البحث

التفاصيل

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والشعر

الرابط المختصر :

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والشعر

الحلقة الثالثة والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ يناير 2020م

يظهر من الأخبار التي وصلتنا أن الحركة الشعرية في عهد الخلفاء الراشدين كانت نشطة ، ومعروف أن كتب الأدب لم تعتمد في الأسانيد على الموثوقين من الرواة ، ولكنها تكون المصدر الوحيد للأخبار الأدبية والنقدية التي تتصل بالخلفاء الراشدين ، والصحابة بعامة ، والتابعين بإحسان ما عدا بعض الأراجيز التي كانت تردد في العهد النبوي وروتها كتب الحديث الشريف.
فالمراجع فيما يتعلق بالشعر ، والشعراء في عهد أمير المؤمنين علي؛ هي كتب الأدب والأدباء ، فهي غنية في هذا الجانب ، ولا يختلف موقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من الشعر عن مواقف الراشدين الذين سبقوه إلى سدة الخلافة، فكلهم يستقون من كتاب الله وسنة رسوله ، فهو يستمع إلى الشعراء ينشدون بين يديه ما يطلب له أن يسمعه من صادق القول ورفيع المعاني ، وكان يعطي على الشعر إذا استساغه وأعجبه ، كما مر معنا عندما قال الأعرابي:
كسوتني حُلَّةً تبلَى محاسِنُها
فسوف أكْسُوكَ من حسنِ الثَّنا حُلَلا

ولعلي اراء نقدية راقية في الشعر ، ما زالت معايير يعتمدها النقاد في عصرنا الحاضر ، فهو يقول: الشعر ميزان القول ، أي: أن للشعر خصائص فنية يعرف بها صحيح القول من سقيمه في مقاييس أهل هذا الفن الكلامي ، وإن خالف في أغراضه قيم قوم اخرين.
وأما أمير المؤمنين الشاعر ، فقد اختلف في كثير مما ينسب إليه من شعر ، وهذا الاختلاف لا يقلل من شاعريته المتمثلة فيما رجحت نسبته إليه ، ولا يقدم ولا يؤخر في إمامته اللغوية والأدبية ، ولكن يبدو للباحث أن الشعر لم يكن غاية عنده ، كما أن سيرته السياسية وما رافقها من أحداث جسام لم تكن لتسمح له بالالتفات إلى صناعة الشعر وروايته ، واصطياد المعاني الجميلة واختيار القوافي الرنانة المؤثرة ، ومع ذلك فقد اشتهر له شعر كثير ، ونسب إليه ديوان شعر يشتمل على العديد من القصائد والمقطوعات ، فيه الكثير من الأقوال المرتجلة والآراء السديدة السامية ، وكان أول من شكك في نسبة بعض القصائد إليه ابن هشام ، فقد روى أن علياً كان يرتجز في أثناء بناء مسجد الرسول في المدينة:
لا يستوي من يعمر المسجدا
يدأب فيه قائماً وقاعدا

ومن يُرى عن الغبار حائدا

ويعقب ابن هشام قائلاً: سألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز ، فقالوا: بلغنا أن علي بن أبي طالب ارتجز به ، ثم يقول: فلا يدرى أهو قائله أم غيره.
وفي موضع اخر يقول ابن هشام: وقد روى ابن إسحاق ثلاث قصائد منسوبة لعلي ، ولم تصح له ، ويرجح أنها قيلت في المعارك الإسلامية من قبل أحد المسلمين ، وقد نظروا إلى معانيها الدينيـة فرأى الرواة أنها تناسب علياً ، فنسبوها له.
وأما الديوان الذي نسب إليه فيرى الدكتور نايف معروف أن أمير المؤمنين علياً بفصاحته المعهودة وبلاغته المشهودة ، هو أرفع مستوى من مجموع هذا الديوان ، ويغلب على الظن أنه خليط لشعراء من مستويات متفاوتة قام بجمعها بعض محبيه الذين عز عليهم ألا يكون شاعراً ، ظناً منهم أن ذلك يرفع من قدره عند الناس ، علماً أن علياً لم يكن بين شعراء الرسول الذين تولوا الرد على الحملة الدعائية التي شنها شعراء المشركين على الإسلام والمسلمين، ولكن الأمر لم يصل إلى حد الرواية التي نقلها ياقوت الحموي عن أبي عثمان المازني ، حينما يزعم أنه لم يصحَّ أن علياً تكلم من الشعر بشيء غير بيتين، فهناك روايات عديدة جاءت تخالف هذا القول ، إذ أثبت له الرواة عدداً من المقطوعات التي صحت نسبتها إليه عندهم.
ومن الأشعار التي نسبت إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
1- في الفرج والشدة:
إذا اشتملتْ على الناسِ القلوبُ
وضاقَ بما بِهِ الصَّدْرُ الرَّحيبُ

وأوطنتِ المكارِهُ واطمأنَّتْ
وأرسَتْ في أماكنها الخطوبُ

ولم ترَ لانكشافِ الضُّرِّ وجهاً
ولا أغنى بحيلتِهِ الأريبُ

أتاكَ على قنوطٍ منك غوثٌ
يمنُّ به القريبُ المستجيبُ

وكلُّ الحادثات إذا تناهَتْ
فموصولٌ بها الفرجُ القريبُ

2- في الصبر:
ألا فاصبرْ على الحَدَثِ الجليلِ
وداو جَوَاك بالصَّبْرِ الجَمِيل

ولا تجزعْ فإنْ أُعْسِرْتَ يوماً
فَقَدْ أُيْسِرتَ في الدَّهْرِ الطَّويلِ

ولا تَظْنُنْ بربِّك ظنَّ سوءٍ
فإنَّ اللهَ أولَى بالجَميلِ

فإنَّ العُسْر يَتْبِعُهُ يَسَارٌ
وقولُ اللهِ أصدُق كلِّ قيلِ

فلو أنَّ العقولَ تجرُّ رزقاً
لكانَ الرِّزْقُ عندَ ذَوِي العُقُولِ

فَكَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ قَدْ جاعَ يوماً
سَيُرْوَى منْ رَحِيقِ السَّلْسَبِيلِ

3- في حرص الناس على الدنيا:
للناسِ حرصٌ على الدُّنيا وتدبيرُ
وفي مرادِ الهَوَى عَقْلٌ وتَشْمِيْرُ

وإنْ أَتَوا طاعةَ اللهِ ربِّهِمْ
فالعقلُ منهم على الطَّاعَاتِ مَأْسُورُ

لأجلِ هذَا وذاكَ الحِرْصُ قَدْ مَزَجَتْ
صفاءَ عَيْشَاتِها هَمٌّ وتَكْدِيرُ

لم يرزقوها بعقلٍ عِنْدَما قُسِمَتْ
لكنَّهُمْ رُزِقُوها بالمَقَادِيرِ

كَمْ مِنْ أديبٍ لبيبٍ لا تساعِدُهُ
ومائق نالَ دُنْياهُ بتقصيرِ

لو كان عَنْ قوَّةٍ أَوْ عن مغالبةٍ
طارَ البُزاةُ بأرزاقِ العصافيرِ

4- في الصداقة:
فلا تصحبْ أَخَا الجَهْلِ
وإيَّـاك وإيـاهُ

فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى
حَلِيماً حينَ اخَاهُ

يقاسُ المرءُ بالمرءِ
إذا ما هو ما شَاهُ

وللشَّيءِ من الشيءِ
مقاييسٌ وأشباهُ

قياسُ النَّعْل بالنعلِ
إذا ما هو حاذاهُ

وللقلبِ على القلبِ
دليلٌ حين يلقاهُ

5- في التواضع والقناعة:
حقيقٌ بالتواضُعِ من يموتُ
ويكفي المرءَ مِنْ دُنْياه قوتُ

فما للمرءِ يُصْبحُ ذا همومٍ
وحرصٍ ليسَ تُدْرِكُهُ النعوتُ

صنيعُ مليكِنا حَسَنٌ جميلٌ
وما أرزاقُهُ عَنَّا تفوتُ

فيا هذا سَتَرْحَلُ عن قليلٍ
إلى قومٍ كلامُهُمُ السكوتُ

6- في السر وكتمانه:
ولا تُفْشِ سرَّك إلا إليك
فإن لكلِّ نصيحٍ نصيحا

فإني رأيتُ غُواةَ الرجالِ
لا يتركونَ أديماً صحيحا

رابعاً: من حكم أمير المؤمنين علي التي سارت بين الناس:
تهيأ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه مجموعة من الأسباب: من سرعة البديهة ، وذلاقة اللسان ، ورجحان العقل ، وطهارة القلب ، وصفاء النفس ، وعمق الإيمان ، والتضلع في الدين ، والقرب من رسول الله ﷺ ، وتلقي الوحي عنه ، ما مكنه من فصاحة اللسان ، وجودة البيان ، فأصبحت كلماته درراً ، وجمله حكماً أعجبت ذوي العقول ، فهي لأهل البلاغة مطلب ، ولأهل الهداية مغنم ، ففيها حثٌّ لهم على فضائل الأعمال ، وجميل الخصال ، وأصبحت حكمه الجميلة مادة قيمة في مجال دعوة الناس وتعليمهم ، وتهذيب نفوسهم ، وتنوير عقولهم ، وإحياء قلوبهم ، لما فيها من جودة التعبير ، ووضوح المعاني ، وعمق التفكير ، وفوق ذلك فهي تنبع من قلب تقي ، وصدر نقي، ومن هذه الحكم على سبيل المثال ما يلي:
1- صلاة الليل بهاء في النهار: قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيامًا ﴾ [الفرقان: 64] ، وقال أيضاً في قيام الليل: نور المؤمن من قيام الليل.
2- صلاح الدين من الورع ، وفساده من الطمع.
3- طوبى لمن عمل بعلمه.
4- الفرصة تمرُّ مرَّ السحاب.
5- قسوة القلب من الشبع.
6- الشرف بالفضل والأدب ، لا بالأصل والنسب.
7- جمال الخُلُقِ أبهى من جمال الخَلْق.
8- في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق.
9- المعروف كنز من أفضل الكنوز.
اجتمع عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه جماعة فتذاكروا المعروف ، فانتهز أمير المؤمنين هذا الحديث لترغيبهم فيه وحثهم عليه؛ فقال: المعروف كنز من أفضل الكنوز ، وزرع من أزكى الزروع ، فلا يزهدنكم في المعروف كفر من كفره ، وجحد من جحده ، فإن من يشكرك عليه ممن لم يصل إليه منه شيء أعظم مما ناله أهله منه ، فلا تلتمس من غيرك ما أسديت إلى نفسك ، إن المعروف لا يتم إلا بثلاث خصال: تصغيره ، وستره ، وتعجيله ، فإذا أصغرته فقط عظمته ، وإذا سترته فقد أتممته ، وإذا عجلته فقد هنأته.
10- لا شرف مع سوء الأدب.
11- لا راحة لحسود.
12- الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له.
13- ويل للباغين من أحكم الحاكمين.
14- من سل سيف البغي قتل به.
15- للظالم البادي غداً بكفه عظة.
وهذا الترهيب مستفاد من قوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾ [الفرقان: 27].
16- إخفاء الشدائد من المروءة
17- أحسن إلى المسيء تسده.
18- الإحسان يقطع اللسان.
19- من عذب لسانه كثر إخوانه.
20- من قلَّ صدقه ، قلَّ صديقه.
21- لسانك يقتضيك ما عودته.
22- من طلب ما لا يعنيه فاته ما يعنيه.
23- صاحب الأخيار تأمن الأشرار.
24- جليس الخير غنيمة.
25- صحبة الأحمق نقصان في الدنيا ، وحسرة في الاخرة.
26- كفى أدباً لنفسك ما كرهته لغيرك.
27- لا تنظر إلى من قال ، وانظر إلى ما قال.
28- خير الناس من ينفع الناس.
29- المرء مخبوء تحت لسانه.
30- اللسان معيار أطاشه الجهل ، وأرجحه العقل.
31- أخوك من واساك في الشدة.
32- قيمة كل امرأى ما يحسنه.
33- احذر صولة الكريم إذا جاع ، وصولة اللئيم إذا شبع.
34- النفس مؤثرة للهوى ، اخذة بالهوينى ، جامعة إلى اللهو ، أمارة بالسوء ، مستوطنة للفجور ، طالبة للراحة ، نافرة عن العمل ، فإن أكرهتها أنضيتها ، وإن أهملتها أرديتها.
35- العجز آفة ، والصبر شجاعة ، والزهد ثروة ، والورع جنة.
36- لا تكن عبد غيرك ، وقد جعلك الله حرّاً.
37- إياك والاتكال على المنى ، فإنها بضائع النّوكى.
38- الناس نيام ، إذا ماتوا انتبهوا.
39- الناس أعداء ما جهلوا.
40- ما هلك امرؤ عرف قدره.
41- رب كلمة سلبت نعمة.
42- الآداب حلل مجددة ، والفكر مرآة صافية.
43- الفقر يخرس الفطن عن حجته ، والمقلّ غريب في بلدته.
44- إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره ، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.
45- اجمعوا هذه القلوب ، والتمسوا لها طرف الحكمة ، فإنها تملّ كما تملّ الأبدان.
46- بشاشة الوجه عطية ثانية.
47- العفو عند المقدرة شكر للمقدرة
48- إعادة الاعتذار تذكير للذنب.
49- أبلغ العظات النظر إلى الأموات.
50- ذكر الموت جلاء القلوب.
فهذه بعض الحكم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه التي سارت بين الناس ، والتي لخصت كثيراً من تجاربه في الحياة في عبارات موجزة ، غزيرة المعاني ، والغايات والأهداف والمقاصد ، كان لها تأثير في حياة المجتمع الذي عاش فيه، والمجتمعات المتلاحقة من بعده إلى يومنا هذا ، لقد كانت الحكم والخطب والأشعار والمواعظ من وسائل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في توجيه وترشيد وتعليم المجتمع الإسلامي.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره


: الأوسمة



التالي
"وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"
السابق
من المواقف الاعتقادية لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع