أصول قراءة المصائب والآفات في الإسلام في ظل نازلة فيروس الكورونا
بقلم محمد غورماز
الحمد الله ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
إخوتي الأعزاء
في مستهل حديثي أقول لأمتنا والعالم أجمع : حمداً لله على السلامة ، أرجو من الله أن ينجينا من هذا الوباء الذي حل بنا عاجلاً ، كما أدعو بالرحمة لمن رحل من إخوتنا إلى دار الآخرة ، وأضرع إلى ربنا أن يتجلى باسمه الشافي على البشرية جمعاء ، راجياً منه تعالى أن يلهم عباده العلماء دواء هذا الوباء ، وأبتهل إليه جل جلاله أن يرفع برحمته الأزلية الخوف والقلق من قلوب عباده الضعفاء .
إخوتي الأعزاء
في هذه المؤسسة العلمية ؛ معهد التفكر الإسلامي ، نجري مع طلابنا دراسات حول علم الأصول بشطريه .. أصول فهم الإسلام بصورتها الكلية ، وأصول العلوم الإسلامية ، وقد تم إقرارهما تخصصاً رئيساً في هذا المعهد .
في ظل هذه الظروف الاستثنائية العصيبة التي نمر بها ، أود الوقوف عند قاعدة أصولية مختلفة ، وأريد الإشارة إلى قضية نخالفها كثيراً ، أريد أن أتحدث إليكم عن أصول قراءة المصائب والآفات والأمراض في الإسلام .. كيف ينبغي لنا – من آمن بالله – أن نفهم مثل هذه الآفات ؟
أهي حقاً – كما يزعم البعض – عذابٌ إلهي ..؟ أم رحمة نجهلها.. ؟ أم هي القيامة على حد تعبير بعض المغالين ..؟ أم هي آية وعبرة إلهية ؟ .. ماذا يقول كتابنا الأبدي ؛ القرآن الكريم في هذا الشأن ؟ وما هي وصايا حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في هذه القضية ..؟
في حديثنا الأصولي لهذا اليوم سأحاول الإجابة على هذه التساؤلات في إطار قدراتي المتواضعة ..
إن الإنسانية اليوم أمام عالم جديد لم يكد يشهدها على مر التاريخ ، ففي فترة وجيزة دخلت الإنسانية .. بشرقها ، وغربها وشمالها وجنوبها عالماً جديداً، وقد يتحدث التاريخ عن هذه المرحلة بـ ما قبل كورونا وما بعد كورونا من يدري؟! .. خلال فترة قصيرة قبل ثلاثة أشهر تقريباً أسر فيروس ظهر في مدينة وهان الصينيةِ الإنسانيةَ جمعاء ، وكادت الحياة أن تتوقف ، الدول أغلقت حدودها ، والمواصلات انخفضت إلى حدٍ أدنى ، وتباطأت عجلة الحياة التجارية ، توقف التعليم ، والعبادة الجماعية ، وأغلقت الكعبة لأول مرة في التاريخ ، وتوقف الطواف والسعي ، وأغلق المسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ، وأترست أبواب المساجد أمام روادها ، وخلت المدن والأحياء من قاطنيها ، واعتكف الناس في منازلهم .. ، ولا شك أنها ليست المرة الأولى التي تواجه الإنسانية فيها هذا النوع من الوباء ، فالتاريخ مليء بهذه المصائب ؛ وهو حافلٌ بالآفات ، والمجاعات ، والجفاف ، والأمراض ، آلاف مؤلفة من البشر راحوا ضحية الأمراض المعدية كـ الكوليرا والسل ، والحمى ، والإنفلونزا ، والسارس ، والإيدز ، وفي العهود الأولى للإسلام في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه ظهر طاعون عمواس الذي أودى بحياة 25 ألف إنسان بينهم عشرات من خيار الصحابة ، بل دعونا لا نذهب بعيداً ففي أوائل القرن الماضي أثناء الحرب العالمية الأولى فقدت أوروبا ثلث سكانها من الأمراض المعدية ، لكنها إخوتي الأكارم لا تشبه ما نعيشه اليوم ، فلم يتحول الوباء الذي ظهر على مر التاريخ إلى وباء عالمي ، نعم .. الإنسانية اليوم أمام وباء عالمي ، أثار فيها الرعب والقلق ، وأقضت مضجعها وحاقها العجز وبات يدفعها إلى مستقبل يلفه الغموض … ظهر ذلك في عالم تعيش الإنسانية فيه ذروة قوتها وعنفوانها ، في عالمٍ يخالل طفرة معرفية ، وعلمية ، وتقنية ، واتصالية ، عالمٍ يشهد إنتاج أسلحة كيميائية من شأنها أن تدمر البشرية ، في وقت تخطط البشرية لمستقبل جديد عبر تقنية النانو ، في عالم يشهد قفزة في الطب وصناعة الدواء .. في عالم يبحث عن سبل الخلود الجسماني .. في عالمٍ يتحرى سبل الحياة في الفضاء ، في فترة فشا فيها الكِبر ، والغي ، والبطر … فيروسٌ صغير لا يرى بالعين المجردة أسر حياة الإنسانية ، فأغلقنا الأبواب على أنفسنا وبدأنا ننتظر عواقبنا المجهولة ، في هذه الفترة تقوم وزارة الصحة ، والكوادر الطبية والأطباء بأداء مسؤولياتها على أتم وجه .. جزاهم الله خيراً ، نُشركهم في دعائنا ، فهم يرشدوننا إلى كيفية الإعتناء بالنظافة ، وسبل الاهتداء إلى شروط الحجر الصحي من جميع جوانبها .
غدت وسائل الإعلام ، وشبكات التواصل الإجتماعي اليوم تشارك حالات الإصابة من الصين إلى إيطاليا ومن إيران إلى الولايات المتحدة الأمريكية في كل آنٍ وزمان مع الإنسانية جمعاء ، لكن ثمت قضية جدُّ مهمة لم تحظ بالاهتمام ألا وهي الجانب الإنساني ، إذ لم يأخذ البعد الإجتماعي والمجتمعي حقه من البحث ، ولم يخطّ الكُتّاب البُعد الروحي والغيبي من هذا الوباء ، في حين أن المسألة تجاوزت حدود الصحة ، ولا شك أن الإنسانية ستختلف فيها أيضاً ، وسيجنح العلماء والفلاسفة وعلماء الشريعة الإسلامية إلى تقييم هذه القضية كلٌ من زاويته ، ولا يمكننا الوصول إلى نتيجة صحيحة فيها إلا بتناولها بطريقة كلية وشاملة ، وهذا ما سأسعى إليه في هذا الدرس المتواضع ، فالعلم يفسر هذا النوع من المسائل ، ويشرح لنا الأسباب ، والفلسفة تغربل المسائل بغربال العقل وتدفعنا إلى التفكر ، أما الدين فيصبغها بالمعنى ، ويحفزنا إلى تأمل معانيها الظاهرة والخفية . و المعنى الذي يقدمه الدين -من مقاربة إسلامية – لا يهمل التفسير العلمي ، والفكر الفلسفي ، إذ إن العلم ليس إلا تفسيراً للآيات التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكآئنات ، وأما العقل والتدبر فهما أكبر نعمتين أنعمهما الله على الإنسان ، ولم يتأت تبديد المخاوف والهموم على مدار التاريخ ، ونزع خشية الموت من القلوب أو حتى قتل الموت بالموت بتعبير شاعرنا إلا بالروح العالية التي يبثها الدين في النفس ، وكذلك اليوم يمكننا فهم ما يجري فهماً صحيحاً بالمعنى الذي يقرره الإسلام دون إغفال العلم والعقل.
إخوتي الأعزاء
في القرون الأولى التي فتر فيها الوحي جنحت البشرية إلى تفسير ما يتوالى عليها من المصائب والآفات حيناً بالخرافات والتعويذات ، وحيناً بالتنجيم ، وغالباً ما ربطتها بغضب الآلهة أو حروبها ، وأحياناً عزوها إلى أناس ينعتونهم بالشؤم ، أما الوحي الإلهي الذي جمع بين التكوين والتنزيل فقد هدى الناس في هذه القضية إلى سواء السبيل ، المُجرد من الخرافات ، فإذا ما تناولنا الوحي إلهي بصورة كلية ، وكذلك الإنسان والوحي والكون ، نجد أن هذا النوع من المصائب ما هي إلا آيات إلهية ، وليست عذاباً كما يدعي البعض .. يقول ربنا جل في علاه في سورة فاطر ” وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)” وأما في الآية 46 من سورة فصلت يقول ربنا ” وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ” وليست بالقيامة كما ذهب إلى ذلك بعض المغالين إذ علم الساعة لم يعط لنبي من الأنبياء ، وإعلامهم بالعلامات لا يعني بالضرورة إعلامهم بوقت وقوعها .
إخوتي الأكارم
إن هذه المصائب التي حلت بنا ما هي إلا آيات ، والمعنى المعجمي للآية :”العلامة والأمارة “؛ فكل مؤمن يستخرج من هذه العلامة والأمارة عِبراً مختلفةً ، ولا تُقرأ العلامات والأمارات على ضوء العبارات بل على ضوء العِبر ، وما جاء قوله تعالى :” فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ” إلا تأييداً لهذا المعنى ، حتى أنه سبحانه وتعالى لم يصف الطوفان زمن نوحٍ عليه السلام بالمصيبة إذ يقول في ذلك :” وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ۖ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)” .
إن قراءة هذه المصيبة التي حلت بنا باعتبارها آيةً إلهيةً سيدفع البعض إلى ربطها بسوء استغلال الإنسانية للكون ، وسيتحدث البعض الآخر عن عجز الكون عن حمل الإنسان ، وسيحيلها آخرون إلى المآسي التي تجري في أراكان ، وتركستان الشرقية ، وسوريا ، واليمن … أما البعض فسيربط إغلاق الدول لحدودها بإغلاق هذه الدول أبوابها في وجه المهاجرين السوريين ، وآخرون سيحيلونها إلى الصراعات العالمية التي تجري على أكتاف الشعب السوري المضطهد ، وغيرهم سيتحرى عن أسبابها في جثث الأطفال الذين قذفتهم مياه البحر الأبيض المتوسط ، وبعض الناس سيربطونها بنسيان الإنسان لنفسه وبيته وقلبه وروحه وربه في عصر السرعة هذه ، والبعض الآخر سيحيل أسباب إغلاق الأبواب على أنفسنا إلى إهمالنا لزوجاتنا ، وأهلنا ، وأولادنا ، كما سيحيل بعض المؤمنين إغلاق أبواب الحرمين والمسجد الأقصى والمساجد في وجوهنا ومنع الجمع والجماعات إلى إهمالهم وتركهم في رحمة الأيادي الغريبة ، وسيربطها بعض الآخر على استحالة غفران ذنوبنا بين العمرة والعمرة وبين الحج والحج ، وبين الجمعة والجمعة ، وسيُعْزيها البعض إلى آلام أطفال أفريقيا ممن يتضورون جوعاً ، وآخرون سيربطون الحجر الصحي الذي ألجأنا إليه أنفسنا بحصار غزة من عشرات السنين ، والبعض سيتحرى عن ذلك في تخلينا عن الأغذية الحلال التي أغدقها الله علينا … كل هذه المعاني ستغدو صحيحة إذا ما قيمنا ما حل بنا آية ربانية .. وستدفع هذه المعاني الغنيةِ البشريةَ إلى مزيد من التأمل ، وستنقلها إلى ميدان رحمة جديدة .
وإذا ما قرأ المرءُ المصائبَ على هذا الوجه فإن ذلك سيدفعه إلى محاسبة نفسه ، وإعادة النظر في علاقته مع الدنيا ، وتنظيم علاقته مع زوجته ، وأصحابه وأسرته …
إن الإعراض عن هذه المعاني الغنية اللامتناهية ، وربط ما يحل بنا من المصائب بشخص أو حدثٍ ، أو مجتمع ما ، وتفسيرها بالعذاب الإلهي أو القيامة إن دل على شيء إنما يدل على عدم قراءة الآيات الأزلية ، ويبعدنا ذلك عن الاعتبار ، ويحبسنا في حدود العبارة ، ولا يحل مشاكلنا بله يعمق أزماتنا …
إن العقبات التي تحول دون فهمنا لمثل هذه المصائب على ضوء الوحي الإلهي تتنوع على النحو التالي :
الأولى – عدم تأويل هذه المصائب بصورة تلغي مسؤوليات الإنسان ، يقول ربنا جل جلاله في الآية (41) من سورة الروم ” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ “
الثانية – في تأويل المصائب التي تحل بنا ينبغي عدم الإعراض عن خالق الأكوان ، فمن الخطأ الفاحش قراءة هذه المصائب بعيداً عن الله وسننه الكونية .
الثالثة – أن يضع المرء نفسه مكان الذات الإلهية والعياذ بالله ، فقول المرء ما هذه المصيبة التي نزلت بحق مجتمع فلاني إلا لتعاطيهم لكذا … حديثٌ باسم الذات الإلهية وهذا عمل مجانب للصواب .
الرابعة – تجاهل الأسباب التي خلقها الله تعالى وترك التدبير ، فتوصيات السلطات الصحية ودوائرها في مثل هذه الأمراض الوبائية ، هي توصيات دينية ، فحفظ النفس من أعظم المبادئ التي سعى الإسلام إلى صونها ، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أربعة عشر قرن مبادئ الحجر الصحي على أتم وجه فأوصى بفصل الأصحاء عن المرضى ، فمنع الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون، ومنع كذلك أهل تلك البلدة من الخروج منها ، وحين علم سيدنا عمر بن الخطاب أثناء خروجه إلى الشام بظهور الوباء فيها قفل راجعاً فقال أبو عبيدة بن الجراح : أفراراً من قدر الله ؟ قال عمر : نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله .
يمكننا تقسيم التدابير المتخذة لمواجهة هذا الوباء إلى ثلاثة أقسام :
بداية وكما أشرنا إلى ذلك آنفاً فاللجوء إلى الوسائل العصرية التي من شأنها أن تحول دون انتشار العدوى من وصايا الدين ، فنجعل بقاءنا في المنزل وسيلة للتعاطف الأسري ، وفرصة لتحويل منازلنا إلى مصلىً لأداء صلواتنا في ظل إغلاق المساجد .
والإجراء الثاني أن يكتشف العلماء العلاج الناجع لهذا الداء ، فكشف مثل هذا الدواء يبلّغ المرء أعلى الدرجات ، وينبغي على البشرية أن توقف السباق في مجال إنتاج الأسلحة المدمرة والتوجه إلى حل مشاكل بعضهم ، أما العلاج الأخير والعظيم فيكمن في الدعاء إذ يقول ربنا جل جلاله في في الآية (42) و(43) من سورة الأنعام :” وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43).
إخوتي الأعزاء
لا شك أن الإبتهال إلى خالقنا جل في علاه بالدعاء والصلاة من أعظم الغايات وأشرفها ، ومن الأهمية بمكان أن نخصص مع أفراد أسرتنا وقتاً للتضرع إلى الله ، وإن من أقرب الأدعية إلى القبول والإستجابة هي الأدعية العملية ، دعونا من اليوم فصاعداً أن نحوّل دعائنا إلى حركة خيرية كبيرة ، فإكرام صاحب المنزل والمتجر لأخيه المستأجر في هذه الأيام العصيبة لَهو مِن أعظم الأدعية وأجلها ، ومن عظيم الدعاء أيضاً أن يستمر رب العمل في أداء أجرة العامل الذي منعته الظروف الراهنة من القيام بعمله ، وكذلك مساعدة المرء لجاره الذي لم يستطع التسوق ، إن من أعظم الأدعية التي تستنزل الرحمات الإلهية وترفع أنواع البلاء والمصائب في هذه الأوقات العصيبة أن يقوم المرء بحملة خيرية كبيرة ، وأن نشد عضد بعضنا ، وليتنا نحوّل الإمتناع عن المصافحة إلى لقاء للقلوب وملامسة لشغافها …
وأختم حديثي بدعاء سيدنا أيوب عليه السلام ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾