البحث

التفاصيل

الأسباب والمسببات وتقدير الخالق تعالى

الرابط المختصر :

الأسباب والمسببات وتقدير الخالق تعالى

د. علي محمد الصلابي

الحلقة: الثانية عشر

1 ـ الجزاء الأخروي والأسباب:

لم يقتصر قانونُ السببية على إقامة الكون وتسييره فحسب، ولا على الثواب والعقاب الدنيوي وحدَه، وإنّما تجاوز ذلك ليكونَ الأصلُ أيضاً في الثواب والعقاب الأخروي، وذلك من كمال العدل الرباني والحكمة البالغة، والأصل في ذلك قوله تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا *﴾[النساء: 147]، فهذه الآية دالّةٌ على اعتبارِ سنّة الأسباب حتى في الجزاء الأخروي، إذ لا عذابَ إلا بكفران، فإذا انتفى السبب، وهو الكفر سواء الاعتقادي أو العملي. فلا عذابَ، بل هو نعيمٌ ودخول في معية المؤمنين، كما دلت على ذلك الآيات السابقة لهذه الآية، وهي التي بيّنت طريقَ الخلاصِ للمنافقين من نفاقهم، وسبيل قبول الله أعمالهم، فقالت بعد توعُّدِ المنافقين بالدرك الأسفل من النار: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ﴾ ﴿لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا *﴾[النساء: 146]. والآيات في اعتبار الأسباب في الجزاء الأخروي كثيرة، ومنها على سبيل المثال: قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ *﴾[الحاقة: 24]، وقوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*﴾[الطور:19]، وقوله تعالى: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾[آل عمران: 181 ـ 182]، وقوله تعالى: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا *إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا *جَزَاءً وِفَاقًا *﴾[النبأ: 24 ـ 26]، وقوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا﴾ ﴿كَانُوا يَكْسِبُونَ *﴾[التوبة: 95].
2 ـ الحث على طلب الأسباب في الأمور المكفولة:
ترشِدُنا الآيات القرآنية إلى أنّ الأمرَ الشرعيَّ قائمٌ على حَثِّ الخلق على الأخذ بالأسباب حتى في الأمور التي كفلها الله له بموجب فضله وكرمه، ومن شواهد ذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ *﴾ 15] فقد تكفّل الله برزق مخلوقاته بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ﴾ ﴿دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾[هود: 6]، وقال تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ *﴾[الذاريات: 22]، وقال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَآبَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾[العنكبوت: 60].
ولكنّه سبحانه جعل طريق وصول هذا الرزق وتحصيله في الأخذ بالأسباب، والسعي والكسب في الحياة، ومع تقدير الله للعبد في الرزق، فيجبُ عليه طرق الأسباب في طلب الرزق، وهذا لا ينافي التوكل، وزيادة الرزق جعل الله لها أسباباً منها:
أ ـ صلة الرحم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرّه أَنْ يُـبْسَطَ له في رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ له في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَه».
ب ـ تقوى الله: قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾[الطلاق: 2 ـ 3]، وكذلك اجتناب البغي، وظلم العباد، والرياء، وأكل مال اليتيم.
وكذلك الأسباب الطبيعية والمادية، كالسعي للرزق، وبذل الجهد، واختيار الأزمان المناسبة، وحسن اختار المكاسب النافعة ونحو ذلك، وهذه الأسبابُ والمسبّبات كلُّها بقدر الله تعالى ومشيئته.
وما أجملَ ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض الناس في زمنه عندما قال: لا يقعدنَّ أحدُكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهمَّ ارزقني، وقد علمَ أنَّ السماءَ لا تمطِرُ ذهباً ولا فِضّة، وإنّما يرزقُ الله تعالى بعضَهم من بعضٍ، أما قرأتم قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾[الجمعة: 10].
3 ـ مراعاة صورة الأسباب في الخوارق:
إذا كان الأصلُ في السنن الجارية هو تعلّق المسببات بأسبابها، وارتباطُ النتائج بمقدّماتها، فإنّ الأصل لا يتغير في السنن الخارقة المبنية على خرق العادة والأسباب، وعدم التغيير فيها يتمثّل في مراعاة صورة الأسباب في تلك الخوارق ليظلَّ قانون السببيةِ عالقاً بذهن المكلّف، ومرتبطاً بإقامة الكون وحركة الحياة، والقرآن الكريم زاخرٌ بالآيات التي يمكن  الاستدلالُ بها في هذا الصدد، منها قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ﴾ [البقرة: 60]، وفي الكلام حذف تقديره: فضرب فانفجرت، قال القرطبي: وقد كان الله تعالى قادراً على تفجير الماء، وفلق الحجر من غير ضرب، ولكنْ أرادَ أن يربط المسببات بالأسباب، حكمةً منه للعباد في وصولهم إلى المراد، وليرتّب على ذلك ثوابهم وعقابهم في الميعاد.
4 ـ تهيئة الأسباب لوقوع مراد الله:
إذا أراد الله وقوع شيء في هذا الوجود هيأ له أسبابه التي يقع بها، وذلك لأنّه جعل نظام هذا الكون مبنياً على سنن لا تنخِرمُ إلا بمشيئة الله عز وجل، كما هو الشأنُ في المعجزات وخوارق العادات، وهو استثناءٌ من القاعدة التي قام عليها الكونُ من اعتبار الأسباب حقيقة في الوصول إلى مسبباتها، وقد قيل: إذا أراد الله أمراً يسّر أسبابه.
ومن التطبيقات الواضحة لهذا العنوان في القرآن الكريم ما جاء في حيثيات غزوة بدر وملابساتها، حيث هيأ الله تعالى أسبابَ النصر للمسلمين في هذا اليوم، ولم يجعل نصرهم في ظاهر الأمر من قبيل الخوارق المحضة، التي ليس للسبب فيها نصيبٌ، خاصّةً في مثل هذا الموقف الشديد الذي عانى فيه المسلمون من قلّة العدد والعتاد، كلُّ ذلك ليتبيّن للمسلمين قبل غيرهم أنَّ السنن الإلهية والقوانين الربانية التي قام عليها نظامُ الكون لا تتخلّفُ عادةً، وقد تجلّت هذه الأسباب، وظهرت فيما جاء في قوله تعالى عن غزوة بدر: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾ ﴿وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ *﴾[الأنفال: 11].
فإنّ إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر، لأنّهم لما ناموا زال أثرُ الخوفِ من نفوسهم في مدة النوم، ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً، ونشاطُ الأعصاب يكسِبُ صاحبه شجاعةً، ويزيلُ شعورَ الخوف الذي هو فتور الأعصاب.
 
5 ـ الأسباب تعمل مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع:
فكلُّ سببٍ موقوفٌ على وجود الشروط، وانتفاءِ الموانع، ولا بدّ من تمام الشروط، وزوال الموانع ـ أي في إنتاج الأسبابِ ـ وكلُّ ذلك بقضاءِ الله وقدره، وليس شيءٌ من الأسباب مستقلاً بمطلوبه، بل لا بدّ من انضمام أسباب أخرى إليه، ولا بدّ أيضاً من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصلَ المقصود، فالمطر وحدَه لا ينبِتُ النبات، إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرعُ لا يتمُّ حتّى تُصْرَفَ عنه الافات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذِّي إلا بما جعل الله في البدن من الأعضاء والقوى قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ *أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ*﴾[الواقعة: 63 64] أي: إذا كانت منكم الحراثة والبذر مع إعانتنا لكم على ذلك، فإنّ إتمامَ الزرع والإثمار، وتوفير الشروط، وإزالة الموانع، من شأننا نحن، ويؤكّد ذلك قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ خلق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ *﴾[النمل: 60]. فقد ذكر إنزال الماء لأنه من جملة ما خلق الله، ولقطع شبهة أن يقولوا: إنّ المنبِتَ للشجر الذي فيه رزقُنا هو الماء، اغتراراً بالسبب، بودر بالتأكيد بأنّ الله خلق الأسباب، وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب، وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب، وتقدير المقادير المناسبة للانتفاع بالأسباب، فقد ينزل الماء بإفراطٍ، فيجرف الزرعَ والشجر، أو يقتلهما، ولذلك جمع بين وقوله: تنبيهاً على إزالة الشبهة.﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا﴾
6 ـ إنكار قانون السببية يؤدي إلى إبطال حقائق العلوم:
لقد ثبت بنصّ القرآن الكريم أنّ الأسباب الشرعية هي محلّ حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهي في اقتضائها لمسبّباتها قدراً، فهذا شرعُ الربِّ، وذلك قدرُه، وهما خلقُه وأمرُه، والله له الخَلْقُ والأمر، ولا تبديل لخلق الله، ولا تغيير لحكمه، فكما لا يخالِفُ سبحانه الأسبابَ القدرية وأحكامَها، بل يجريها على أسبابها، وما خُلقتْ له، فهكذا الأسباب الشرعية لا يخرِجُها عن سببها وما شُرِعت له، بل هذه سنّـتُه شرعاً وأمراً، وتلك سنّته قضاءً وقدراً، قال تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً *﴾[فاطر: 43].
فالمسبّبات مرتبطةٌ بأسبابها شرعاً وقدراً، ولذلك فطلبُها من غير أسبابها مذمومٌ، كما أنَّ إنكار الأسباب لأن تكون موصلةً لها بأنّها أمرٌ مردودٌ، بل إنّ النتائجَ المترتبة على إنكار قانون النسبية كافية لهدم حقائق العلوم كلها، فإنّ العلوم جميعُها تستند إلى هذا القانون.
ونفي الأسباب أن تكون أسباباً نقصٌ في العقل، وهو طعنٌ في الشرع أيضاً، فالله تعالى يقول: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾[البقرة: 164]، وقال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾[المائدة: 16].
والحاصل أنّه قد ثبت بالقطع أنّه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء ولا للفلتة العارضة، قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *﴾[القمر: 49]، وقال تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا *﴾[الفرقان: 2] وقال تعالى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا *﴾[النساء: 19]، وقال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ *﴾[البقرة: 216].
والأسبابُ التي تعارف عليها الناسُ قد تتبعها اثارُها، وقد لا تتبعها، والمقدّمات التي يراها الناس حتميةً قد تعقبها نتائجُها، وقد لا تعقبُها، ذلك أنه ليست الأسبابُ والمقدّماتُ هي التي تنشيءُ الاثار والنتائج، وإنّما إرادة الله هي التي تنشئ الاثار والنتائج، تهيِّءُ الظروف لتحققها، كما تنشئ الأسبابَ والمقدّماتِ ﴿لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا*﴾[الطلاق: 1]، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾[الإنسان: 30].
والمؤمن يأخذُ بالأسباب لأنّه مأمورٌ بالأخذ بها، والله هو الذي يُقدر اثارها ونتائجها، والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله، وإلى حكمته وعلمه، هو وحده الملاذ الأمين، والنجاة من الوسواس والهواجس: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾[البقرة: 268].
7 ـ منازعة الأقدار بالأقدار:
من الأصول القطعية مباشرةُ الأسبابِ، وعلى هذا فإنَّ تركها قدحٌ في الشرع، ممّا يدحضُ ادّعاءات الجهّال والمغرضين، ونزيدُ هنا فنقول: إنّ صاحبَ الإيمان بالقدر ينازِعُ القدرَ بالقدر، بمعنى أنْ لا يستسلمَ للقدرِ ما دام له دافعٌ أو رافعٌ أو مانعٌ، فيأخذ من الأسباب ما يحقّق ذلك، قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: كثيرٌ من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنةٌ، فنازعتُ أقدارَ الحقِّ بالحقِّ للحقِّ، وما قاله هذا الشيخ الجليل العارف بالله حقٌّ، ويريدُ بقوله رحمه الله تعالى: إنّه يدافعُ المقدورَ ما دام في مدافعته مجالٌ مستعيناً بالله تعالى، مبتغياً وجهه.
وتفصيلُ ذلك أنَّ المسلمَ مطالبٌ بأخذ الوقاية من المحذور لئلا يقع، ويرفعه ويدفعه إذا وقع.
فمن الأوّل أخذُ الحمية، لئلا يقع المرض، والابتعاد عن محلّ الوباء، لئلا يصابَ به الإنسانُ، والتحصن وراءَ الجدُرِ والحصون في الحروبِ، وقايةً من العدو، وليس في هذه الوقـايـة ومباشرةِ أسبابهـا مناقضةٌ للإيمان بالقدر، وإنّما أخذٌ بقدرٍ لمنع قدرٍ، والقدرُ ما دام مجهولاً عندنا فهو محتمَلُ الوقوعِ، فنحن نبـاشر أسبابَ عدم وقوعه، فإن كان مكتوباً عند الله وقوعُه لم يتيسّر لنا مباشرة أسبابُ دفعـه، أو تتيسر لنا هذه الأسبـاب، ولكن لا تؤدي إلى نتيجتها لوجودِ مـانـعٍ يمنع من إفضائهـا إلى مسبّبهـا، والمقصودُ هنا أنَّ مباشرة الأسبابِ لمنع وقوعِ ما يُحْتَمَلُ وقوعُه من الأقدار ليس فيه مناقضةٌ للمعنى الصحيح للقدر، وإنّمـا هو أخذٌ بقدرٍ لمنع قدرٍ، لأنّ السببَ والمسبّب بقدرِ الله تعالى، جاء في الحديث الشريف: قيل: يا رسول الله، أرأيتَ أدويـةً نتداوى بهـا، ورقًى نسترقي بها، وتقـاة نتقيها، هل تردُّ من قدر الله شيئاً؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي مِنْ قَدَرِ الله».
فإذا كان من قَدَرِ الله أنْ لا يصاب الإنسانُ بالمرض قدّر الله له مباشرةَ ما يدفع به وقوعَ المرضِ.
وعندما وصل الخليفةُ العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مشارفِ الشام وعلمَ بنزول الطاعون فيهم، وهمّ بالرجوع، قال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أفرارٌ من قدر الله يا أمير المؤمنين؟.
فقال رضي الله عنه: لو كان غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، ونقع في قدر الله، ثم قال عمر رضي الله عنه ما معناه: لو كان عندك غنم أو إبلْ وأمامك عدوةٌ مجدبةٌ، وأخرى مخصبةٌ، فإذا نزلتَ بالمجدبة أو المخصبة أو تحوّلت من المجدبة إلى المخصبة، فكلُّ ذلك بقدرِ اللهِ.
ومن النوع الثاني من منازعة الأقدار بالأقدار مباشرةُ الأسباب الرافعة للقدر بعد وقوعه، كتناول الدواء لرفع المرض، وطرد الأعداء والكفرة من ديار المسلمين بعد تسلّطهم، بإعداد العُدّة لذلك، ثم قتالهم، ومثاله أيضاً انحباسُ المطر يُرْفَعُ بالالتجاء إلى الله، والإنابة إليه، واستغفاره، كما هو معروفٌ في الفقه في باب صلاة الاستسقاء، وكما دلَّ عليه قوله تعالى حكايةً عن نبيه نوح عليه السلام وما قاله لقومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا *يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا *﴾[نوح: 10 ـ 11]. فالالتجاءُ إلى الله؛ والإنابة إليه، واستغفاره من أهم الأسباب لدفع المكروه، ورفعه بعد وقوعه، ومنعه من الوقوع قبل أن يقعَ، وهذه معانٍ يفقهها أهل الإيمان، لا أهلُ الكفر والجهالة والعصيان.
المصادر والمراجع:
- علي محمد الصلابي، سنة الله في الأخذ بالأسباب، 2017، دار الروضة للطباعة والنشر والتوزيع، استنبول، ص(62:55)
-ابن تيمية، مجموع فتاوى، (8/133).
-عبد الكريم زيدان، الإيمان بالقضاء والقدر، ص (29).
-مجدي عاشور،  السنن الإلهية ، ص (158).


: الأوسمة



التالي
فتاوى كورونا بين السياسة والتقليد والإبداع
السابق
يا مجامعنا الفقهية، أفتونا يرحمكم الله!

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع