فقه ذو القرنين في إحياء الشعوب؛ دعائم روحية وركائز تربوية
د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الرابعة
إنّ حركة ذي القرنين الدعوية والجهادية جعلته يحتكُّ بالشعوب والأُمم، وتكلّم القرآن الكريم عن رحلاته:
الرحلة الأولى:
لم يحدد القرآن الكريم نقطةَ الانطلاقِ فيها، وحدّد النهايةَ إلى مغرب الشمس، ووجد عندها قوماً، فدعاهم إلى الله تعالى، وسار فيهم بسيرة العدل والإصلاح، قال تعالى:
﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا﴾ ﴿نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا *﴾[الكهف: 87 ـ 88].
إنّها سياسةُ العدلِ التي تورث التمكين في الحكم والسلطة، وفي قلوب الناس الحبَّ والتكريمَ للمستقيمين، وإدخال الرُّعب في قلوب أهل الفساد والظلم، فالمؤمنُ المستقيمُ يجدُ الكرامةَ والودَّ والقربَ من الحاكم، ويكونُ بطانتَه وموضعَ عطفه وثقته، ورعاية مصالحه، وتيسير أموره، أمّا المعتدي المتجاوز للحد، المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض، فسيجدُ العذابَ الرادعَ من الحاكم في الحياة، ثم يردُّ إلى ربه يوم القيامة، ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في حياته الأولى.
الرحلة الثانية:
وهي رحلةُ المشرقِ، حيثُ يصلُ إلى مكانٍ يبرزُ لعين الرائي أنّ الشمس تطلعُ من خلفِ الأُفق، ولم يحدد السياق أهو بحرٌ أم يابسةٌ، إلا أنَّ القوم ذالذين كانوا عند مطلع الشمس كانوا في أرضٍ مكشوفة، بحيث لا يحجبهم عند شروقها مرتفعات جبلية أو أشجار سامقة، وذهب الشيخ محمد متولي الشعراوي إلى أنَّ المقصود بقوله تعالى: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا *﴾، هي بلاد القطب الذي تكونُ فيه الشمسُ ستة شهور، لا تغيبُ طوال هذه الشهور، ولا يوجدُ ظلام يستر الشمس في هذه الأماكن.
ونظرا لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن منها، وهو الدستور المعلن في رحلة الغرب لم يكرر هنا إعلان مبادئه، لأنها منهج حياة، ودستور دولة مترامية الأطراف، وسياسة أمم، فهو ملتزم بها أينما حل وارتحل.
الرحلة الثالثة:
تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الأرض والتعامل مع البشر، ومن حيث الأعمال التي قام بها، فلم يقتصر فيها على الأعمال الجهادية لكبح جماح الأشرار والمفسدين، بل قام بعمل عمراني هائل، أما الأرض فوعرة المسالك، وأما السكان فكأن وعورة الأرض قد أثرت في طبائعهم، وطريقة تخاطبهم مع غيرهم.
ففي التفاهم والمخاطبة لا يكاد الإنسان منهم يقدر على التعبير عما في نفسه، ولا أن يفقه ما يحدثه به غيره من غير بني قومه: (وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا) الكهف: 93
ونلاحظ من خلال السياق القرآني أن هؤلاء القوم اتصفوا بصفات منها:
هم قوم متخلفون (لا يكادون يفقهون قولا) هذا إما معناه أنهم لا يفقهون لغة غيرهم من الأقوام الأخرى، لأنهم لم يطلعوا عليها، ولم يتعلموها، فهم منغبقون على لغتهم فقط. وإما معناه: أن الكلام لا ينفع معهم، لأنهم لا يفقهون، ولا يتفاعلون معه، ولا يتفاهمون مع قائله، لا يفعلون هذا لجفاءٍ وغلظةٍ عندهم، أو لغفلةٍ وسذاجة في طبيعتهم.
هم قوم ضعفاء، ولذلك عجَزوا عن صدّ هجمات يأجوج ومأجوج والوقوف في وجههم، ومنع إفسادهم. هم قوم عاجزون عن الدفاع عن أرضهم، ومقاومة المعتدين، ولذلك لجأوا إلى قوة أخرى خارجية، قوة ذي القرنين، حيث طلبوا منه حلَّ مشكلاتهم والدفاع عن أراضيهم.
هم قوم اتكاليون كسالى، لا يريدون أن يبذلوا جهداً، ولا أن يقوموا بعمل، ولذلك أحالوا المشكلة على ذي القرنين، وأوكلوا إليه حلّها، أما هم فمستعدون لدفع المال له. لقد كان فقه ذي القرنين في التعامل مع الشعوب المستضعفة هو السعي الجاد لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العلم والتقدم والنشاط والقوة، فكان يدير العملَ بروحِ الجماعة، ويشترك بنفسه مع إشراك غيره، ويدلُّ على ذلك ضميرُ المتكلم الذي يتقابل في تسلسل متتابع رفيع مع ضمير المخاطب في النظم القرآني الكريم مما يشيرُ إلى روح الحماسة والحيوية والتعاون المشترك، قال تعالى: ﴿قَالَ مَا مَكَّنْنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا *آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا *﴾[الكهف: 95 ـ 96].
لقد كان ذو القرنين حريصاً على مصلحة الناس، ناصحاً لهم فيما يعود عليهم بالنفع، ولهذا طلب منهم المعونةَ الجسديةَ، لما في ذلك من تنشيط لهم، ورفع لمعنوياتهم، ومن نصحه وإخلاصه لهم، أنه بذل ما في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون، فهم طلبوا منه أن يجعلَ بينهم وبينَ القوم المفسدين سدّاً، أما هو فقد وعد بأن يجعل بينهم ردماً، والردم هو الحاجز الحصين، والحجاب المتين، وهو أكبرُ من السدِّ وأوثق، فوعدهم بأكثر ما يرجون.
لقد عفّ ذو القرنين عن أموال المستضعفين، وشرع في تعليمهم النشاط والعمل، والكسب، والسعي، فقال لهم: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا *﴾[الكهف: 95] إنّ في هذه العبارة القرآنية مَعْلَماً بارزاً في تضافر الجهود، وتوحيد الطاقات، والقدرات والقوى.
إنّ القيادة الحكيمة هي التي تستطيعُ أن تفجّرَ طاقاتِ المجتمع وتوجيهه نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة.
إنَّ المجتمعات البشرية غنيةٌ بالطاقات المتعددة في المجالات المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم والقوى المادية، ويأتي دورُ القيادة الربانية في الأمة لتربطَ بين كلِّ الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات، وتتجه بها نحو خير الأمة ورفعتها.
إنّ أمّتنا الإسلامية ملئ بالمواهب الضائعة والطاقات المعطلة والأموال المهدرة والأوقات المتبددة، والشباب الحيارى، وهي تنتظر من قيادتها في كافّة الأقطار والدول والبلاد لكي تأخذَ بقاعدة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون ومحاربة الجهل والكسل والتخلف.
إنّ ذا القرنين لم يكن موقفه مع المستضعفين حمايتهم، وإنما توريثهم أسبابَ القوة حتى يستطيعوا أن يقفوا أمام المفسدين، لقد كان ذو القرنين يستطيعُ أن يبقى حتّى يبدأ يأجوج ومأجوج في الهجوم، ثم يهاجم ويهزمهم، ولكنّ الله سبحانه وتعالى يريدُ أن يلفتنا إلى أنّه ليس من وظيفة الحاكم أو الملك أن يظلَّ في انتظار هجوم الظالم، ولكن وظيفته منع وقوع الظلم.
ولم يأتِ ذو القرنين بجيوشٍ لحماية المستضعفين مع قدرته على ذلك، وإنّما طلب منهم أن يعينوه ليساعدهم على حماية أنفسهم، ويتعلّموا فنونَ الحماية، ويكسبوا خبرات، ويتدرّبوا على العمل الجاد المثمر، فيبنون السدَّ بأيديهم، وهذا أدعى للحفاظِ عليه، وإصلاحِهِ إنْ أصابه شيءٌ.
إنّ ذا القرنين رفضَ أن يكونَ هؤلاء المستضعفون عاطلين، وهذا يلفتنا إلى أنّ عطاءَ الله سبحانه وتعالى عطاءُ إمكانات، وعطاءٌ ذاتي في النفس.. عطاءُ الإمكانات هو ما تستطيع أن توفّره من وسائل تعينك على أداء العمل، والعطاء الذاتي في النفس هو القوة الذاتية داخلك، التي تعطيك طاقة العمل، وكثيرٌ منّا لا يلتفت إلى عطاء النفس.. لا يلتفتُ إلى أنّه فيه قوة يستطيع أن يعمل بها أعمالاً كثيرة، وأنّه لا يستخدمها، وأنّ لديه قوة تحمّل بإمكانه أن ينتقل من مكانٍ إلى اخر.. وأن يعملَ أعمالاً كثيرة.
إنَّ ذا القرنين لم يستعن بجيشه ولا بأناس اخرين، إنَّما استعان بهؤلاء الضعفاء وطلب منهم أن يأتوه بالحديد، ثم بناء السدّ، بحيث وصل به إلى قمة الجبلين، ثم قام بصهر الحديد، وأفرغ عليه النحاس، ليكون السد في غاية المتانة والقوة.
إذن فهو قوّى هؤلاء الضعفاء الذين كان يهاجمهم يأجوج ومأجوج، بأنْ علّمهم كيف يعينون أنفسهم، وكيف يبنون السد، وجعلهم هم الذين يشتركون في البناء، وهم الذين يقيمونه، وأعانهم هو بخبرته وعلمه فقط، ليأخذوا الثقة في أنفسهم بأنهم يستطيعون حماية أنفسهم، وليتعلّموا ما يعينهم ويحميهم، والإسلام ينهانـا أن نعوّد الناس على الكسل، أو نعطيهم أجراً بلا عمل، لأنّ ذلك هو الذي يفسِدُ المجتمع، فالإنسـاـنُ متى تقـاضى أجراً بلا عمل لا يمكن أن يعمل بعد ذلك أبـداً.
إنّ ذا القرنين قام بمهمّة الحاكم الممكَّن له في الأرض، فقوّى المستضعفين، وجعلهم قادرين على حماية أنفسهم من العدوان، فلا يعتمدون على حماية أحد، ولم يترك الناس في مقاعد المتفرجين، بل نقلهم إلى ساحة العاملين، فعندما تحرّك القومُ المستضعفون نحو العمل بقيادة ذي القرنين، وصلوا إلى هدفهم المنشود، وغايتهم المطلوبة.
ونقف مع ذي القرنين بعد أن أتمَّ بناء السد:
نظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تُسْكِرْه نشوةُ القوةِ والعلمِ، ولكنّه ذكر الله فشكره، وردَّ إليه العملَ الصالح الذي وفّقه إليه.
ذكر ذي القرنين لربه عند إنجاز عمله يعلّمنا كيف يكونُ ذكرُ الله سبحانه، فإنَّ مِنْ أعظمِ صور الذكر، هي أن يذكر العبدُ ربَّه عند توفيقه في عملٍ، فيستشعر أنّ هذا بأمرِ ربّه، فيتواضع ويعدل، ويذكر، ويشكر.
كان بناءُ السدِّ رحمةً من الله تعالى، وقد استخدم ذو القرنين علمَه الذي علّمه الله إياه، وتمكينه الذي مكّنه الله له، استخدمه في مساعدةِ الناس، وتقديم الخير لهم، ومنع العدوان عنهم، فكان علمُه رحمةً من ربه، وكان استخدامه له رحمةً من ربه.
كان القوم مهدّدين بيأجوج ومأجوج، معرّضين لإفسادهم، ولم يحمهم منهم إلا الله ببناء السد، فكان السدُّ رحمة من الله لهم، وكان خلاصاً لهم وإنقاذاً بإذن الله، فلو لم يتمَّ عملٌ ولا جهدٌ ولا حركةٌ، لما انقذوا أنفسهم من الخطر، لأنَّ الإنقاذَ لا يتمُّ إلا بالعمل والجهد المتواصل وتكاتف الجهود والانقياد الطوعي للشعوب لشرع الله خلف القيادة الربانية ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا *﴾ [الكهف 98].
المصادر والمراجع:
- علي محمد الصلابي، سنة الله في الأخذ بالأسباب، 2017، دار الروضة للطباعة والنشر والتوزيع، استنبول، ص(22:17)
- صلاح الخالدي، مع قصص السابقين في القران، (2/338)
-أبو بكر بن العربي، أحكام القرآن، (3/243).
- سيد قطب، في ظلال القران (4/2293).
- محمد متولي الشعراوي، القصص القراني في سورة الكهف، ص (93).
- مصطفى مسلم، مباحث في التفسير الموضوعي، ص (304).