الرابط المختصر :
البرامج السّاخرة.. رؤية شرعيّة: السّخرية من المخالِف (2)
الشيخ محمد خير موسى (عضو الاتحاد)
ما الذي نبحثُه بالضّبط؟
إنَّ الاختلاف هو فطرتُنا البشريّة التي لا نملك عنها فكاكا، ومعناهُ أوسعُ من مجرّد عدم التّماثل، بل يصل إلى التّضاد والتّعارض، فمن يريدُ أن يغدو النّاس أفرادا وجماعاتٍ وكياناتٍ نسخا كربونيّة بعضهم عن بعض، فقد طلب المُحال.
وليسَ بدعا بأن يقع الاختلاف في دائرة العمل للحقّ والمنافحةِ عن العدل في الرؤى والمواقف والأفكار والتّوجّهات والآليّات والوسائل.
وقد بيّن الله تعالى ذلك: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة وَاحِدَة وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (هود: 118).
وعندما نتحدّث عن السّخرية من المخالف، فإنّنا نقصد به المخالف في دائرة الحقّ ذاتها ودائرة العمل لقضية عادلة.
فالعاملون من أجل نصرة الحقّ والعدل ورفع الظلم يختلفون فيما بينهم، ويصل الأمر إلى احتداد في النّقاش وشدٍّ وجذبٍ في تدافع الآراء.
والسّؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي أحكام الشّريعة في صور هذا النّوع من السّخرية؟
إنّهم يسخرون من السّياسيين والمفكّرين
والأصل في هؤلاء السّياسيين أو الجماعات والأحزاب من العاملين للقضيّة ذاتها، المنافحين عن الحقّ ضدّ الظلم، أن يكونوا رفقاء درب وكفاح، غير أنّهم إذا اختلفوا فيما بينهم أو اختلفت دولهم الدّاعمة، تجنّدت قنواتهم لتصبّ سخريتها على الخصم السياسيّ المخالف.
إنّ التّنافس السّياسي أو الأكاديمي أو المعرفي مشروعٌ ضمنَ سياجٍ من الأخلاق الفاضلة، والسّخرية المؤدية إلى الإذلال والإيذاء والإهانة والتّحطيم المعنوي تتنافى والقيم والأخلاق.
وبناء على ذلكَ، فإنَّ السّخرية في ميدان التّنافس السياسي، سواء كانت من أفرادٍ أو أحزاب أو جماعات أو كيانات أخرى عاملةٍ، دون تطاولٍ منها على ثوابت الدّين وبدهيّاته؛ هي مما لا يجوز بحال.
وهي مشمولةٌ بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرا مِّنْهُنَّ" (الحجرات:11).
نجومُ البرامج السّاخرة إذ يسخر بعضهم من بعض
لستُ أدري كيفَ يقبلُ نجم برنامج ساخرٍ أن يجنّد طاقته للسخرية من زميلٍ له، يفترض أنّه شريكه في خندق الحق ومواجهة الطغيان والاستبداد؟!
ولكنّه التنافسُ غير البريءِ والخضوع لابتزاز أجندات الدّاعمين، والكارثة في أنّ هذه السّخرية تلبسُ زورا وبهتانا ثوب الانتصار للحقيقةِ والغضب للمبادئ!!
وهذا النّوع من السّخرية محرّمٌ لا شكّ في ذلك، وهو يحملُ إلى جانب بشاعة السّخرية معنى التّنازع والتّفرّق الذي بشّر الله تعالى أربابه بالفشل والخسران؛ فقال: "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (الأنفال: 46).
فمن يفعل ذلك كيفَ يؤتمن على حقّ وقضيّة عدل ووطن يستبيحه الطّغاة والمجرمون؟!
غمزٌ ولمزٌ بالجهودِ والأعمال
من الطّبيعي أن يختلف النّاس في دائرة عملهم لأجل قضيّة الحق، لكنّ غير الطّبيعي على الإطلاق، أن يهدموا جهود بعضهم بعضا.
ومن الطّبيعيّ ألا يرضيكَ عملٌ ما وتراه غير ذي جدوى، لكنّ غير الطّبيعي أن تتلقّفه بالسّخرية التي تشوّهه وتجعله هشيما تذروه رياح الخصومات الذّاتيّة والسياسيّة والحزبيّة والفكريّة.
وقد يصل الأمر إلى أن يغدو التشكيك السّاخر بأيّ أحد وأيّ عملٍ منهجا للبعض، وعن هذا تماما تحدّث البيان الإلهيّ موثّقا حادثة سخريةٍ من الأفعال في وقت الأزمات؛ وما أخطره من وقت!!
ففي غزوة العسرة عانى المسلمون شدائد وأزمات اقتصاديّة وأمنيّة كبيرة، وانتدب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم النّاس للبذل والعطاء، فكان المنافقون لهم بالمرصاد ساخرين من العطاء الكثيرِ والقليل على السّواء.
فأنزل الله تعالى قوله: "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (التوبة: 79).
والعدوّ المتربّص والظالم المستحكم هم من سيقلبون على ظهورهم ضحكا من هذا النّوع من السّخرية، وهم يرون العاملين لأجل الحقّ ينقضون غزلهم من بعد قوّةٍ أنكاثا.
ولعلّك تسأل: كيف نضبطُ هذه المسألة في زحمة تداخل السلبيّ بالإيجابيّ من الأعمال؟!
أوّلا؛ من خلال التّفريق بين الأعمال الإيجابيّة والأفعال السلبيّة التي تضرّ ضررا محضا واضحا لا لبسَ فيه بالحقّ وأهله، فتجوز السّخرية من هذه الأفعال صريحة الضّرر التي لا تخدمُ إلّا العدوّ.
ثانيا؛ إن كانت هذه الأفعال المضرّة خطأ عابرا واجتهادا باطلا وليست نهجا عامّا، فالمطلوب هو استهدافُ الأفعال المضرّة دون أصحابها العاملين في دائرة الحقّ بالسّخرية، وهذا ما تفرضه الأخوّة والأخلاق العمليّة البعيدة عن الشّعاراتيّة.
تعميمُ السّخرية من شريحة اجتماعيّة أو فكرية أو مناطقيّة
في التّعميم الذي يقع به بعض القائمين على البرامج السّاخرة تكمن المعضلة؛ إذ إنَّ جزءا من هذه الشّريحة المجتمعيّة المسخور منها، يكون قد ساند الظّلم والباطل فعلا، لكنّ الحقيقة الكاملة تقول إنَّ هناك جزءا منها أيضا قد وقف مع الحقّ وسانده ونافح عنه.
ولعلّ من أوضح الأمثلة على هذا النّوع من السّخرية، ما يجري من استهداف شريحة المشايخ والدّعاة عموما بالسّخرية دون تفريق بين أهل الحق وأهل الباطل فيهم، أو السّخرية من أهل مدينةٍ أو قرية وصمها الناس بموالاة الطّاغية.
ولو أنّك دقّقت قليلا في هذا النّوع من السّخرية لوجدتَه ينطوي على خطرين عظيمين:
الأوّل؛ خطرُ التّعميم الذي يصيب عددا غير يسيرٍ من الأفراد بالظّلم بجريرة غيرهم.
الثّاني؛ أنَّ تعميم السّخرية على الشّريحة كلّها سينسحب على الفكرة التي تحملها وتتبنّاها هذه الشّريحة.
ولذلك نجدُ القرآن الكريم قد أغلظَ القول في هذا النّوع من السّخرية، وعدّه من المزالق الخطيرة التي تزلّ بها الأقدام.
فعند عودة النبي صلّى الله عليه وسلّم من تبوك، جلس بعض المنافقين في مجلسٍ يستهزئون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان من جملة استهزائهم وسخريتهم أنّهم سخروا من شريحة القرّاء الذين كانوا يعلّمون النّاس القرآن، وقالوا: "ما رأينَا مثل قرّائنا هؤلاء أرغبَ بطونا ولا أكذبَ ألسنا ولا أجبنَ عند اللّقاء!".
وكون تعميم السّخرية من هؤلاء القرّاء كان موصلا لمحاولة هدم الفكرة التي يحملونَها وهي آيات الله تعالى، فقد استدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستجوبهم عن سخريتهم هذه، فبرّروها أنّها كانت مجرّد خوض ولعب؛ فقالوا "إنّما كنّا نخوض ونلعب".
فأنزل الله تعالى قوله: "وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَة بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ" (التّوبة: 65-66).
وكما هي الجراحة الدّقيقة تحتاجُ هذه الصورة إلى ضبط؛ والضّوابط هي:
أولا؛ أن يتمّ التّفريق في الشّريحة ذاتها بين أهل الحقّ وأهل الباطل، والتّأكيد أنّ المستهدف بالسّخرية هم أهل الباطل دون غيرهم.
ثانيا؛ أن يكون هناك تعبيرات واضحة على أنّ استهداف أهل الباطل من الشّريحة لا يلزم منه استهداف الفكرة التي يحملونها.
وختاما
فإنَّ السّخرية من المخالف مزلقٌ عظيمٌ وخطرها كبير وضبطها يحتاج إلى دقّة وتدقيق، فكلّ ما يشرذم الصّفّ في مواجهة الباطل، ويفتّ في عضد العاملين ويشتّت الجهود ويثير الضّغائن ويحيي نزغات الشّياطين، فهو شرٌّ مستطير.