الرابط المختصر :
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين.
سبحان مبدل الأحوال(تأملات في زمن كورونا المستجد )
بقلم : عبد المجيد بنمسعود
تمهيد:
إن من المسلمات العقدية التي تستقر في عقل ووجدان كل مسلم، أن من شأن الله عز وجل وصفاته جل وعلا، أن يبدل أحوال الناس أفرادا وجماعات وأمما، وفق حكمته، ومن خلال سنن وقوانين وضعها – سبحانه – في هذا الكون الفسيح المترامي الأطراف، وأن هذا التبديل يجري وفق صفة العدل الإلهي التي تتنافى مع أي مظهر من مظاهر الظلم أو الحيف ، مصداقا لقوله تعالى: » ولا يظلم ربك أحدا »، وقوله عز وجل: » وما ربك بظلام للعبيد » وأن الظلم من شأن الإنسان، فالله عز وجل يقول: » وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » وهو يعني زيغانا عن الطريق، وانحرافا عن الجادة، ووضعا للأشياء في غير موضعها، مما يخلف اختلالا يطول المجال أو الجانب الذي يقع فيه الظلم، فيؤثر في سير الحياة، وفي منظومة هذا الكون التي تترابط مكوناتها وحلقاتها. ويقاس حجم أو أثر الاختلال الحاصل، بحجم الظلم المقترف ، وبحسب درجة أهمية وخطورة الدائرة التي يمسها فعل الظلم، بحيث يمكن أن نمثل لذلك الأثر بنقطة أو بقعة سوداء تشين دائرة الواقع أو الكيان الذي يقع عليه الظلم، وأن تلك البقعة تظل مستمرة في التمدد والاتساع، باستمرار الظلم، حتى تغطي الدائرة جلها أو كلها، فيصبح الظلم في وضعية الظهور والطغيان.
ومن المعلوم، على سبيل المثال، أن أعظم ظلم يرتكبه الإنسان من منظور الإسلام الذي ارتضاه الخالق جل وعلا دينا للإنسانية جمعاء، هو الشرك، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: » إن الشرك لظلم عظيم ». لأن جميع أنواع الظلم تصدر منه، باعتباره اعتداء على مقام الإله جل جلاله، وتمردا على أمره، ينتج عنه جميع المفاسد التي تضرب الوجود الإنساني في الصميم، لأن حركة الإنسان في ظل الشرك تكون محكومة بالأهواء. يقول الله عز وجل: » ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت الأرض ».
نستنتج من هذا، أن ما دون الشرك من أنواع الظلم، يظل دونه من حيث ما ينتج عنه من مفاسد، بدليل قوله تعالى: » إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. » ومن المعلوم أن الله عز وجل لا يضره شرك المشركين، كما لا ينفعه إيمان المؤمنين، ولكن ذلك الشرك ، يلحق خرابا بالعمران والاجتماع البشري، ينتج عنه ضرر فادح وأذى كبير للإنسان، يحول حياته إلى معاناة ممضة وشقاء مقيم.
ولأن إيمان المؤمنين يمثل انسجاما مع حركة الفطرة، ووفاء بالعهد الذي أخذه الله على الإنسان في عالم الذر، مصداقا لقوله تعالى: » وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى… « ، فإنه سبحانه وتعالى يحبهم ويباهي بهم ملائكته، ويشملهم بعفوه ومغفرته إذا آبوا وتابوا وأنابوا وأصلحوا بعد أن زلوا وأخطئوا ، لما يصحب فعل الأوبة والتوبة والإنابة من ترميم لحركة الحياة،وإصلاح لمسارها، وسد لثغراتها، أي ثغرات أفعال الإنسان، وجبر لعثراته، شريطة أن تجري حركة الإنسان داخل إطار النظام العام ، والمنهج التام الذي أنزله الباري سبحانه وتعالى وأمر الإنسان بترسم خطواته، واحترام مقتضياته وأحكامه، أي تطبيق شرعه الحكيم، والاقتداء في ذلك بنبيه الكريم، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم،. أما إذا جرت تلك الحركة خارج ذلك الإطار المحكم المنيع، فإن ذلك الخروج يمثل عصيانا سافرا، وخروجا نكدا عن سنة الكون، ونسقه القويم الذي خلقه سبحانه وتعالى بالحق، مصداقا لقوله جل وعلا: » وما خلقنا السموات والأرض إلا بالحق وأجل مسمى »( الأحقاف:3) وقوله جلت قدرته: » وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( الدخان: 38).
ولأن شرك المشركين يمثل معاكسة لحركة الفطرة، ونقضا لعهد الله عز وجل، فإن من شأن ذلك الفعل الشنيع أن يورث أصحابه غضب الله، ويحرمهم من حبه ورضاه، ويدمغهم باستحقاق عذاب الدنيا والآخرة،مصداقا لقوله تعالى: » فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ». ومعلوم أنه حيثما يكن الشرك يكن الفساد في الحال والمآل، وتضطرب الأحوال، ويصبح العالم عرضة للاختلالات والهزات، ويكتسي وجه الحياة كل أنواع المساوئ والتشوهات. وشواهد التاريخ خير دليل على هذه الحقيقة الوجودية الدامغة، التي تمثل سنة ثابتة من سنن الخلق. والقرآن الكريم، كتاب الله العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يعرض لنا صورا عديدة وناطقة، تعكس انطباق تلك السنة الربانية الخالدة. فمن يطالع ذلك الكتاب، تطالعه مصارع الأقوام الذين كذبوا بآيات الله وبرسله الكرام الذين أرسل على أيديهم تلك الآيات، يقول الله تعالى: » كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع، كل كذب الرسل فحق وعيد »( ق: 14).ويقول سبحانه وتعالى: » ٱلۡحَآقَّةُ مَا ٱلۡحَآقَّةُ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡحَآقَّةُ كَذَّبَتۡ ثَمُودُ وَعَادُۢ بِٱلۡقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهۡلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٞ فَأُهۡلِكُواْ بِرِيحٖ صَرۡصَرٍ عَاتِيَةٖ سَخَّرَهَا عَلَيۡهِمۡ سَبۡعَ لَيَالٖ وَثَمَٰنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومٗاۖ فَتَرَى ٱلۡقَوۡمَ فِيهَا صَرۡعَىٰ كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٍ خَاوِيَةٖ فَهَلۡ تَرَىٰ لَهُم مِّنۢ بَاقِيَةٖ وَجَآءَ فِرۡعَوۡنُ وَمَن قَبۡلَهُۥ وَٱلۡمُؤۡتَفِكَٰتُ بِٱلۡخَاطِئَةِ فَعَصَوۡاْ رَسُولَ رَبِّهِمۡ فَأَخَذَهُمۡ أَخۡذَةٗ رَّابِيَةً إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلۡمَآءُ حَمَلۡنَٰكُمۡ فِي ٱلۡجَارِيَةِ لِنَجۡعَلَهَا لَكُمۡ تَذۡكِرَةٗ وَتَعِيَهَآ أُذُنٞ وَٰعِيَةٞ ( 1- 12). ويقول الله تعالى: » فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »(العنكبوت: 40).
وإذا كان الله عز وجل يرسل عذابه ونقمته على المستكبرين المعاندين لأمره، كما هو واضح في القرآن الكريم، فإن حكمته البالغة اقتضت كذلك أن يرسل بالآيات تخويفا، عسى أن يعود العصاة إلى الجادة، ويرتدع من تسول لهم أنفسهم التطاول على حدود الله وحرماته، سبحانه وتعالى. يقول الله عز وجل: » وما نرسل بالآيات إلا تخويفا »( الإسراء: 59)، ويقول الله تعالى: » ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس لنذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون »( الروم:41).
وظهور الفساد، إما بروزه بعد أن كان مستترا، أو كثرته حتى يغلب على الصلاح كما يقول الشيخ متولي الشعراوي رحمه الله، في خواطره، ويكون ذلك الظهور نتاجا لتمادي الناس في اقتراف المعاصي،وإمعانهم في اختراق حدود الله، والاستهتار بتعاليمه وأوامره.
إن الأحوال التي تجري على بني آدم، تجري، إذن، بموجب سنن وقوانين، بثها رب الكون والإنسان، في الأنفس، كما بثها في الآفاق. وعبر الأنفس، كما عبر الآفاق، يجلي سبحانه وتعالى آياته لخلقه حتى يتبين لهم أنه الحق، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: » سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (فصلت: 53).
تأملات في رسالة كورونا من خلال الآيات: ( الإسراء 51، الروم 41، فصلت 53):
بينما الناس في غيهم سادرون، وفي طغيانهم يعمهون، وفي نواديهم يلعبون، آمنين مكر الله وعقابه، إذا بأمر الله العزيز الحكيم، يصدر لمخلوق من مخلوقاته الدقيقة، لايرى بالعين المجردة، ينتمي إلى فصيلة الفيروسات، أطلق عليه العلماء المختصون : كورونا المستجد، كوفيد 19.
ورد في موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية،أنه (اعتبارا من 31 كانون الثاني (يناير) 2020، تأكد وجود ما يقرب من 75,775 حالة، بما في ذلك كامل مقاطعات الصين).
ومنذ ذلك الحين، بدأ فيروس كورونا ينتشر عبر العالم انتشار النار في الهشيم، غير آبه بحدود ولا سدود، ولا مكترث بجواز ولا تأشيرة، فليست هذه إلا أسماء وضعها الإنسان المغرور الذي ظن بأنه يملك الحدود والسدود، وبأنه استطاع أن يبسط سيطرته على الكون، ويتحكم في مصيره، وأن بمقدوره أن يتنبأ بمآلاته المستقبلية وكأنه يراها رأي العين، ويتلمسها من عن كثب. وإلى ما قبل وفود هذا الزائر الغريب بأيام قلائل، ظنت قوى الاستكبار العالمي، أن الأمور قد استتبت لها، وأن العالم قد أصبح بين يديها كالطائر المهيض الجناح، أو الفريسة التي لا حول لها ولاقوة أمام من يهم بالانقضاض عليها لافتراسها والتهامها، وأنها لا تملك إلا سلاح التذلل والاستعطاف، وذرف الدموع عند أعتاب من يريد افتراسها.
وفي المقابل، ظل الذين استضعفوا من المذاليل المجرجرين في أوحال المهانة ، مستمرين في اعتقادهم أن مصائرهم، وأن عزتهم وسؤددهم رهين بأيدي هؤلاء المستكبرين الذين دانوا لهم بالولاء التام، وأراقوا ماء وجوههم عند أعتابهم، وقدموا لهم جميع أنواع القرابين، بما فيها القرابين الآدمية، ممن لم يحظوا بمباركتهم ورضاهم. أما الخسارة الكبرى التي لا تضاهيها خسارة، أنهم باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل.
في أيام قلائل، ومع سريان الموجة الأولى، أو الطلائع الأولى لجيش كورونا، كانت لا تزال لهجة الأشقى ،الذي كذب وتولى، على حالها، فقد طفق ينفخ أوداجه كالمعتاد، ويمط شفتيه في علو، ويلوح بقبضته في الهواء، في زهو وافتخار، ويقول بلهجة الموقن الواثق، » إننا سنقهر كورونا في أقرب وقت، وسنجند لها كل أنواع الأسلحة والعتاد، وسنخمد أنفاسها إلى الأبد. ولبلاهة الأشقى ظن أن هجمة كورونا لا تعدو أن تكون هجمة محدودة عابرة، وأنها تندرج في سياق الصراع الجيوستراتيجي الذي يخوضه بلده مع قوة أخرى ظنت هي الأخرى أنها ستتربع على عرش التجارة والاقتصاد، وأنها ستنازعه الريادة والسيادة، إلى الحد الذي جعله يزعم أن كورونا المستجد، يصطبغ بصبغة تلك القوة أو الدولة، وأنه خرج كالثعبان من جحور مختبراتها الملوثة، في سياق حرب جرثومية قذرة، لن يكونوا استثناء ممن سيصلون نارها .
غير أنه لم يمر إلا وقت قليل، قبل أن تنساح طلائع كورونا الزاحفة في ربوع بلد العم سام، وتوقع به خسائر في العتاد والأرواح.
ومهما يكن من أمر التحليلات أو التخرصات، أو السيناريوهات المتعلقة بمنشأ كورونا،وعوامل تخلقها، وانطلاقتها الأولى، فإن الأمر يعود في نهاية مطاف كل التحاليل والاستنتاجات، إلى مشيئة من هو في الأرض إله، وفي السماء إله ، وإرادته سبحانه وتعالى وتدبيره لهذا الكون، الذي لا يعزب عنه فيه أي شيء، مصداقا لقوله تعالى: » وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾(يونس: 61). وحتى لو افترضنا أن يكون ظهور كورونا نتيجة لعبث العابثين، وأثرا لكيد الكائدين، فإن حصيلة هذه العملية، لا تخرج بحال، عن مضمون ومفهوم المقولة المأثورة: » انقلب السحر على الساحر ».
وعلى إثر تصاعد موجات كورونا العاتية في أرجاء » الدولة العظمى »، وتزايد سرعتها المذهلة، وارتفاع أرقام الضحايا المسجلين على سبورات إحصاء الخسائر، ما كان من » الحاكم » المزهو، إلا أن تتقلص أوداجه، ويشحب وجهه، وترتخي قبضته، ويظهر كالقط المفزوع إزاء تسارع الأحداث، واتساع نطاق زحف كورونا المستجد، الرقم العصي على الكسر والتطويع، إلا أن يشاء رب كورونا ورب الخلائق جميعا.
انعكاسات كورونا على واقع العمران البشري: ( الدروس والعبر):
لا نجانب الصواب إذا قلنا بأن الذي حصل ويحصل في العالم بفعل اجتياح » جائحة » كورونا، يتعلق بانقلاب جذري وتحول خطير، فقد نجم تبدل شامل في واقع الناس، في مشارق الأرض ومغاربها، سينجم عنه لا محالة تبدل في المفاهيم والمقاييس التي تقاس بها الأشياء، وسنكون على موعد مع عملية فكرية وفلسفية كبرى، يعاد من خلالها النظر في كثير مما احتل موقع المسلمات في عقول قطاع كبير من البشر، ويشرع في مفاهيم بديلة تتسم بالعمق و الأصالة، ، وبمطابقتها لواقع الكون وحقائقه، وتتجاوز من ثمة الواقع المزري الذي رزحت تحته الثقافة العالمية، والذي عششت فيه السطحية والفجاجة، وتناسلت فيه النماذج المسمومة والملغومة، التي عملت بلا هوادة على جدع الإنسان وتشويه صورته، واغتيال إنسانيته، والإلقاء به في مجاهل سحيقة من الاغتراب والعذاب.
وإذا كانت الآثار التي ستخلفها كورونا ستشمل الشرق والغرب، فمما لا شك فيه أن تلك الآثار ستختلف من حيث الطابع ومن حيث الخصائص ما بين الشرق والغرب، مع اشتراك بينهما في بعض الآثار التي تمثل قاسما مشتركا يتناسب مع ما للإنسان في الشرق أو الغرب من خصائص وسمات عامة، تعود في النهاية إلى كونه مخلوقا آدميا خلقه الله عز وجل لغاية معلومة ومقصد أسمى.
أولا: الدرس العقدي: مما لا ريب فيه، أن الناس قد أنصتوا بعمق إلى كورونا وهي تعلمهم درسا في العقيدة قد لا ينسونه أبدا، هو أن لا متصرف في هذا الكون بحق إلا الله، يفعل فيه ما يشاء، ويقلبه كيف يشاء، وأنه صاحب الحول والطول، وأن الإنسان لا يتصرف فيه إلا بإذنه، وأن عليه أن يسترشد في ذلك التصرف وفق منهج الله وتعاليمه، وإن هو حاد عنها، فقد لا تلبث به الحياة حتى تقلب له ظهر المجن، فينقلب حسيرا مذموما، كما يحصل له الآن في زمن كورونا.
ومن مقتضيات هذا الدرس البليغ، أن يعرف الناس، وأن يوقنوا بأن الرزاق هو الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى قادر في لحظة من ليل أو نهار، أن يبعث عليهم من مخلوقاته، ما يمتص أرزاقهم، وما به يجف الضرع وييبس الزرع، وتصبح الأرض حصيدا كأن لم تغن بالأمس.
ألم يحذر الله عز وجل في قرآنه العظيم من اقتراف جريمة التعامل بالربا، وينذر مقترفيها حربا ضروسا منه سبحانه وتعالى ومن رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام؟ قال تعالى: » الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة : 275). وقال تعالى: (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله )البقرة: 278- 279)،
ها هي ذي دورة والمال والتجارة والاقتصاد، تتوقف إلا قليلا مما يسد الرمق، وهاهي خزانات الغذاء تهدد بالنضوب والإفناء، إذا استمرت كورونا في اجتياح البلاد والعباد،فمصانع إنتاج الغذاء، وغيرها من وحدات إنتاج مختلف السلع توقفت، إلا قليلا وأصبحت شبه خالية من أغلب أطرها وعمالها ومستخدميها، ونفذ كل هؤلاء بجلودهم مخافة التعرض للعدوى بفيروس كورونا، فشحت -إذن – موارد المال ومصادره، تبعا لتوقف عجلة الاقتصاد، وخمود حركة التبادل والتواصل على جميع الأصعدة والمستويات. فالطائرات التي كانت تحلق في جو السماء، واصلة بين الشعوب والأوطان، ألزمت بالجثوم في مطاراتها ليعلوها الغبار، وتعشش فيها العنكبوت، وآبار النفط التي كانت تزودها بالوقود، أصبحت في وحشة، والبواخر لزمت مرافئها وموانئها في استراحة قسرية من هول الأمواج. والخلاصة أن كل هذا التحول الرهيب قد تم بفعل فرار الناس إلى بيوتهم، وهم يسألون الله النجاة من العدوى بكورونا.
إنه درس بليغ في العقيدة في الله الواحد القهار، قدمته كورونا للعباد، خلاصته قول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات: 58). وقوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ( الأنعام: 65). وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( الأعراف96)،
لقد بات أهل القرى في مشارق الأرض ومغاربها، مؤمنوهم وكفارهم، أغنياؤهم وفقراؤهم، رجالهم ونساؤهم، شيوخهم وشبابهم، مثقفوهم وعوامهم، بات كل هؤلاء في ضيق من أمرهم، لقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وإن الواحد من كل هؤلاء ليتردد لفظ كورونا على لسانه يوميا عشرات أو مئات المرات. ولو أن كل هؤلاء درجوا على ذكر الله عز وجل مثل ذلك لكان لهم شأن آخر معه جلت قدرته وتقدست أسماؤه.
إنه لا ملجأ من الله إلا إليه، وليست كورونا إلا مخلوقا من خلق الله، تلقى أمر الله فنفذه بتمامه، بكل خشوع وإجلال. ولن يتوقف إلا بإذنه، وحتى إن تلقى الأمر بالتوقف في ساعة من ليل أو نهار، فليس ببعيد، إن لم يرعو العباد، وينيبوا إلى رب العباد، أن تتلقى كورونا الأمر بالعودة إلى وظيفة التربية القسرية للعباد،، وربما صدر الأمر من رب كورونا لأخوات لها من فصيلتها أو غير فصيلتها ليظاهروها و يشدوا من أزرها، فالله سبحانه وتعالى قال: » عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ( الإسراء: 8).
وإن مما يتوج هذا الدرس العقدي البليغ، إحساس الناس العميق بحاجتهم إلى رحمة الله وعنايته ولطفه، فراحوا يلهجون بالدعاء، ورفع أكف الضراعة إلى من رفع السماء بلا عمد، وبيده ملكوت كل شيء، وبيده النفع والضر، وراحوا يتواصون بلزوم الدعاء، والمداومة عليه آناء الليل وأطراف النهار، ويتبادلون عبر وسائط التواصل الاجتماعي مختلف صيغ الدعاء، لعل الله ينظر إليهم بعين الرحمة ويرفع عنهم البلاء، ويطهر بيئتهم من شر الوباء.
ثانيا: الدرس الخلقي والاجتماعي: أما الدرس الخلقي والاجتماعي، فقد تجلى في انبثاق مجموعة من القيم والممارسات الحضارية الراقية، أو بالأحرى في تقويها وارتفاع وتيرتها، واتساع نطاقها، وذلك من قبيل إغاثة الملهوف، والإحسان إلى الفقراء، فيما سمي بقفة كورونا، وبالإضافة إلى ما حصل بفعل كورونا من شحذ لعزيمة الجمعيات القائمة في مد يد العون إلى المحتاجين والمعوزين، فقد نشأت هيئات ولجان جديدة خصيصا ، للإسهام في الاستجابة لما يتطلبه الظرف العصيب من دعم وإسعاف.
لقد كان بلاء كورونا سببا في إخراج وتفجير خير ما عند الناس من خصال وسمات فطرية أصيلة، من قبيل الإحساس بآلام الآخرين، فعاد الإحساس بالجسد الواحد الذي تتداعى أعضاؤه بالحمى والسهر، إذا اشتكى أحد أعضائه، كما صور ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: » مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » .
وباستثناء بعض الممارسات المنافية لروح التضامن، التي ظهرت في الفترة الأولى لظهور الوباء، والتي تمثلت في الهلع، وما نتج عنه من سلوك الأثرة المتمثل في الإقبال على شراء المواد التموينية والمبالغة في التخزين- حتى إن بعض الأسواق الكبرى أفرغت من محتوياتها في ظرف وجيز- مما جعل مسئوليها يحرصون على إصدار بلاغات مطمئنة بشأن مخزون المواد الغذائية، باستثناء ذلك، فإن اللحمة الاجتماعية أظهرت مستوى لائقا ومطمئنا من روح التعاون والتضامن.
ولا ننسى في هذا الجانب، أن نسجل ما مثله الجهد الرسمي للدولة، والمتمثل في إنشاء صندوق خاص بمواجهة ما سمي بجائحة كورونا، والذي سرعان ما وجد دعما مشهودا تمثل في رفده وتغذيته من طرف الهيئات والمؤسسات والأشخاص الذاتيين، وقد وظف هذا الصندوق للقيام بدور مزدوج، يتمثل أحد شقيه في توفير العتاد والأجهزة الخاصة بمواجهة فيروس كورونا المستجد كوفيد 19، إيواء وتشخيصا وتطبيبا، ويتمثل الشق الآخر في جبر الأضرار التي تعرض لها قطاع عريض من التجار والصناع والعاملين المصنفين في القطاع غير المهيكل. لقد مثل هذا الجهد وجها مشرقا لتجسيد مسؤولية الدولة. ولا ينزع عنها هذه الصفة كون صنيعها داخلا في مقتضى المسؤولية والواجب.
ويدخل في هذا الجانب الخلقي والاجتماعي، الجهد الهائل الذي اضطلعت به السلطات الصحية المختصة، بجميع أطرها على اختلاف مواقعهم ومسؤولياتهم ، من إداريين مشرفين، وأطباء وتقنيين مشخصين، وأطباء معالجين، وممرضين مساعدين، وغيرهم من الفاعلين الصحيين، لقد أبان كل هؤلاء جميعا عن معادن أصيلة، وعن روح عالية للمواطنة ولإحساس بالواجب، أهلتهم لبذل ما يملكون من طاقات هائلة، بلغت في حالات كثيرة مستوى نكران الذات، والتضحية والاستماتة من أجل تحقيق المطلوب ،المتمثل في إنقاذ المصابين، وإعادة الأمل والبسمة إليهم وإلى ذويهم وأهليهم الذين يتحرقون شوقا إلى عودتهم سالمين غانمين.
وما يكون لي في هذا الباب، أن أغفل عن ذكر الدور الريادي الذي قام ويقوم به حراس الوطن، من رجال الأمن، والدرك الملكي والجيش الملكي، وكذا موظفو الداخلية وأعوان السلطة، في تأطير عملية الحجر الصحي، وضمان إنجاحه، حتى تخرج الأمة من هذه المحنة بسلام. لقد قدم كل هؤلاء تضحيات خالصة، وكانوا وسط المعمعة، يذودون عن الجماهير، ويوجهونهم إلى ما يضمن سلامتهم. ولا تزال عالقة بذهني صورة رجل الشرطة الذي بح صوته وهو يوجه نداءه للمواطنين في إحدى مدن المملكة، ولسان حاله أن ادخلوا بيوتكم لا تحطمنكم كورونا وأنتم لا تشعرون، ثم انتهى بأن انفجر باكيا، لما استشعره من هول الموقف، وجسامة المسؤولية.
لقد أخرج فيروس كورونا خير ما عند الشعب المغربي من خصال المروءة والنجدة والتضامن، وأتاح له فرصة ثمينة لإبراز نموذجه الخير، ونزعة الصلاح المستكنة في شخصيته وكيانه الأصيل.
ثالثا: الدرس الأسري: لقد مكنت كورونا الأسر من العودة إلى جمع الشمل بعد شتات، وأصبحت فرص الاجتماع والتواصل المستمر متوافرة صباح مساء، بعد أن كانت نادرة قبل حلول هذا الضيف الجديد. لا شك أن الأسر بفعل هذا الوضع قد استعادت وضعها الطبيعي السليم، وتمكنت من كسر حاجز الغربة والتباين الذي ظل سائدا بسبب استفحال سيطرة الهاتف النقال.
لقد تمكن أفراد الأسرة الواحدة من اكتشاف بعضهم البعض من جديد، بعد أن توارت حقائق الأبناء وراء غلاف سميك من التكتم والشرود، والجري وراء الأوهام، وخلف حجب كثيفة من الجهل بحقائق دين الإسلام، وقيمه السامية الرفيعة التي تشكل أرضية صلبة للتوافق والتماسك، وتدرأ كل عوامل الفرقة والتفكك والشقاق.
لقد جاءت كرونا، على قدر، لتهمس في آذان الآباء والأمهات أن التفتوا إلى فلذات أكبادكم بالنصح والإرشاد، وأن أدركوا نسلكم بالتقويم والتصحيح، حتى ينشأ قوي البنيان متين العماد، وأن ادرأوا عنه متلصصة الشياطين التي تتربص الدوائر بالبلاد والعباد.
ولتهمس في آذان الأبناء، أن أطيعوا آباءكم وأمهاتكم، وأن ألينوا لهم القياد، فهم خزان الحب الصادق الفياض، وموئل الحكمة العميق، الذي يوضح لكم مسالك الطريق، وأن اجتنبوا من الرفاق كل صفيق، وكل خوان أثيم يضج بالزعيق و النعيق.
لله درك يا كورونا، فقد كنت نعم الناصح الأمين، ورغم ما ظهر عليك من صفات الزجر والردع، فهدفك البعيد، لم يخرج البتة عن النصح والنفع.
فما أجدر أرباب الأسر أن يظلوا على العهد، وأن يكونوا في الموعد، زمن هذا المنعطف الخطير، وأن يغذوا نحو المعالي المسير.
رابعا: كورونا والبيئة، ( الدرس البيئي): لقد أقامت كورونا المتوجة بين ظهرانينا خلال هذه المدة القصيرة الطويلة، لتقوم بجهد هائل في تنظيف البيئة وتطهيرها من الفيروسات الشريرة الفاسدة، فخلال هذا الظرف الوجيز، كانت أول موجة مباركة من موجاتك يا كرونا، كفيلة بكنس الأماكن القذرة ، وإخماد أصوات المعربدين المنكرة، وإهراق السموم التي أزهقت النفوس ظلما وعدوانا، وخربت العقول، وأتلفت الأموال، ورملت النساء ويتمت الأطفال. اختفت الروائح المنتنة، واستعادت الأجواء رواءها وأريجها، وخنست وتهاوت الشياطين التي كانت تقيم أعراسها وحفلاتها في تلك الأماكن الموبوءة النتنة، وولت القهقرى نادبة مولولة، تندب حظها العاثر، وجيشها الخاسر. فهلا حافظ حراس البيئة المؤتمنون عليها، هلا حافظوا عليها نقية طاهرة كما ستتركها كورونا بإذن الله؟ نرجو ذلك بإذن الواحد الأحد الفرد الصمد.
خامسا: كورونا وقضايا السلام: لقد تمكنت كورونا خلال جولتها العابرة عبر ربوع العالم وقاراته الخمس، من تحقيق ما لم يحقق ولومعشار عشره المجلس المسمى مجلس الأمن، خلال تاريخه الطويل، الذي أنفق فيه الأموال الطائلة في غير ما طائل، معبرا عن عجزه الذريع، وتذبذبه الشنيع.
لقد زارت كورونا بؤر الصراع التي اشتعلت فيها، أو بالأحرى أشعلت فيها الحروب من قبل تجار الحروب المهووسين الألداء، ولاحظت بأسى شديد، أنها مركزة في العالم الإسلامي، وهناك سلمت على الأسرى، وأحصت القتلى، والجرحى والمعوقين، وعزت الأرامل والثكالى، ومسحت على رؤوس الأيتام، وذرفت غزير الدموع، وهي تتلو في خشوع، قول الباري عز وجل: ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة 64).
سادسا: كورونا والعلاقة بين الشرق والغرب( أو حوار الأديان والحضارات:
وفي هذا المجال المعقد والشائك، الذي أعيى الحكماء والزعماء، استطاعت كورونا بفضل الله وقوته، أن تفعل الشيء الكثير على أرض الواقع، لقد حققت إنجازات هائلة سيكون لها ما بعدها، إن توفرت الشروط، ولم ينقلب الغرب على أعقابه.
لقد مهدت كورونا الأجواء الروحية لنجاح أي حوار مستقبلي، بعد أن تكون قد أكملت مأموريتها وسط أهل هذه القرى الظالم أهلها. ألم تعد حناجر المؤذنين لتصدح عبر منارات مساجد المسلمين في الغرب، بعد أن ظلت مكتومة لمئات السنين من طرف الدول المسيحية المتعصبة؟، لقد انطلقت أصوات التكبير والتهليل الندية، وشهادة توحيد رب العالمين القدسية، والشهادة برسالة سيدنا محمد، سيد النبيين والمرسلين، عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، انطلقت لتخترق أجواء الفضاء، لتعلن إرهاصات ميلاد عهد جديد، يدخل فيه الناس في دين الله أفواجا.
ألم يصطف المسيحيون تحت وطأة الصدمة والحيرة وراء المسلمين في صفوف كسيرة، يركعون ويسجدون، ويتابعون حركات المسلمين، وهم في حالة بحث محموم، عن شيء تفتقده أرواحهم؟ عن إكسير الحياة؟ عن بلسم الروح؟ وليس فقط عن خلاص من كورونا؟ بل عن خلاص مما تهون أمامه آلام كورونا، عذاب الله في نار الجحيم، الذي لا محالة يصلاه الكافرون؟.
ألم تعزف فرق المسيحيين في كنائسهم أناشيد تمجد قيم ومعاني دين الإسلام، في أداء بديع تطرب له الأذواق، وتستثار به الأشواق؟
بلى، لقد وقع ذلك وأكثر، مما سيظهر في الآفاق، ويرسخ في الأعماق.
ستنطفئ كل الفقاقيع، وتنسى كل البهلوانيات الفجة التي مورست باسم التسامح والتقارب بين الأديان، وتعود دعوة الإسلام الخالدة، ناصعة البياض، مبرأة من كل سوء، تدعو إلى المحجة البيضاء، التي ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك. كما وصفها رسول الرحمة، سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام.
سيعلن الحوار الجاد، وسيكون بالتي هي أحسن، كما أمر الله عز وجل بقوله في كتابه الحكيم: ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( العنكبوت: 46)
سيعلن الحوار بين الشرق والغرب، بين الأديان والحضارات بمنهجه السديد الذي أمر به رب العالمين في قوله سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (آل عمران : 64)
سابعا: كورونا والفئة المكابرة: عندما حلت كورونا ضيفة على بلدنا، وبدأت تفعل فعلها، وتسقط ضحاياها، داخل الناس تخوف وترقب، وتهامس كثير منهم، ممن يمثلون الأغلبية، بما في ذلك المتعلمون وعامة الناس، وحتى أهل الفكر منهم والعلماء، مستشعرين هول الموقف، وعظم الخطب، وفداحة الصدمة، فقالوا إن ما ألم بنا من بلاء « كورونا » لا يبعد أن يكون عقابا إلهيا، في حجم الإنذار، لأنه لا يكتسي صبغة استئصالية، كتلك التي طبعت ألوان العقاب التي كان الله عز وجل ينزلها على من غبر من الأقوام، من أمثال عاد وثمود وإخوان لوط، وأصحاب الرس وقوم تبع، وغيرهم.
ومعلوم أن هذا الإحساس، أو هذا الوعي، لدى أفراد الشعب المغربي المسلم، أو غيره من الشعوب المسلمة، وعي سليم، ينسجم مع التصورات العقدية التي اتخذت في وجدانهم موقع الوعي الثقافي العام الذي يتلقاه الناس عبر مراحل التنشئة والتهذيب التي مروا بها خلال حياتهم، والذي يستقونه من مصادر مختلفة، ويشكل عندهم ما يسمى ب « الشاكلة الثقافية ». فليس هناك من منظور الوعي الديني أو الوعي الثقافي العام في بلاد المسلمين، مانع من أن يعبر المسلمون عن اعتقادهم، واقتناعهم، بأن ما ينزل بهم من بلاء، هو بسبب ما اقترفته أيديهم من آثام، وما أتوه من معاصي وذنوب عظام. بل إن ذلك الاعتقاد، من شأنه أن يؤثر إيجابا في سلوك المسلمين، لأنه يدخل في صميم الوازع الديني الذي يحفزهم أفرادا وجماعات، ومجتمعا عاما، على تجديد صلتهم بالله عز وجل من خلال التوبة والإنابة كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مقدمة هذا المقال، ومن ثم الإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وانتقالهم إلى حال من الصلاح، يستقيم به أمرهم، فيرضون ربهم، ويحصلون من ثم على معيته سبحانه وتعالى، وعونه وتأييده، ومباركته لهم في كدحهم وسعيهم في هذه الحياة الدنيا، التي هي ليست في منظور الإسلام إلا مزرعة للآخرة، التي يحصد كل واحد منهم فيها ما غرست يداه، أي ما قدمت من أعمال. يقول الله عز وجل: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (آل عمران :30)
غير أن فصيلا ممن يحسبون أنفسهم في عداد المثقفين المتنورين، أوربما رفعوا درجتهم إلى مقام أهل الفكر والنظر في البلاد، عارضوا بشدة هذا التصور أو الاعتقاد الذي له ما يسنده من شواهد القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، مما أوردت بعضها في سياق هذا الموضوع. فما أن تناهت إلى أسماعهم أصداء مواقف الشعب وعلمائه ومثقفيه الأصلاء، وهم يعبرون عن اعتقادهم المذكور في خضم ما خلفه فيروس كورونا المستجد من إصابات في صفوف الشعب، كان من ضمنها مجموعة أفضوا إلى ربهم بأجر الشهداء، حتى رفعوا عقائرهم بالنكير والاحتجاج، معتبرين أن هذه التصورات لا تعدو أن تكون أوهاما خالصة في عقول من يعتنقونها.
والمنطق السليم يقضي بأن هؤلاء، إن كانوا لا يشاطرون من تشكلوا بشاكلة الإسلام- وهم جمهور الأمة- اعتقادهم وقناعتهم، فإنه ليس من حقهم بتاتا أن يصادروا حقهم في الاعتقاد، وفي التعبير عن هذا الاعتقاد، في خضم ما ألم بهم من بلاء كورونا المستجد، أو غيره مما يمكن أن يصيبهم من أنواع البلاء، من قبيل الجدب أو الجفاف، على سبيل المثال. الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن سبب هذه المماحكة التي تكتسي طابع التحكم والقمع الفكري، وهو أمر في غاية الغرابة والنكارة.
ولا نحتاج إلى جهد فكري كبير لنجيب على هذا التساؤل، فالذي يتبدى واضحا في ضوء معرفتنا الكاملة بمذهبية هؤلاء، واختيارهم في الحياة، أن السبب في اعتراضهم على ربط كورونا بواقع الحال الذي ينطق ببعد صارخ عن تعاليم السماء، وإمعان في المعاصي على اختلاف أصنافها، هو أن التصريح بهذا الربط السببي بين المعاصي والبلاء، يعتبر بالنسبة ل »لمتنورين » إدانة غير مباشرة، من جهة، على اعتبار أن اختياراتهم الإيديولوجية، لا تتنافى مع ما يعتبره المسلمون سببا في البلاء النازل من السماء. كما أن ذلك التصريح السببي يعتبر، من جهة أخرى، دعوة لإصلاح الواقع، على أساس منظومة الإسلام المتكاملة الجوانب والأطراف، الأمر الذي يتنافى مع نموذج المجتمع الذي ينشدونه، ويبشرونه، من خلال ما يملكونه من وسائل وإمكانات. وهم لا ييأسون من السير في هذا السبيل، رغم أن قرائن الأحوال كلها،تحكم باستحالة تحقق ما ينشدون. وإنهم مدعوون في ضوء الحقائق الدامغة إلى الانخراط في مشروع الشعب المشروع، أي صاحب الشرعية في تقرير نمط الحياة الذي يرتضيه. وإذا لم يكن ذلك ممكنا، وهذا هو المظنون، فلا أقل من أن يلزموا الحياد، ويعيشوا حياتهم الخاصة كما يريدون، دون مساس بحقوق الشعب، فكل يعمل على شاكلته.يقول الله عز وجل: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا) ( الإسراء: 84).
ثامنا: سبحان مبدل الأحوال: هذه الصيغة في التسبيح مما ألف المسلمون ترديده في مختلف الأحوال، وإلى ما قبل حلول وباء كرونا، كان مضمون هذا التسبيح لا يعدو في عرف الناس ومفهومهم، التبدل في بعض المستويات الجزئية في حياة بعض الأفراد أو الجماعات، كأن يبدل الله عز وجل حال أحد الناس من الغنى إلى الفقر، أو من الفقر إلى الغنى، أو تبديل حاله من الصحة إلى السقم، أو من السقم إلى الصحة، وقس على ذلك ما هنالك من الحالات الجزئية في حياة الناس، بل قد يتعلق الأمر بتبدل يمس حتى بعض الأحوال العامة التي تمس قطاعا عريضا من الناس، أو ربما كل الناس، كما هو أمر الجفاف مثلا، أو ربما حتى بطاعون يحبس الناس في بلد من البلدان، ويمنعهم من الانتقال إلى بلد آخر كما ورد في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما أن تتبدل أحوال الناس جملة وتفصيلا، وبشكل جذري، فهذا هو الجديد الذي تم حدوثه على يد كورونا المستجد، فقد أصبح الناس من ساعتهم قابعين في منازلهم، بموجب الحجر الصحي الذي تقتضيه مصلحتهم، حتى يتجنبوا أسباب العدوى بهذا الفيروس الخطير، الذي يمكن أن يعلق بأي سطح من سطوح الأشياء، إضافة إلى أعضاء الإنسان، يديه ووجهه وشعره، وملابسه، وما إلى ذلك، مما جعل السلطات المختصة في البلد تشدد وصاياها وتعليماتها بتجنب كل ما من شأنه أن يجلب العدوى، وتدخل في أتون حركة دائبة لا هوادة فيها، من أجل تطويق هذا الفيروس، مستعينة بالله عز وجل، واتخاذ ما في وسعها من الأسباب.
وقد اضطرت كل هذه الحيثيات الناس إلى التنازل عن نمط الحياة الذي كانوا يحيونه، والذي كان يتميز بالانطلاق والسيحان، فأصبحت المرابطة في البيوت هي الأصل، والخروج هو الاستثناء الذي تفرضه الضرورة.
أصبح من اللازم، بمقتضى القوانين التي سنت بسبب كورونا، أن يمارسوا كل أنشطتهم داخل مربعهم السكني، عبر ما هو متاح لهم من وسائل، فمواصلة التعليم أصبحت تجري عن بعد، والرياضة كذلك، تمارس في الرقعة المحدودة، لكل من أراد أن يحافظ على جزء من لياقته البدنية، مع ما يقتضيه ذلك من صبر على ضيق المجال.
والأعمال الإدارية والتجارية التي سمحت باستمرارها كورونا، أصبحت تمارس كلها عبر الشابكة( الإنترنت)، وحدها المستشفيات والمصحات ومراكز التحليل، هي التي أصبحت في حركة دائبة مضاعفة تسابق الزمن، من أجل تقديم الخدمات الطبية المختلفة لكل من يحتاجها من المرضى المصابين والمحتملين.
وتقلص المشهد الإعلامي ليصبح محوره الوحيد هو متابعة الجديد من أخبار كورونا، إحصاء لعدد المصابين الجدد، أو عدد الموتى، أو عدد من تماثلوا للشفاء من المصابين، وأصبح أفراد الشعب على موعد مع نشرات المساء التي تبثها القنوات الوطنية، تشرئب أعناقهم نحو الشاشة، لمعرفة الجديد من الأخصائيين، ومتابعة شروحهم حول طبيعة المرض،أو طبيعة ما تم تحقيقه، على مستوى تطوير بنية الاستقبال والمواكبة، ليطمئنوا على الوضعية الصحية في البلاد.
أما الموت فقد أصبحت مصيبته مزدوجة أو مضاعفة، فلا من يشيع الموتى إلى قبورهم، ولا من يقيم لهم مجالس للعزاء،والذين يتمكنون من الناس المعدودين على رؤوس الأصابع من القيام بواجب العزاء، يقفون على عتبة منزل الفقيد، فيشيرون إليه باليد، ويعزونه بكلمات مقتضبة، ثم يتركونه يعالج لوحده ألم الفقد، ومرارة الغربة. فسبحان مبدل الأحوال.
وانعدمت زيارات الأقارب فيما بينهم، ولولا استثمار وسائل التواصل لغدت الوضعية النفسية للناس أكثر اختناقا وحرجا. فالحمد لله على لطف الله.
وأصبح الناس يحذرون من بعضهم بعضا، ويتوجس الواحد من الآخر خيفة، مع احتمال أن يكون الواقف أمامه من حامل الفيروس.
إنه ابتلاء بجميع المقاييس، ما ليخطر للناس على بال، لقد مثل رجة قوية للنفوس والعقول، للدولة والأفراد، لقد طال التبدل كل شيء، فسبحان مبدل الأحوال.
ولم يخطر على بال أحد من الناس على مر الأزمان، حتى في الأحلام، أن تقفل المساجد، بيوت الله، ويقال للناس أن يصلوا في بيوتهم، وأن تصدر الأوامر من السلطات المشرفة على المساجد، بالتخلص من المسابح وأحجار التيمم مخافة أن تكون حاملة لعدوى الفيروس. وأن يكتفى برفع الأذان، ليعرف عموم الناس أوقات الصلاة، فيقيموها في بيوتهم. فلله الأمر من قبل ومن بعد.
خاتمة: دروس وعبر من جائحة كورونا
أما بعد، فأطرح هذا السؤال المشروع: ما هي الدروس والعبر التي يمكننا استخلاصها من جائحة كورونا ؟
إذا أجبنا جوابا سطحيا، فسنتابع جمعية الأمم المتحدة في أن ما فعله فيروس كورونا المستجد، يتجاوز كونه وباء إلى كونه جائحة.
أما إذا أخذنا كل ما تم تسجيله في هذا المقال، من معطيات، وازددنا تعمقا في التحليل انطلاقا من منظور فلسفي يضع المآلات البعيدة في الاعتبار، فلن نتردد في الحكم على كورونا عبرة من العبر الالهية ، لأنها أصلحت الأنفس بإرجاعها إلى الله عز وجل الموصوف بالحكمة والرأفة والرحمة.
ولأنها كسحت كثيرا من مظاهر التعفن في سلوك الناس، وأبعدتهم عن مواطن الوباء الحقيقية، وألزمتهم بالخضوع إلى فترة راحة بيولوجية نفسية، وإلى دورة تدريبية، تصقل أرواحهم، وهم على مشارف شهر رمضان الأبرك، عسى الله جلت قدرته وتقدست أسماؤه، أن يردنا ردا جميلا إلى بيوته،ونحن أطهر ما نكون، لنستفيد من فرصة الصيام، مستصحبين موعظة كورونا البليغة في نفوسنا .
فنسأل الله أن يشملنا برحمته ويرفع عنا البلاء، إنه سبحانه سميع الدعاء.
والحمد لله رب العالمين