هل الدعاء الضارع وذكرُ الله فرديا أو جماعيا لرفع وباء كورونا بدعة؟!!
بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد،
فقد ظهرت مقولات هنا وهناك على وسائل التواصل الاجتماعي مع نازلة فيروس كرورنا تصف ما يفعله الناس من دعاء وتضرع واستغفار لله تعالى بأنه بدعة!! ولا أدري عن أي بدعة يتحدثون، وإلى أي شرع ينتسبون؟!
إن الشرع الشريف دعا الناس عند نزول البأس بهم إلى التضرع، قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَىٰۤ أُمَمࣲ مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذۡنَـٰهُم بِٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ لَعَلَّهُمۡ یَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوۡلَاۤ إِذۡ جَاۤءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُوا۟ وَلَـٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَزَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ (٤٣)﴾ [الأنعام ٤٢-٤٣].
بينت الآية الكريمة أن الغرض من أخذ الله للأمم بالبأساء والضراء هو التضرع، والتضرع كلمة يدخل فيها كل عبادة يَستحضر فيها العبدُ ذُلَّه واستكانتَه لله تعالى، وخضوعه لسلطانه، والتزامه بأمره، وانتهاءه عن نهيه.
قال الإمام الرازي في تفسيرها: ” إنَّما أرْسَلْنا الرُّسُلَ إلَيْهِمْ وإنَّما سَلَّطْنا البَأْساءَ والضَّرّاءَ عَلَيْهِمْ لِأجْلِ أنْ يَتَضَرَّعُوا. ومَعْنى التَّضَرُّعِ التَّخَشُّعُ وهو عِبارَةٌ عَنِ الِانْقِيادِ وتَرَكِ التَّمَرُّدِ، وأصْلُهُ مِنَ الضَّراعَةِ وهي الذِّلَّةُ، يُقالُ ضَرَعَ الرَّجُلُ يَضْرَعُ ضَراعَةً فَهو ضارِعٌ أيْ ذَلِيلٌ ضَعِيفٌ، والمَعْنى أنَّهُ تَعالى أعْلَمَ نَبِيَّهُ أنَّهُ قَدْ أرْسَلَ قَبْلَهُ إلى أقْوامٍ بَلَغُوا في القَسْوَةِ إلى أنْ أُخِذُوا بِالشِّدَّةِ في أنْفُسِهِمْ وأمْوالِهِمْ فَلَمْ يَخْضَعُوا ولَمْ يَتَضَرَّعُوا، والمَقْصُودُ مِنهُ التَّسْلِيَةُ لِلنَّبِيِّ ﷺ”.
وقال العلامة رشيد رضا في تفسير المنار: “وَمَعْنَى الْآيَةِ: نُقْسِمُ أَنَّنَا قَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَدَعَوْهُمْ إِلَى تَوْحِيدِنَا وَعِبَادَتِنَا فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ ابْتِلَاءٍ وَاخْتِبَارٍ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُعِدًّا لَهُمْ لِلْإِيمَانِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ – بِحَسَبِ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ – مِنَ التَّضَرُّعِ وَالْجُؤَارِ بِالدُّعَاءِ لِرَبِّهِمْ، إِذْ مَضَتْ سُنَّتُنَا بِجَعْلِ الشَّدَائِدِ مُرَبِّيَةً لِلنَّاسِ بِمَا تُرْجِعُ الْمَغْرُورِينَ عَنْ غُرُورِهِمْ، وَتَكُفُّ الْفُجَّارَ عَنْ فُجُورِهِمْ”.
والمقصود بالبأساء والضراء : الفقر، وضيق العيش، والمرض والسقم والألم، لعلهم يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون إذ الشدائد تصقل النفوس، وتنبت الرجال وتهذب الأخلاق، كما قال د. وهبة الزحيلي في تفسيره.
وأريد أن أنقل هنا نصا طويلا للعلامة محمد أبي زهرة من تفسيره “زهرة التفسير ” عند تفسيره لقوله تعالى: “لعلهم يتضرعون”، قال: “في هذا النص بيان لعلاج الله تعالى للأسقام النفسية للأمم التي تتعصى على الهداية، وعلى الاستقامة على الحق إذا دعوا إليه، فليس الناس جميعًا طلاب حق يتبعونه إذا هدوا إليه، ولا يستمعون إلى الحجة إذا سيقت إليهم، بل يعاندون ويكابرون، فهؤلاء يحتاجون إلى علاج دنيوي، وذلك بالشدائد تنزل بهم، لأن الجحود والمبالغة في الإنكار سببهما الاغترار بالدنيا وما فيها من متع، ولا علاج لغرور الجدة إلا بالحرمان منها ليذوقوا طعم المر بعد أن ذاقوا رطب العيش، ولا علاج لغرور الصحة إلا بالمرض حينا، ولا لعلاج للقوة إلا بالضعف. وعسى أن يكون هذا بصوره المختلفة باختلاف الداء مؤديا إلى شفاء النفس، والاتجاه بها إلى الهداية، وقد عالج الله تعالى حالهم بأمرين: أخذهم بالبأساء، وهي البؤس الشديد، والبؤس هو الفقر وضيق العيش حتى يكون ضنكا، وذلك يكون للأمم بالأزمات تجتاحها، وبجفاف النبات، وبالجوائح المبيدة وغيرها مما يصاب به اقتصاد الأمم، والثاني الضراء بالمرض تصاب به الأجسام وبالأوباء المرضية تتفشى بين الجماعات. ولقد فعل الله تعالى ذلك بفرعون وقومه عندما أصابه هو وهم الغرور وطغوا في البلاد. وقد قال تعالى في ذلك بعد أن سخروا بكل آية: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ (1) وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136). وإن الآلام علاج النفوس المغرورة بزخارف الدنيا.