملابسه ، وحينما اشترى له ثوباً اختار نوعاً متواضعاً رخيص الثمن ، مع أنه كان آنذاك أعلى مسؤول في العالم ، حيث كان خليفة المسلمين ، وهذا يدل على تواضعه وزهده في الدنيا، على الرغم من أن له حقه من الفيء ومن بيت المال وغيرها من مصادر الدولة كشخص مفرغ خليفة وحاكم لمراعاة مصالح المسلمين.
ومثل اخر في الورع والاحتياط للدين حينما امتنع من الشراء ممن يعرفونه حتى لا يراعوه في الثمن لمنصبه ، فهو لا يريد أن يستثمر منصبه الكبير لمصالحه الخاصة ، وهذا فهم دقيق لمجالات الورع والتقوى ، فالخلافة عنده وعند أمثاله عمل صالح ، والخليفة إذا صاحبه العدل كان أول السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم القيامة؛ فهو لا يريد أن يدنس هذا العمل الصالح بمصالح دنيوية فيتحول العمل إلى مَجْلبَة للوزر بدلاً من الأجر ، فكان بهذا السلوك العالي قدوة حسنة لمن أتوا بعده.
4- يخشع القلب ويقتدي به المؤمن:
قال عمر بن قيس: قيل لعلي رضي الله عنه: لم ترقع قميصك؟ قال: يخشع القلب ويقتدي به المؤمن. فهذا مثل من زهده رضي الله عنه وحرصه على تربية المسلمين على حياة الزهد والتقشف ، فقد لاحظ في لبس الثوب المرقوع ملحظين: الأول أنه وسيلة إلى خشوع القلب وتواضع النفس والبعد عن أسباب العجب والكبرياء ، والثاني أنه يعتبر بذلك قدوة للمسلمين ، فإذا راه الناس - وهو في أعلى منصب - يلبس الثوب المرقوع؛ فإن نفوسهم تتواضع ويبتعدون عن التنافس في شراء الملابس الغالية الثمن ، ويتقوَّى بذلك الزاهدون الذين يتعرضون لملامة الناس على سلوكهم حياة الزهد.
5- لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان:
عن عبد الله بن زُرَير الغافقي قال: دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه - فقرب إلينا خزيرة، فقلت: أصلحك الله لو قربت إلينا من هذا البط - يعني الوزّ - فإن الله عز وجل قد أكثر الخير ، فقال: يابن زرير ! إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان ، قصعة يأكلها هو وأهله وقصعة يضعها بين يدي الناس».
فهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يضرب مثلاً عالياً في الورع والزهد في متاع الدنيا الزائل من طعام وشراب ، فلقد كان بإمكانه أن يأخذ من بيت المال ما شاء من الأموال مما لا يلفت النظر إليه ، حيث يؤَمِّن له معيشة مساوية لأغنياء المسلمين ، ولكنه رضي بخشونة العيش إيثاراً للاجلة على العاجلة ، واحتياطاً لأمر دينه ، وإبرازاً للقدوة الصالحة ، لأنه إذا كان أعلى رجل في الدولة يعيش هذا المستوى من العيش؛ فإن في ذلك عزاء للفقراء ليصبروا ويرضوا بقضاء الله تعالى وقدره ، وعظاً للأغنياء ليشكروا الله تعالى، فيخفضوا من اندفاعهم نحو الترف والإسراف.
6- لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم:
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل منه ويقول: لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم، وقال سفيان: إن علياً لم يبنِ اجُرّة على اجرة ، ولا لبنة على لبنة ، ولا قصبة على قصبة وإن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب.
7- إنك لطيب الريح ، حسن اللون ، طيب الطعم:
يروي عدي بن ثابت ، وحبة بن جوين: أنه أتى بطست خوان فالوذج إلى عليٍّ؛ فلم يأكل ، فقال علي: إنك لطيب الريح ، حسن اللون ، طيب الطعم ، ولكن أكره أن أعود نفسي ما لم تعتده.
8- أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب:
قال الحسن بن صالح بن حيّ: تذاكروا الزُّهاد عند عمر بن عبد العزيز ، فقال: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب. وقد ذكر الذهبي أن علياً ركب حماراً ودلَّى برجليه إلى موضع واحد ثم قال: أنا الذي أهنت الدنيا (وفعله هنا من باب التربية عملياً على الزهد والتقوى والترفع على الدنيا ، وليس على سبيل الخيلاء).
وأخرج أبو عبيد في الأموال عن علي رضي الله عنه: أنه أعطى العطاء في سنة ثلاث مرات ، ثم أتاه مال من أصبهان ، فقال: اغدوا إلى عطاء رابع ، إني لست بخازنكم ، فأخذها قوم وردَّها قوم، وخطب علي الناس فقال: أيها الناس ، والله الذي لا إله إلا هو ، ما رزأت من ما لكم قليلاً ولا كثيراً إلا هذه ، وأخرج قارورة من كم قميصه فيها طيب ، فقال: أهدى إلي دهقان ، وقال: ثم أتى بيت المال وقال: خذوا ، وأنشأ يقول:
أفلح من كانتْ له قُوصرة
يأكلُ منها كلَّ يومٍ تمرة
لقد كان الزهد من الصفات البارزة في شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكان زهده رضي الله عنه مع توافر أسباب الرخاء والثراء وثقة الناس وتوقيرهم وإجلالهم له الذي يمنع من النقد والحسبة والمؤاخذة، ولم يكن رضي الله عنه مع زهده وورعه وتصلُّبه في دينه ، على شيء من الفظاظة والخشونة والعبوس والكلوح ، ولم يكن ثقيل الظل، بل كان ودوداً بشوشاً فيه دعابة ملحوظة. وقد جاء في وصفه: كان حسن الوجه، ضحوك السنِّ ، خفيف المشي على الأرض.
وقد عرّف علي رضي الله عنه الزهادة فقال: أيها الناس ! الزهادة: قصر الأمل ، والشكر عند النعم ، والتورع عن المحارم. وقصر الأمل ضد طول الأمل الذي ينسي الإنسان الاخرة ، وأما قصره فيجعله يجمع بين الدنيا والاخرة ابتغاء مرضات الله ، وأما الشكر عند النعم فهي صفات المسلم الرباني الذي يستشعر نعم الله عليه المادية والمعنوية ما ظهر منها وما بطن ، ويقابلها بالشكر للعزيز الوهاب ، وأما التورع عن المحرمات فهو يبتعد عن الاقتراب خوفاً من الله عز وجل ، فتعريف أمير المؤمنين يبين حقيقة الزهد.
ولا شك أن زهد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قد أثر في من حوله ، وأصبح مدرسة مؤثرة في تاريخ الأمة ، وقد ربط أبو الحسن الندوي بين الزهد والتجديد في المجتمع الإسلامي فقال: ولقد رأينا الزهد والتجديد مترافقين في تاريخ الإسلام ، فلا نعرف أحداً ممن قلب التيار ، وغير مجرى التاريخ ، ونفخ روحاً جديدة في المجتمع الإسلامي ، أو فتح عهداً جديداً في تاريخ الإسلام ، وخلف تراثاً خالداً في العلم والفكر والدين ، وظل قروناً يؤثر في الأفكار والآراء ، ويسيطر على العلم والأدب ، إلا وله نزعة في الزهد ، وتغلُّب على الشهوات ، وسيطرة على المادة ورجالها ، ولعل السر في ذلك أن الزهد يكسب الإنسان قوة المقاومة ، والاعتداد بالشخصية والعقيدة ، والاستهانة برجال المادة ، وبصرعى الشهوات ، وأسرى المعدة.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره