يا مجامعنا الفقهية، أفتونا يرحمكم الله!
أ. د. أحمد الريسوني
هناك ـ فيما يبدو لي ـ ثلاثة نقائص أو مشاكل، جامعة لأسباب الضعف والقصور في الدور الذي تضطلع به المجامع الفقهية وهيئات الإفتاء الجماعي بصفة عامة. ومن خلال معالجة هذه المشاكل الثلاث، يمكن الوصول إلى حالة أفضل للإفتاء الجماعي ولرسالته المنشودة اللائقة.
المشكلة الأولى: مشكلة المصداقية.
المشكلة الثانية : مشكلة الفعالية.
المشكلة الثالثة: ضعف الجرأة.
أولاً: مشكلة المصداقية
وأعني بالمصداقية: أن تكون مؤسسة الاجتهاد والفتوى ذاتَ مكانة مقدرة وكلمة مسموعة، لدى جمهور المسلمين عامة، وفي الأوساط العلمية بصفة خاصة، وأن تكون محل ثـقتهم وطمأنينتهم، فيما تقرره وتفتي به من أحكام واجتهادات.
ويتحقق عنصرالمصداقية من خلال أمرين لا بد منهما معا.
الأمر الأول يأتي ـ تلقائيا ـ من أعضاء الهيئة أنفسهم؛ فبقدر مصداقية كل واحد منهم، تتكون المصداقية الجماعية للهيئة. فحينما يرى الناس أن الهيئة قد ضمت أكثر العلماء علما وفضلا ونزاهة، فإنهم تلقائيا يضعون فيها ثقتهم وتقديرهم، ويصبحون متطلعين لما يصدر عنها، مستعدين للأخذ به وامتثاله، وتقديمه على ما خالفه.
وعلى العكس، حينما يرون أعضاء الهيئة على غير الصفة المذكورة، أو أنهم ليس لهم أثر ولا خبر، وأن المبعدين عن الهيئة، هم أعلى وأولى ممن هم فيها، وحين يدركون أن الهيئة لم تتشكل على هدى من الله، أي لم تتشكل على أسس علمية وموضوعية بريئة ونزيهة، وأن الاعتبارات السياسية، والانتمائية، أو الأمنية، قد تدخلت أو تحكمت في تشكيل الهيئة واختيارمَناختيرمِن أعضائها، واستبعاد مَن استُبعد منهم، فحينئذ يفقدون الثقة فيها، وينصرفون عنها إلى غيرها…
ولذلك لا بد أن يكون العلماء أنفسهم، هم الذين يختارون أعضاء المجامع والمجالس العلمية والهيئات الإفتائية. ومن بدهيات الاختيار: أن تكون المؤهلات العلمية، والقدرات الاجتهادية، والصفات الخلقية، هي المعايير الوحيدة المعتمدة فيه.
الأمر الثاني الذي يعطي المصداقية أو ينزعها، هو مدى الاستقلالية في العمل العلمي للمؤسسة الاجتهادية. هل هي حرة مستقلة ؟ أو تابعة خاضعة، أو هي بين بين؟ وهل هي أقرب إلى الاستقلالية، أم أقرب إلى التبعية ؟
الاستقلالية هنا تعني أن الهيئة لا تخضع في تداولاتها وقراراتها، لأي توجيهات أو تعليمات أو ضغوط من خارجها، وتعني أنها لا تجتمع لإصدار فتوى أو موقف محدد سلفا، ولا تجتمع لتسعف الحكومات وتعزز مواقفها وسياساتها بالسند الشرعي العلمائي.
نعم يمكن ـ بل ينبغي ـ أن تستمع الهيئة إلى وجهة نظر الحكومات وكل الجهات المعنية أو ذات الصلة بالموضوع، ولكنها بعد ذلك تتداول بكامل الحرية، وتقرر بكامل الاستقلالية. ويمكن أن تكون فتاواها موافقة أو مخالفة، جزئيا أو كليا…
وإذا كانت مصداقية المؤسسات الاجتهادية، هي لمصلحة هذه المؤسسات وما يصدر عنها، ولمصلحة جمهور الأمة، فإنها أيضا لمصلحة الدول والحكومات. ذلك أن مصداقية هذه المؤسسات الجماعية الراشدة المتوازنة، هي أفضل ضمانة وأقوى دعامة للاعتدال والرشد، والبعد عن التطرف والانحراف.
ومما يدعو إلى الاستغراب أن نرى بعض الدول تبادر إلى تنصيب هيئات ومجالس علمية وإفتائية، لكي تسد بها الفراغ، وتقدم بديلا لما يسود مجال الفتوى والتوجيه الديني، من تطرف وتضارب وعشوائية، لكنها تتعامل معها بما يفقدها أي مصداقية أو احترام أو قبول، لدى الرأي العام.
ثانيا: مشكلة ضعف الجرأة العلمية
الجرأة هنا إنما هي الجرأة في الحق والصواب والعدل والإنصاف. ولهذا فهي جرأة متسمة بالرشد والاتزان والإخلاص لله تعالى، وليست جرأة التهور أو السلاطة أو حب الظهور.
وما أعنيه بضعف الجرأة، يتمثل أولا في اجتناب العلماء ومؤسساتهم التطرقَ إلى كثير من القضايا، التي تعتبر من أصلها قضايا محظورة عن أي كلام، بدعوى أنها سياسية، أو سرية، أو حساسة أو خطيرة، أو مثيرة للجدل …وعلى سبيل المثال: قضية القواعد العسكرية الأجنبية المنتشرة في عدد من الدول العربية والإسلامية، هل هي حلال أو حرام؟ أم هي من الواجبات أو من المندوبات؟؟ أفتونا يرحمكم الله.
إن تحاشي مثل هذه القضايا والامتناع عن مناقشتها والإفتاء فيها، قد يدل على أن الهيئة تخضع للتوجيه والحجر، أو أنها تمارس الزجر الذاتي، وهو ما يصيبها في استقلاليتها ومصداقيتها. كما أن هذه القضايا المتروكة سيؤول أمرها وأمر الإفتاء فيها، إلى الأفراد على اختلاف مستوياتهم ومشاربهم وأغراضهم، وتكون لهم فيها الكلمة الأولى والأخيرة . وهذا عين ما يشكو منه ومن آثاره السادة الساسة…
كما يتمثل ضعف الجرأة كذلك في غلبة النزعة التقليدية المحافظة، والحرصِ على أن تكون الفتاوى والآراء الفقهية المعبر عنها، مُخَرَّجة ولا بد على وفق أقوال السابقين. وهذا اجترار لا اجتهاد.
ثالثا: مشكلة انعدام الفعاليةوأعني بالفاعلية: الاستثمار القوي والواسع للمؤسسة الفقهية، ولإنتاجها العلمي. فالدور المنوط بهذه المؤسسات، والآمال العقودة عليها، لا يتحققان بمجرد وجودها وإصدارها بضع فتاوٍ كل سنة، تدوَّن في بعض الكتب والمجلات … فالمجامع والهيئات الإفتائية الفاقدة للفعالية، لا يكاد يختلف وجودها عن عدم وجودها، ولا تكاد تختلف حياتها عن موتها.