البحث

التفاصيل

من المواقف الاعتقادية لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)

الرابط المختصر :

من المواقف الاعتقادية لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)

الحلقة الثانية والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ يناير 2020م

ز- حرص أميـر المؤمنين علي بـن أبي طالب رضي الله عنـه على بطلان الاعتقاد بالكواكب:
لما أراد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يسافر لقتال الخوارج، عرض له منجم ، فقال: يا أمير المؤمنين! لا تسافر ، فإن القمر في العقرب ، فإنك إن سافرت والقمر في العقرب هزم أصحابك - أو كما قال - ، فقال علي: بل أسافر ثقة بالله وتوكلاً على الله وتكذيباً لك ، فسافر فبورك له في ذلك السفر فقتل عامة الخوارج. وجاء في رواية: ... فلما فرغ من النهروان حمد الله وأثنى عليه ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون: سار في الساعة التي أمره بها المنجم فظفر.. انظر إلى حرص أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على سلامة عقيدة أصحابه مما ادعاه المنجم من ذلك الاعتقاد الفاسد ، فعلي رضي الله عنه مع ما كان فيه من الأمر المهم من قتال الخوارج ، وانشغاله بنتيجة المعركة ، فإنه لم ينسى تلك الكلمة التي قالها ذلك المنجم له في بداية مسيره ، فكان منه بيان فساد ذلك المعتقد في الوقت المناسب بعد انتهاء قتاله للخوارج وانتصاره عليهم.
ح- إحراق أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لمن غلوا فيه وادعوا فيه الألوهية:
عن عبد الله بن شريك العامري ، عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قوماً على باب المسجد يدعون أنك ربهم ، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ، ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا ، فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم ، آكل الطعام كما تأكلون ، وأشرب كما تشربون ، إن أطعت الله أثابني إن شاء الله ، وإن عصيته خشيت أن يعذبني ، فاتقوا الله وارجعوا؛ فأبوا ، فلما كان الغد غدوا عليه ، فجاء قنبر ، فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام ، فقال: أدخلهم ، فقالوا كذلك. فلما كان اليوم الثالث ، قال: لئن قلتم ذلك لا قتلنكم بأخبث قتلة ، فأبوا إلا ذلك ، فأدخلهم أخدوداً بين المسجد والقصر ، وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا ، فأبوا أن يرجعوا ، فقذف بهم فيها ، حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت الأمر أمراً
منكراً ، أوقدت ناري ودعوت قنبرا

كما أخرج البخاري في صحيحه خبر الإحراق من حديث عكرمة ، قال: أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله ﷺ حيث قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» ، ولقتلتهم لقول رسول الله ﷺ : «من بدل دينه فاقتلوه». وقال ابن تيمية: وثبت عنه أنه حرق غالبية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية. لم ير ابن عباس رضي الله عنهما ، رأي علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إحراق السبئية ، حيث يقول: لو كنت أنا لم أحرقهم محتجاً عليه بنهي رسول الله ﷺ : «لا تعذبوا بعذاب الله» ولقوله ﷺ : «من بدل دينه فاقتلوه». قال ابن حجر: وهذا يحتمل أن ابن عباس سمعه من رسول الله ﷺ ، ويحتمل أن يكون سمعه من بعض الصحابة.
وفي رواية أبي داود: فبلغ ذلك علياً ، فقال: ويح أم ابن عباس! وهذا يحتمل أنه لم يرض بما اعترض به ورأى أن النهي للتنزيه. وقال ابن حجر أيضا: (ويح) كلمة رحمة ، فتوجع له لكونه حمل النهي على ظاهره ، فاعتقد التحريم مطلقاً ، فأنكره ، ويحتمل أن يكون قالها رضاً بما قال ، وأنه حفظ ما نسيه بناء على أحد ما قيل في تفسير (ويح) ، أنها تقال بمعنى المدح والتعجب، وقال: واختلف السلف في التحريق ، فكره ذلك عمر ، وابن عباس ، وغيرهما مطلقاً سواء كان ذلك بسبب كفر ، أو في حال مقاتلة ، أو كان قصاصاً ، وأجازه علي ، وخالد بن الوليد وغيرهما ، وقال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم ، بل على سبيل التواضع.
ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة ، فقد سمل النبي ﷺ أعين العرنيين بالحديد المحمى ، وقد حرق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة ، وحرق خالد بن الوليد بالنار ناساً من أهل الردة ، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهليها ، قاله الثوري ، والأوزاعي. وقال ابن المنير وغيره: لا حجة فيما ذكر للجواز ، لأن قصة العرنيين كانت إما قصاصاً أو منسوخة كما تقدم ، وتجويز الصحابي معارض بمنع صحابي اخر، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقاً للعدو.
وقال ابن القيم: وحرق أبو بكر رضي الله عنه اللوطية وأذاقهم حر النار في الدنيا قبل الاخرة ، وكذلك قال أصحابنا: إذا رأى الإمام تحريق اللوطي فله ذلك ، فإن خالد بن الوليد رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلاً ينكح كما تنكح المرأة ، فاستشار الصديق أصحاب رسول الله ﷺ وفيهم علي بن أبي طالب وكان أشدهم قولاً ، فقال: إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم ، إلا واحدة فصنع الله بهم ما قد علمتم ، أرى أن يحرق بالنار. فكتب أبو بكر إلى خالد أن يحرقوا فحرقهم ، ثم حرقهم عبد الله بن الزبير في خلافته ، ثم حرقهم هشام بن عبد الملك.
ط- كيفية بداية الإيمان في القلب عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وتعريفه للتقوى:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب ، فكلما ازداد العبد إيماناً ازداد القلب بياضاً ، وكلما ازداد العبد نفاقاً ازداد القلب سواداً ، حتى إذا استكمل العبد النفاق اسود القلب ، وايم الله لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض ، ولو شققتم عن قلب المنافق والكافر لوجدتموه أسود.
وقد بيَّن علماء أهل السنة حقيقة الإيمان فقالوا بأن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والنطق بالشهادتين ، والعمل بالجوارح والأركان؛ أي هو: اعتقاد وقول وعمل، فهذه الثلاثة كلها مندرجة فيه وتمثل أجزاء من حقيقته ، وقد تواترت أقوال العلماء ومن بعدهم على هذه الحقيقة ، واستدلوا بأدلة كثيرة من الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية على صحة هذا القول في حقيقة الإيمان، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2 - 4].
فقد جمعت هذه الايات - وهي تعرض صفات المؤمنين - بين عمل القلب وعمل الجوارح ، واعتبرت هـذا كله إيماناً ، وقصرت الإيمـان عليه بأداة القصر والحصر (إنما) ، وعرفت المؤمنين بتلك الصفات مجتمعة ، عندما ضمنتها بعبارة ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ وأعمال الجوارح في هذه الصفات هي: إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله.
وقال رسول الله ﷺ : «الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أفضلها: قول لا إله إلا الله ، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان». والشاهد في الحديث ما ذكره رسول الله ﷺ ، فالشهادة قول ، وإماطة الأذى عن الطريق عمل ، والحياء خلق وسلوك ، وجعل الثلاثة من الإيمان دليل على حقيقته ، ومعظم شعب الإيمان هي أعمال. وقال الإمام البخاري في صحيحه: هو قول وفعل يزيد وينقص ، والحب في الله والبغض في الله من الإيمان.
وقال عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها ، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
وما قاله أمير المؤمنين في الإيمان لما سئل عنه: الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد ، والصبر منها على أربع شعب: على الشوق ، والشفق ، والزهد ، والترقب؛ فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات ، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات ، واليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة ، وتأول الحكمة ، وموعظة العبرة ، وسنة الأولين. فمن تبصر في الفطنة تبينت له الحكمة ، ومن تبينت له الحكمة عرف العبرة ، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين. والعدل منها على أربع شعب: على غائض الفهم، وغور العلم ، وزهرة الحكم ، ورساخة الحلم ، فمن فهم علم غور العلم ، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم ، ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش بين الناس حميداً. والجهاد منها على أربع شعب: الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والصدق في المواطن ، وشنئان الفاسقين ، فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين ، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين ، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه ، ومن شناي الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تعريفه للتقوى: ترك الإصرار على المعصية ، وترك الاغترار بالطاعة. وقال فيها: التقوى هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل، ففي اهتمام أمير المؤمنين في حث الناس على التقوى ثمرات واثارٌ في جانب الفرد والمجتمع؛ منها: محبة الله له: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4] ، معية الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128] ، الانتفاع بالقران: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2] ، الحفظ من الشيطان ووساوسه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201] ، انتفاء الخوف والحزن: ﴿ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأعراف: 35] ، قبول العمل: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، اليسر بعد العسر ، والمخرج بعد الضيق: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2]. ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4]. الفراسة والحكمة والنور: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً﴾ [الأنفال: 29]. دخول الجنة: ﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]. النجاة من النار: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقُوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]. المنزلة العالية يوم القيامة: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [البقرة: 212].
ي- القضاء والقدر عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنه لا يكون في الأرض شيء حتى يقضى في السماء ، وليس من أحد إلا وقد وكل به ملكان يدفعان عنه ويكلانه ، حتى يجيء قدره ، فإذا جاء قدره خلَّيا بينه وبين قدره ، وإن عليَّ من الله جنة حصينة ، فإذا جاء أجلي كشف عني ، وإنه لا يجد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وقال رضي الله عنه: إن الأمر ينزل من السماء كقطر المطر لكل نفس ما كتب الله لها من زيادة أو نقصان في نفس أو أهل أو مال ، فمن رأى نقصاً في نفسه أو أهله أو ماله ، ورأى لغيره عثرة فلا يكونن ذلك له فتنة ، فإن المسلم ما لم يعش دنياه يظهر تخشعاً لها إذا ذكرت ، ويغري به لئام الناس؛ كالبائس العالم ينتزر أول فورة من قداحة توجب له المغنم ، وتدفع عنه المغرم ، فكذلك المسلم البريء من الخيانة بين إحدى الحسنيين ، إذا ما دعا الله ، فما عند الله خير له ، وإما أن يرزقه الله مالاً ، فإذا هو ذو أهل ومال ، ومعه حسبه ودينه ، وإما أن يعطيه الله في الاخرة ، فالاخرة خير وأبقى ، الحرث حرثان: فحرث الدنيا والمال والتقوى ، وحرث الاخرة الباقيات الصالحات ، وقد يجمعها الله تعالى لأقوام.
ك- كيف يحاسب الله العباد على كثرة عددهم؟
قيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد على كثرة عددهم؟ فقال: كما يرزقهم على كثرة عددهم.
ثانياً: خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وتحليلها:
كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يتعهد الرعية بالتوجيه والتعليم والتربية من خلال الاحتكاك اليومي ، وخصوصاً يوم الجمعة حيث كانت خطبة الجمعة من المنابر الهامة في توجيه الأمة وترشيدها ، وقد حفظ التاريخ لأمير المؤمنين علي كثيراً من خطبه ، وهذه إشارات عبرت عن خطبة ، وإليك هذا النموذج الفريد العجيب من خطبه حيث قال:
أما بعد؛ فإن الدنيا قد أدبرت وأذنت بوداع ، وإن الاخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع ، وإن المضمار اليوم ، وغداً السباق ، ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل ، فمن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خاب عمله ، ألا فاعملوا لله في الرغبة ، كما تعملون له في الرهبة ، وإنه لم أر كالجنة نام طالبها ، ولم أر كالنار نام هاربها ، وإنه من لم ينفعه الحق ضره الباطل ، ومن لم يستقم به الهدى حاد به الضلال ، ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن ، ودللتم على الزاد ، ألا أيها الناس إنما الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ، وإن الاخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر ، ألا إن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ، والله واسع عليم: أيها الناس، أحسنوا في أعماركم تحفظوا في أعقابكم ، فإن الله وعد جنته من أطاعه ، وأوعد ناره من عصاه ، إنها نار لا يهدأ زفيرها ، ولا يفك أسيرها ، ولا يجبر كسيرها ، حرها شديد ، وقعرها بعيد ، وماؤها صديد.
ولو تأملنا في المقطع السابق لوجدنا أن عوامل التأثير في المدعوين تتمثل فيما يلي:
1- صدق اللهجة النابعة من إيمانه بما يدعو إليه ، مما يجعل كلماته كأنها قبس من نفسه المشتعلة ، وصورة من عواطفه المنفعلة ، فهو لا يكاد ينطق بالجملة حتى تكون أسماعهم قد تلقفتها ، وقلوبهم قد وعتها.
2- تمتاز الألفاظ بالقوة ، مع سهولتها وعذوبتها وسلاستها ، كما أن عبارتها واضحة ، وجملتها قصيرة ، ولعل ذلك يسعف السامعين بإدراك المعنى المراد.
3- المقابلة بين المعاني المتضادة مما يزيد المعنى وضوحاً ، والسامع تأثراً ، ومن ذلك مثلاً: قوله: فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع .. وإن الاخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع وقوله: وإنه لم أر كالجنة نام طالبها.. ولا كالنار نام هاربها.
4- الاقتباس من القران الكريم ، كما في قوله: ألا إن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ، والله واسع عليم ، ذلك مقتبس، من قوله تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268].
5- لقد كانت عناصر الخطبة المذكورة تتمثل في التأثر الشديد بالقران الكريم ، وبكلام الرسول ﷺ ، وواقعيتها واتصالها الحميم بالحياة البشرية ، وعمق المعاني وسموها وشمولها ، والإجادة في تخير الألفاظ وبناء العبارة ، والإيجاز، والتعبير عن المعاني والألفاظ بالصور ، واعتماد الوسائل البديعية ، وغاية القول، فإن هذه الخطبة تكتسب أهمية خاصة لما تتكشف عنه من مزايا دينية وأدبية وشخصية ، فهي عميقة الدلالة على شخصية صاحبها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، تنبئ عن إدراكه السليم للمفاهيم والآراء الإسلامية السديدة التي تتناول طبيعة الدنيا ، وغاية الوجود البشري ، والمصير الذي ينتهي إليه ، وتوضع النتائج التي توصَّل إليها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا الخصوص ، وتدلنا على ما كان يتحلَّى به من حكمة نافذة ، ورؤيا معمقة يرفدها صفاء ذهنه وطهارة روحه ، إلى غير ذلك من المزايا العقلية والروحية العالية التي أفاضها عليه إيمانه وتقاه ، وتمسكه بعرى الإسلام ، واعتصامه بربه ، ورضاه بقضائه ، إن هذا كله قد ساعده في الوصول بالنثر الفني إلى هذا المستوى الرفيع ، فكان بحق في عالم الأدب فارس الكلمة وقائدها وإمامها ، تماماً كما كان في الناس إماماً عادلاً زاهداً ، وقائداً حكيماً مجرباً ، وفارس حرب لا يبارى.
هذا وقد اهتم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بانتهاز المناسبات في وعظ الناس وتذكيرهم ، ولم يكتفِ بخطب الجمعة فقط ، فعندما شيع جنازة ووضعت في لحدها ، وعجَّ أهلها وبكوا ، قال: ما تبكون؟ أما والله لو عاينوا ما عاين ميتهم، لأذهلتهم معاينتهم عن ميتهم. وإن له فيهم لعودة ثم عودة ، ثم لا يبقي منهم أحداً .. فاتقوا الله عباد الله ، وجدوا في الطلب ، وبادروا بالعمل مقطع النهمات ، وهادم اللذات ، فإن الدنيا لا يدوم نعيمها ، ولا تؤمن فجائعها ، غرور حائل، وسند مائل ، اتعظوا عباد الله بالعبر ، واعتبروا بالايات والأثر ، وازدجروا بالنذر ، وانتفعوا بالمواعظ ، فكأن قد علقتكم مخالب المنية ، وضمَّكم بيت التراب ، ودهمتكم مقطعات الأمور بنفخة الصور ، وبعثرة القبور وسياقة المحشر ، وموقف الحساب ، بإحاطة قدرة الجبار ، لكل نفس معها سائق يسوقها لمحشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها: ﴿ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 69].
فارتجت لذلك اليوم البلاد ، وناد المناد ، وكان يوم التلاق ، وكشف عن ساق ، وكسفت الشمس ، وحشرت الوحوش، مكان مواطن الحشر ، وبدت الأسرار ، وهلكت الأشرار ، وارتجت الأفئدة .
ونستنتج من هذه الموعظة بعض عوامل التأثير منها:
1- وقـوع المـوعظة في مناسبتها ، فإن الموعظة كانت بمناسبة تشييع جنازة ، والنفوس في هذه الحال تكون مستعدة لتلقي ما تذكر به في الموت والدار الاخرة.
2- الصياغة البلاغية للموعظة ، فمواعظ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه تتميز بأسلوبها البلاغي المؤثر في نفوس المدعوين ، فمن الجوانب البلاغية في النموذج المذكور ما يلي:
أ- الاستعارة؛ مثل قوله: فكأن قد علقتم مخالب المنية. تشبيه الموت (المنية) بحيوان مفترس ، له مخالب ، فحذف المشبه به وأبقى شيئاً من لوازمه وصفاته وهو المخالب.
ب- السجع العفوي غير المتكلف مثل قوله: فإن الدنيا لا يدوم نعيمها ، ولا تؤمن فجائعها ، غرور حائل ، وسند مائل.
ج- الصيغ الإنشائية، وهي مبثوثة في الخطبة كلها منها: (ما تبكون؟) استفهام.. (اتعظوا عباد الله بالعبر) نداء.. (اتعظوا ، اعتبروا ، وازدجروا ، وانتفعوا ...) كل هذا على سبيل الأمر.
د- جزالة الألفاظ ، لعل أي جزء من الخطبة يكون شاهداً عليها ، لأن الخطبة كلها لا خلل فيها ولا ضعف.
3- اعتماد المضمون على القران الكريم وانتهاجها منهجه في الإرشاد والإقناع، كقوله: «كل نفس معها سائق يسوقها لمحشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها اعتماداً على قوله تعالى: » ﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ [ق: 21].
4- الترهيب بذكر أهوال يوم القيامة ، كقوله: «ودهتكم مقطعات الأمور بنفخة الصور ، وبعثرة القبور ، وسياقة المحشر ، وموقف الحساب بإحاطة قدرة الجبار».
5- الإقناع؛ ومن ذلك قوله: كم مرضت بيديك وعللت بكفيك ، ممن تطلب له الشفاء وتستوصف له الأطباء.. للإقناع بحصول الموت ، والارتحال عن الدنيا والقدوم على الاخرة ، وأنه لا مهرب ولا فكاك.
6- استحضار الصورة ، وذلك لتعبيره بالفعل الماضي عما سيحدث في المستقبل، حتى يتصور السامع هذا الأمر الذي ينتظره ، ومن ذلك قوله: فكأن قد علقتكم مخالب المنية ، وضمكم بيت التراب ، ودهمتكم مقطعات الأمور.
7- لطف العبارة بحيث تستهوي السامعين ولا تنفرهم.
فهذه بعض النماذج من خطب ومواعظ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والتي انتشرت بين الناس ، وساهمت في تربيتهم ، وتهذيب نفوسهم ، وتطهير قلوبهم ، وكان مفعولها سارياً في جيله والأجيال التي بعده إلى يومنا هذا.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره


: الأوسمة



التالي
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والشعر

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع