بسم الله الرحمن الرحيم
أخلاق الأزمة الصعبة في الإسلام
أ.د محمد غورماز
رئيس معهد التفكر الإسلامي
أنقرة - تركيا
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسولنا محمد وعلى آله وأصحابه آجمعين .
إخوتي الأكارم بدايةً أحييكم بتحية الإسلام ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
لا يسعني في مستهل حديثي هذا إلا أن أسأل المولى الباري برفع البأس عن أمتنا والعالم الإسلامي والأسرة الإنسانية جمعاء ، كما أتقدم بخالص الدعاء إلى أطبائنا والعاملين في القطاع الصحي ممن يحموننا من هذا الوباء مخاطرين بأنفسهم في هذه المراحل العصيبة .
ينبغي أن ننصاع اليوم إلى إرشادات وتوجيهات سلطات الرعاية الصحية ، إذ ذاك من أوامر ديننا الحنيف ؛ فصون أمانة النفس التي وهبنا إياها المولى جل جلاله هو من أجلّ الواجبات المنوطة على كواهلنا ، إن ملازمتنا للمنازل درءاً لنقل العدوى إلى الآخرين بمثابة الانتظار في خندق المواجهة ضد العدو ورصد تحركاته ، أسأل الله تبارك وتعالى أن يسهّل أمرنا ...
إخوتي الأكارم
سبق لنا في الأسبوع الفائت أنْ تناولنا في معهدنا هذا " أصول فهم المصائب والآفات في الإسلام " ، واليوم أود في درسنا هذا أن أتناول موضوع " إيمان الأزمنة الصعبة وأخلاقها" ، أعلم أن اليوم يوم أخذ الدروس والعبر لا يوم إلقاء المحاضرات .. يوم تسوية المشاكل لا يوم بث الشكاوى ، غير أنني آمل عبر هذا الموضوع الذي سأتناوله أن أسهم إلى حدٍ ما في معالجة المشاكل التي ألمت بنا وسبل القضاء عليها .
إخوتي الأعزاء
صحيحٌ أن هناك مراحل عصيبة تمر بها الأمم والمجتمعات ، غير البشرية اليوم بشرقها وغربها ، وجنوبها وشمالها ، بغنيها وفقيرها ودون تمييز بين عظيمها وذليلها- وربما لأول مرة – تمر بمرحلة جد عصيبة ، يعبر القرآن الكريم عن هذه المراحل العصيبة من حياة الإنسان بمفهومين إثنين ألا وهما " البأسآء والضرآء " ، وتتناول الآيات التي تذكر هذين المفهومين إيمانَ الفترات العصيبة وأخلاقها ؛ فإيمان الفترات العصيبة رجوعٌ إلى الله يحدوه أملٌ عظيم .. بثُّ لشعور الأمل والسرور في الإنسان .. وعدم اليأس والقنوط .. إذ لا يليق بالمؤمن في هذه الأيام العصيبة أن ينتابه شعور باليأس والقنوط ، وقد ساوى القرآن العظيم في هذه الآيات بين البطر في الرخاء ، واليأس والقنوط في الشدة ، حيث ذمّ المولى هاتين الصفتين في الإنسان في مواضع كثيرة من كتابه العزيز ، ففي الآية 83 من سورة الإسراء يقول ربنا جل وعلا :" وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ۖ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا " ، ويقول تعالى في الآية 36 من سورة الروم : " وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ " ويشير سبحانه وتعالى إلى هاتين الصفتين في الإنسان في الآية 49 من سورة فصلت " لَّا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ " .
وههنا في هذه المراحل العصيبة لا يفقد المؤمن أمله وثقته بالله تعالى فيسعى حثيثاً إلى مقارعة الصعوبات وتغييرها ، وتذكر الآيات نفسها أخلاق الظروف العصيبة ؛ وهي خلق الإحسان والإيثار والإنفاق والعفو والصبر ...
فممن أخلاق الظروف العصيبة " الإحسان " وهو أن تجعله مقابل الإساءة ، وأن تمد يد العون إلى أخيك ولا تدعه يهلك ..
من أخلاق الظروف العصيبة " الإيثارُ " بأن نؤثر إخواننا وجيراننا على أنفسنا ...
من أخلاق الظروف العصيبة " الإنفاقُ " ننفق ما نمتلكه على إخواننا ...
من أخلاق الظروف العصيبة " العفو " فنتحلى بالصفح عن الآخرين ونتجاوزعن سيآتهم ...
من أخلاق الظروف العصيبة " الصبر " ولا يعني مكابدة المشاق فالصبر في القرآن الكريم صمود في مواجهة المساوئ والأخطاء وعدم الوهن ... وقد أجمل الله تعالى هذه الصفات في الآية 35 من سورة فصلت " وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ " وفي الآية 134 من سورة آل عمران " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " ، ويقول حبيبنا المصطفى ﷺ :" عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ " رواه مسلم في باب الزهد .
إخوتي الأكارم
المبحث الثاني في هذا الدرس " كيف نعزز مناعتنا الروحية والاجتماعية ؟ " ، لا شك أن هذه الأيام ستمر وتنقضي بعون المولى جل جلاله ، ولا يبقى منها سوى أخلاقنا الفاضلة ، لا يقلّ تعزيز مناعتنا الروحية والاجتماعية أهميةً عن تقوية مناعتنا البدنية في مواجهة الفيروسات ، نعلم أن حفظ أمانة النفس التي منحنا الله إياها من أجلِّ أوامر الله تعالى ..
ففي الوقت الذي نحتاط في حفظ أبداننا ينبغي علينا بذل المزيد في صون إخوّتنا ووحدتنا ، فمع صون البعد الجسدي والاجتماعي مع الآخرين ينبغي أن لا نتجاهل الألفة بين القلوب ؛ فيجب أن يزداد قربنا المعنوي قدر ابتعادنا الجسدي .. يجب أن نبذل قصارى جهودنا في صون حيوتنا ووحدتنا الاجتماعية بينما نحجر على أنفسنا ... نبتعدُ عن الخطابات الإقصائية كافة ، وأن نولي مزيد اهتمام للسلم الإجتماعي .. ستمضي هذه المصيبة التي حلت بنا عاجلاً أم آجلاً لكن لن تلتئم جراحات القلوب التي ثُلمت في هذه الظروف العصيبة .
لتعلموا إخوتي الأكارم أن هناك مهاماً ومسؤوليات متنوعة تناط بالأفراد والمؤسسات بينما الأسرة البشرية تسعى في تخطي هذه المراحل العصيبة ، وأود أن أذكّر مرة أخرى أننا لن نتجاوز هذه المرحلة العصيبة إلا بالتكاتف وتظافر الجهود ، ولا تزال واجباتنا الإنسانية والإسلامية والأخلاقية مستمرة رغم اعتزالنا في المنازل ...
بادئ ذي بدء هناك مسؤوليات كبيرة على عاتق إخواننا الأثرياء في هذه الظروف العصيبة ، ففي مجتمعنا هناك ملايين من إخوتنا ممن يجنون أرزاقهم من أعمال يومية وقد ألجأتهم الظروف الراهنة إلى إلتزام منازلهم ، فاليوم يوم التوزيع والمقاسمة لا يوم الجمع .. إنها أيام الإنفاق كما في قوله تعالى "وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ " ينفقون ما رزقهم الله إياهم على عباده .. إنها أيام نحب فيها لغيرنا ما نحبه لأنفسنا .. أيام نفكر فيها غيرنا كما نفكر بأنفسنا ، لا شك أن هذه الأيام ستزول وتنقضي بعون المولى جل جلاله ولن يبقى منها سوى أعمالنا الخيرة وما كسبت أيدينا ...
أناشد إخواننا الأثرياء أن يزيدوا من أعطياتهم في هذه الأيام فيتنازلوا عن الايجارات الشهرية للمستأجرين ، وأن يواصلوا في دفع مرتبات عمالهم قدر الاستطاعة ، وأن يسعوا إلى أداء زكاة أموالهم التي أهملوها ، وأن يستخرجوا زكاة العام القابل إن أمكن لهم ذلك .
في هذه الظروف العصيبة تبرز أهمية الأسرة فهي وسيلة سعادة الدارين .. دعونا في هذه الأيام أن نحول عزلتنا الإجبارية في منازلنا إلى عزلة نشطة مضمخة بروح الاعتكاف .. دعونا نحوِّل منازلنا التي جعلناها متارس في وجه المصائب إلى موئلٍ لسعادة الدارين ، ولنكن على وعي تام بأن منازلنا تتسع لحياتنا الأخروية كما وسعت حياتنا الدنيوية ، ولنحوّل العالم الرقمي إلى حقيقة ملموسة بتسخيره في السؤال عن أقاربنا وجيراننا وتفقد أحوالهم ، ولنستغل فرص التواصل العصري في تحويل منازلنا إلى مدارس للعلم والمعرفة كما أرشد الله تعالى موسى وأخاه هارون في كتابه العزيز في الآية 87 من سورة يونس " وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ " .
أعزائي الشباب
في هذه الظروف العصيبة على كواهلكم مسؤوليات مهمة ، ففي الوقت الذي تتحامون فيه عن الوباء ينبغي أن لا تهملوا المسنين ، وتؤدوا واجباتكم تجاههم وتلبوا حاجاتهم ، ولنستفد من تجاربهم ونحن نعد دراسات للمستقبل ، والواقع أن ثقافتنا تنبذ مفهوم المسنين وتستخدم بدل ذلك عبارة الشيوخ و تعني وجهاء المجتمع وخيارهم ، فتجد الخير والبركة في كل مكان يطؤونه ، وما عليكم وأنتم تحافظون على التباعد الجسدي إلا أن تعززوا الروابط الوجدانية معهم .
أسيادي ومشايخي العلماء الأجلاء
هناك مسؤوليات منوطة على أعناقكم في هذه الظروف العصيبة ، ولنحذر من الوقوع في الخطأ كما هو الحال في كل قضية ، فلا نتسرع ونختلف في تأويل هذا الوباء الذي حل بنا ، فنذهب مذاهب شتى فنصِف الفيروس تارة بدابة الأرض .. وتارة بـ يأجوج ومأجوج .. وتارة أخرى بعذابٍ إلهي .. أرجوكم لا تبتعدوا من معين العلم والحكمة في تأويل أمثال هذه الحوادث ، فنرجم عبارة القرآن بالغيب ، ففي مثل هذه الجوائج أسيادي العلماء ينبغي أن لا ندع تديننا يمرض ، فلا نتصرف بتصور جزئي للعالم وعلم ناقص ، يجب أن تكون نظرتنا للعالم نظرة كلية وأن نقيّم الآيات الكونية والتكوينية ، والقرآن والسنة والإنسان والعقل والنقل تقييماً سوياً ... إن هذه الظروف غير مواتٍ للتنظير اللاهوتي ، فالكوارث الكبيرة على مدى التاريخ كانت بؤراً ملائمة لنمو الخرافات التي من شأنها إفساد العقائد .. دعونا ننهي المناقشات الدينية البعيدة عن القيم الأخلاقية للنقاش على مواقع التواصل الاجتماعي ، ولنكن دعاة للأمل والتفاؤل لا دعاة للكلام ..
نواجه اليوم في دار البلاء وباءاً عالمياً مليئاً بالدروس والعبر ، فلا يمكن توجيه الناس إلى الله تعالى بخوف وهمي إن كنا جادين في استغلال هذا الوباء وجعله وسيلة لهداية الناس ، ولا يحق لأحد أن يصوّر ربنا الرحمن الرحيم إلهاً يشتاط غضباً ويمطر العقاب ، وليس من الصواب التوسل إلى ذلك بتفريغ العبر والدروس في سنن الله الكونية من محتواها وسترها بأدبيات آخر الزمان .
إنه تعالى بصفة الرحمن حكم على الكون .. كتب الرحمة على نفسه فلا يخص عباده المؤمنين دون غيرهم بنعمه ، فينعم على الطائع والعاصي بل ربما يغدق على العاصي أكثر من الطائع .
إن مهمة العلماء المسلمين اليوم هي إعداد إجابات علمية لأسئلة واستفسارات إخواننا الشباب حول قضايا الشر ، وتوضيح العلاقة القائمة بين هذه الشرور المحيطة بنا والرحمة الإلهية والعدالة الإلهية بصورة صحيحة .. وسنكرس أحد دروسنا القادمة بإذنه تعالى حول هذا الموضوع .
إن من واجب علمائنا اليوم أن يبادروا إلى إعداد أفكار علمية حول قضايا كثييرة من قبيل كيف سيؤثر العالم ما بعد فيروس كورونا على الدين الإسلامي ؟ وكيف سيكون شكل حياتنا الدينية والروحية ؟ ...
إخوتي الأكارم
يقول ربنا تبارك وتعالى في الآية 216 من سورة البقرة " وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " لا ندري ربما يحتاج عالمنا الذي أرهقناه كثيراً إلى بعض الهدوء والراحة .. أرهقنا الطبيعة كثيراً ، ربما كان علينا إعادة النظر في مدى انتهاكنا لنواميس الطبيعة فقد قال تعالى في الآية 7 و 8 من سورة الرحمن " وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴿٧﴾ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ﴿٨﴾ " فإذا ما فسد الميزان الذي وضعه الله تعالى أُرهقت الطبيعةُ ومرضت البشرية وتتلوث المياه ، ويُمرض الطعام ، ويقتلُ الدواء .. ربما كان علينا أن نتوقف قليلاً ونلق السمع إلى همسات ضمائرنا ، ربما تقودنا هذه المصيبة إلى كشف قيمة الإنسان وكرامته وغاية خلقه وحكمته ، وقد كشفت هذه المصيبة مدى هشاشة غطرسة الإنسان وكبريائه في الوقت الذي غدا فيه سباق القوة سمة أساسية للحياة .
لقد غدا هذا الكون والطبيعة نعمةً ونقمة على الإنسان ، لكن الباري جل جلاله أودع في الإنسان قوةَ وإمكانية تحويل هذه النقمة إلى نعمة .. فكم من مصيبة حولها الإنسان على مدى التاريخ إلى رحمة ، ولا شك أنه بالمعرفة والعزم والتصميم مع التوكل على الله سيتم القضاء على هذا الوباء العالمي بإذنه تعالى ، وقد أظهرت لنا هذه الحادثة التي ألمت بنا أن الإنسان وطن لأخيه الإنسان وشفاءٌ له وليس العكس.
أسأل الله تبارك وتعالى أن تستخرج الإنسانية من هذا الوباء دروساً وعبراً تجعلهم صفاً واحداً ضد عدوهم المشترك فعدوهم في هذه المرة كان فيروساً ، لكن كم من أعداء اُخر للإنسانية لاحصر لهم من قبيل حب السلطة والأنانية والظلم والجهل والطغيان ... ربما ما نعيشه اليوم كان من صنيع هؤلاء الأعداء ..
إخوتي الأعزاء
أختم حديثي بدعاء أبينا آدم وأمنا حواء في الآية 23 من سورة الأعراف " قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ "
أحييكم بتحية الإسلام " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " .