التمييز بين الشخصي والسلطاني في الفقه الإسلامي
بقلم: معتز الخطيب (عضو الاتحاد)
حاججتُ في مقال الأسبوع الماضي أن وقفية السلطان الفاتح الضخمة (ومنها آيا صوفيا) كانت وقفًا سلطانيًّا؛ أي: إنه وقَفَها بصفته لا بشخصه؛ لكنّ أحد الباحثين اعترض بأن هذا مخالفٌ لتصور السلاطين لأنفسهم؛ فقد امتلكوا خيالًا سياسيًّا إمبراطوريًّا وتصرفوا كما لو كانوا يملكون البلاد المفتوحة؛ أي: إن الإشكال يكمن في شرعية نظام السلطنة العثمانية نفسه، ومن ثم فلا داعي لتصحيح تصرفات السلطان الفاتح وفق الفقه الإسلامي؛ لأن التسويغات الفقهية ربما تكون لاحقة على التصرفات نفسها.
يستند هذا النقد إلى بعض الدراسات التاريخية عن الحقبة العثمانية كدراسة باكي تيزكان عن "الإمبراطورية العثمانية الثانية"، رغم أن أرييل سالزمان –مثلًا– رأى أن أطروحته تفتقر إلى التماسك، كما أن بعض فصولها يقوم على مصادر ثانوية، فضلًا عن أنها تُغطي (1600-1850)؛ أي: الحقبة اللاحقة للفاتح.
يبدو هذا التعليق كما لو كان محاكمة للتاريخ بأثر رجعي، ويظهر بوضوح كيف أن الحجة القائلة بأن الفاتح ورث عن الإمبراطور البيزنطي لقبه وممتلكاته تُستخدم في اتجاهين متباينين: الأول: إثبات وقفية آيا صوفيا من الناحية القانونية، وأن أصلها وقف شخصي، ومن ثم وجوب الالتزام بشرط الواقف، والثاني: تأكيد أن الخلافة العثمانية اندمجت ضمن التصور الإمبراطوري، وانفصلت عن الشريعة.
يبدو لي أن جوهر الإشكال يكمن في ذلك الخلط بين المعياري والواقعي (الواجب والواقع) عند دراسة التقليد الإسلامي بتنوعاته المختلفة تاريخًا ومجتمعاتٍ، وهو خلل يشيع في بعض الدراسات التاريخية والدراسات الإسلامية المعاصرة، حيث يَغرق بعض الباحثين في مجريات الواقع ليعود بالنقض على التصور المعياري (الواجب) الذي كان سائدًا في زمن الوقائع وما قبلها؛ بحجة أنه جاء لاحقًا على الفعل السياسي، في حين أن هذا حكم قيمي بأثر رجعي، فالتاريخ يجب أن يُحاكم إلى الشرعية التي كان معتَرَفًا بها في زمنه لا في زمن القارئ ووفق تصوراته، وهذا ما يؤكد أهمية المصادر لفقهية كمصدر للتاريخ؛ لأنها تقدم لنا الحقائق المعيارية التي تمنح الشرعية.
وتتنوع أغراض هذه القراءة الإمبراطورية للتاريخ والفقه، فثمة دافع أيديولوجي حركي يريد التحرر من التقليد الفقهي برمته ليتهيأ له بناء أيديولوجيا خاصة به، وثمة دافع حداثي يعيد قراءة التاريخ ليقطع معه، ويؤسس لقيم الحاضر الملائمة لمعايير الحداثة الغربية، فهو يريد تحرير العقل العربي من أغلال الماضي، وثمة دافع سلفي يقطع مع التاريخ الوسيط ليعود إلى اللحظة الطاهرة للشريعة؛ فهو مسكونٌ بتصور مجرد للشريعة مفصولة عن حركية التاريخ وتعقيداته، وهذه الدوافع الثلاثة تنازع في المعياري وتحاول إعادة صياغته، فيغدو التاريخ كما لو كان مجرد وسيط يتحمل اللوم كله.
يبني هذا المقال على مقالي السابق المشار إليه لأوضح كيف أن فكرة "الوقف السلطاني" تتلاءم مع تقليد فقهي مستمر، ووقفية الفاتح (على الأقل) لم تكن قطيعة معه، ومن ثم فإن فكرة أن التسويغات القانونية كانت لاحقة للتصرفات السياسية تفتقر إلى الحجج اللازمة، وأن المشكلة هي في منهج القراءة.
يعالج النظر التاريخي أسئلة من قبيل: كيف وعى العثمانيون أنفسَهم وتصرفاتهم: خارجيًّا كالجهاد والغزو، وداخليًّا كقسمة الغنائم والأوقاف؟ وكيف نظر إليهم معاصروهم؟ فالمؤرخ ينظر من زاوية الحكم والسلطة؛ بوصفها الفاعل الرئيس الذي يتحكم بالمشهد؛ لأنه مسكونٌ بتصورات حديثة حول مركزية السلطة وتأثيراتها في الحاضر، فيُسقطها على التاريخ، ويتبنّى فرضية أن أشكال الحكم والسلطة في العالم القديم متشابهة، وهيمن عليها منطق الإمبراطوريات وطلب الملك، رغم أن عوالمها الرمزية ومرجعياتها المعيارية وتقاليدها القانونية تتباين، ومن هنا فإن مصادر الفقه تساعدنا على فهم الواقع التاريخي سواء اتفق أو اختلف مع النموذج المعياري، وسواء كان سابقًا للتصرفات السياسية أم لاحقًا لها.
فالنظر الفقهي التاريخي نظرٌ مركب يزاوج بين المعياري والواقعي معًا؛ مما يساعدنا على فهم أعمق للتاريخ الفكري والاجتماعي، ويعصمنا من التورط في الإسقاطات والتحيزات التي تمليها قيم الحاضر؛ لأننا في هذه الحالة نحاكم الواقع إلى معاييره المعترف بها في زمنه، ثم بوصفها حلقة في تقليد مذهبي معياري متسلسل.
وقد تنبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذه الفكرة حين تحدث عن أن "الأموال السلطانية" (موارد الخزينة العامة) مبنية على أمرين: فقه النص وفقه الواقع، ومن ثم مايز بين ألوان من الاجتهاد الذي تناول هذه الأموال: بعضه شرعي وبعضه مختلط وبعضه غير مشروع؛ لأنه ربما وقع على خلاف القواعد والنصوص المرجعية؛ أي: إننا أمام تقويم نقدي لكيفية التصرف بالأموال السلطانية: مواردها ومصارفها، وهو تقويم يزاوج بين المعياري والواقعي ويستعمل أيضًا التأريخ.
وحينما نتحدث عن الفقه بوصفه مصدرًا للتاريخ لا نتحدث عن قانون الدولة بالمفهوم الحديث؛ بل عن تقليد مذهبي له تقاليده وسلطته المتصلة تاريخيًّا، ونحن لا نتحدث عن فتاوى أفراد أو ترقيعات كتلك التي ينتهجها بعض شيوخ اليوم في ظل الأنظمة الاستبدادية، وهم لا يمثلون تقليدًا ولا يدّعونه، بل هم من حواشي السلطة السياسية التي لا تدعي هي نفسها أيديولوجيا دينية أيضًا. فسلطة التقليد كانت تكشف شذوذ الأفراد ومطامعهم؛ لأن خروجهم عن قواعد المذهب ومنهجه سيُخرجهم من سلطة التقليد، ولن يحظوا بالمرجعية داخل المذهب.
ويبدو لي أن سلطة التقليد المذهبي بهذا المعنى أقوى من سلطة الحاكم السياسي؛ لأنها تحيل إلى مذهب وجماعة علمية متسلسلة تاريخيًّا، فرغم تقلبات السلطة والواقع والانقطاعات والتبدلات التي تتخلل ذلك، فإن الفقيه إنما يقوّم الوقائع المستجدة وفق قواعد المذهب، وإنما يبني حججه وتعليلاته بما ينسجم مع المذهب نفسه وإلا عُدّ خارجًا عنه.
قدمت في مقالي السابق قراءة لوقفية السلطان الفاتح انطلاقًا من تساؤلات أو افتراضات مركزية تتصل بأربعة جوانب: أولها: مصادر الفقه حول حقائق معيارية تتصل بالوقف الصحيح، والغنائم والأراضي المفتوحة، وأسباب المِلكية، وتصرفات السلطان، وهي تشكل المرجعية المعيارية ضمن تقليد ممتد لقرون سابقة على الوقفية، وثانيها: ادعاءات السلطة العثمانية وتركيبتها الدينية حيث يشغل المذهب الحنفي فيها دورًا محوريًّا دينيًّا وقضائيًّا، وثالثها: نص وقفية الفاتح نفسه، وهو يعبر عن إرادة الواقف بلسانه ومقاصده، وفيها يقرر أنه إنما يجري وفق النظام القضائي وشرائطه، وأنه لا يخرج عن اجتهاد الفقهاء المجتهدين، ورابعها: فقهاء زمن الواقعة، ومنهم ملا خسرو الذي شغل دورًا مهمًّا في زمن الفاتح، وهو من فقهاء الحنفية المعتمدين.
لم يُقدم مقالي فتوى حادثة لفعل تاريخي سابق عليها بقرون؛ بل قراءة تبحث في مدى توافق الوقفية مع التقليد الفقهي وخاصة المذهب الحنفي، وهي قراءة زاوجت بين الفقهي والتاريخي، ويشكل فيها المعياري مفتاحًا لفهم ما جرى، وسأضيف هنا عنصرًا جديدًا لتدعيم الحجة نفسها، يعتمد على تاريخ الأفكار لفهم المفاهيم والحجج التي كانت سائدة في زمان الوقفية والزمان السابق عليها، وذلك يكشف أن هناك استمرارية في التقليد الفقهي عامة والحنفي خاصة؛ أي: إننا حاولنا اختبار ادعاءات السلطة (متمثلةً في نص الوقفية وفي مرجعية المذهب الحنفي).
وسأكتفي هنا بتدعيم فكرتين مركزيتين تأسست عليهما حجة أن الوقفية كانت سلطانية لا شخصية:
الفكرة الأولى هي أن السلطان من الناحية المعيارية يتمتع بوظيفتين: شخصية وسلطانية، وهي فكرة نجدها في المناقشة المتعلقة بتصرفات النبي صلى الله عليه وسلم (بالنبوة والإمامة والفتوى والقضاء)، وقد أوضحها الإمام القرافي استنادًا إلى بعض فروع الفقه، ومن الأمثلة الطريفة على تعدد الأدوار في الشخص الواحد ما ذكره سليمان بن عمر الجمل (ت 1204): "لو ملك السلطانُ بنت عمه، وأعتقها، وتزوج بها، ثم ماتت ولم يكن لها وارث إلا هو، فهو: زوج، وقريبٌ، والإمامُ، ومُعتقها"، فههنا اكتسب السلطان أربعة أدوار أو صفات متمايزة، فيستحق نصيبًا من إرث المتوفاة بكل صفة من الصفات الثلاث (القرابة والزواج والولاء)، بقي أن كونه سلطانًا لا يخوّله بالإرث؛ لكن بعد تقسيم التركة بحسب الأنصبة المقدرة فإن زاد منها شيء صُرف إلى بيت المال والقيّم عليه في هذه الحالة هو من حيث كونه سلطانًا.
والفكرة الثانية هي التمييز بين مال السلطان بوصفه شخصًا والمال العام الذي يتولاه هو، وهي فكرة نشأت زمن الصحابة، وتتصل أيضًا بفكرة تقسيم الغنائم (بعد القتال) كما جاء في القرآن (فأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يَصطفي لنفسه شيئًا من الغنيمة يصرفه في المصالح العامة للمسلمين (يُسمّى الصَّفيّ أو الصَّفَايا)، وقد وقع الخلاف حول إلى من تؤول بعض هذه الأسهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: هل تُلغى أم يحل محله فيها الإمام بصفته لا بشخصه؟ ينقل ابن جرير الطبري (ت 310) أقوالاً عدة يقرر بعضها أنها صارت لولي الأمر من بعده من حيث هو إمام.
وبعيدًا عن قسمة الغنائم، نجد أن مرتب السلطان هو بقدر ما يُغنيه من العطاء، ويوضح محمد بن الحسن الشيباني أنه "يُفرض له عطاءٌ من بيت المال، فأما ما سوى ذلك فلا حق له فيه". وهذا التمييز بين مال السلطان والمال العام تقرره المصادر الفقهية إما صراحةً أو ضمنًا. فابن جماعة (ت 733) -مثلاً- ينص على التمييز بين المال الشخصي للسلطان والمال العام، ونجد ذلك في وقائع تاريخية منها ما وقع سنة 629 للهجرة وسنة 644 للهجرة، كما نجد لدى أبي الفضل بن الفوطي (ت 723) وابن كثير (ت 774)، ويعبرون عن ذلك بـ"خاص مال الخليفة" أو "خالص مال الخليفة".
وإذا كانت هذه الفكرة المعيارية مستقرة -تاريخيًّا- في التقليد الفقهي، فإن التطبيق المنظم لها ظهر من خلال ما سُمي "بيت مال الخاصة" الذي يقابل "بيت مال العامة"، وقد شاعت هذه الثنائية في زمن الأمويين ثم العباسيين، وتتشكل موارد "بيت مال الخاصة" من أموال الخلفاء والأمراء وما تركوه لذراريهم، ويدخل فيها حظهم من الغنائم وغيرها، ونجد الإشارة إلى هذا في كتب التاريخ كالطبري (ت 310) ومسكويه (ت 421) وغيرهما.
ويتفرع على التمييز بين المال الخاص والمال العام بالنسبة للسلطان فروع فقهية منها: الخلاف حول الهدايا التي يتلقاها السلطان، فقد رأى الحنفية أن الهدايا لا تحل للسلاطين والأمراء، وأنهم إن أخذوها يجعلونها في بيت المال لتكون لجماعة المسلمين؛ لكن مالكًا والشافعيّ زادا أنه إذا عَلِم الحاكم أن تلك الهدية هي لأجل قرابة أو مكافأة، ففي هذه الحالة يحق له تَمَلكها ولكن يكافِئ المُهدِي بقدرها "من مال نفسه"، وهذا فرعٌ يصور لنا التمييز بين شخص الحاكم وصفته، وبين المال الخاص والمال العام، وقد تبلورت هذه الأفكار في زمن مبكر، ونجدها واضحة في القرن الخامس الهجري وما بعد.
ومن فروعها أيضًا: وقف السلطان/الحاكم فلو ملك ملكية خاصة صح وقفه، ووجب مراعاة شروطه في هذه الحالة، ويوضح هذا الحصكفي الحنفي (ت 1088 للهجرة) تَمَلُّك السلطان بشخصه يكون بأسباب منها البيع والشراء، وقد أوضح ابن عابدين أنه لا يصح بيع الإمام ولا شراؤه من وكيل بيت المال لشيء من أموال بيت المال؛ لأنه كوكيل اليتيم، ويجوز منه ذلك للضرورة فقط، ومعناه: إن كان له مالٌ لم يأخذ من مال اليتيم، وإن لم يكن له مالٌ أخذ ما يسد حاجته فقط، وقد زاد بعض الحنفية أن البيع والشراء من السلطان يجوز إذا دفع ضعف قيمة العقار. قال ابن عابدين: وهو "قول المتأخرين والمفتي به". ويبدو أن هذا التشديد لضمان نفي الشبهة وتقييد تصرفات أمراء الجور.
أما لو وقف السلطان وقفًا بصفته الإمامية فهنا محل الإشكال؛ لأن شرط صحة الوقف المِلكية، والسلطان لا يملك المال هنا؛ فالمال العام مِلك للمسلمين، ولهذا اختلفت طرائق التكييف الفقهي/القانوني لهذا النوع، فإن كان الموقوف من أرض الغنيمة، فالنووي يشترط استرضاء السلطان للغانمين، وهذا مبني على مذهب الشافعية الذين يرون أن للغانمين حقًّا فيه، ومن ثم فلا بد من إذنهم حتى يصح الوقف؛ فالوقف هو نزع ملكية ونقلها من طرف إلى طرف آخر، ولا يتحقق ذلك إلا برضا الطرف الأصلي (وهم الغانمون)، أما القرافي فقد صحح مثل هذا الوقف السلطاني؛ لأنه رأى أن السلطان وكيلٌ عن المسلمين هنا، وهذا مبني على مذهب المالكية في أن الأرض المفتوحة عنوة (بعد قتال) -بما فيها الكنائس- هي وقفٌ للمسلمين بمجرد فتحها، وقد نص على ذلك ابن رشد الجد، والوكالة واقعة أصلاً في كون الإمام نائبًا عنهم في المصالح العامة وهذا منها.
أما الحنفية فيختلفون عمن سبق في أنهم لا يقررون حقًّا للغانمين ابتداءً فيما فُتح عنوة، ويعطون السلطان سلطة تحديد المِلكية بناء على المصلحة العامة؛ أي: إن حق الغانمين لا يثبت ابتداءً حتى يُنزع عنهم، وإنما يقرره السلطان، فإن قرر تقسيم الغنائم بينهم ثبت لهم الحق، وإن قرر إبقاءه في أيدي أهله من أهل الذمة بالمنّ عليهم فله ذلك، ودليلهم في ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أراضي خيبر وفعل عمر بن الخطاب في أرض العراق (أرض السواد)، فهم جعلوا هذه التصرفات تصرفات إمامية (بصفته قيِّمًا على المصالح العامة)، ومسألة وقف الحاكم وإن كانت مسألة قديمة (تحدث عنها إمام الحنفية فخر الدين قاضيخان مثلاً)، إلا أن متأخري الحنفية والحنابلة أطلقوا على هذا النوع من الوقف اسمًا خاصًّا هو الإرصاد، سواءٌ كان من أراضي العنوة مما آل إلى بيت المال العام أم مما اقتطعه السلطان من بيت المال العام ابتداءً؛ لأنهم رأوا أن شرط المِلكية هنا غير متحقق، ولذلك ميزوه عن اسم الوقف الذي يُشترط فيه المِلكية الحقيقية للشخص.
ومن فروع التمييز بين الصفتين الشخصية والإمامية، أن تصرفات الإمام في مِلكه تختلف عن تصرفاته في المال العام، وعنه تحدث الإمام الغزالي (ت 505) في أن ما ملكه بشخصه له أن يعطي منه ما شاء لمن شاء؛ بخلاف ما كان ملكية عامة، فلا يجوز صرفه إلا لمصلحة عامة، ومن هنا ناقش فقهاء آخرون الفرق بين ما وقفه على المصالح العامة وما وقفه على خاصّ، وأرادوا بذلك الحيلولة دون تصرف أمراء الجور في مصارف المال العام بألا يقفوها على ذراريهم مثلًا، وهي مسألة خلافية مقيدة بفكرة المصلحة العامة أو المصلحة الظاهرة عند بعض متأخري الحنفية.
فهذا الأصل وفروعه المتنوعة تساعدنا في فهم لماذا جاء بعض متأخري فقهاء الحنفية تحديدًا، فقرروا مسألة من مسائل الفقه السلطاني، وهي أن من رأى أَن الخراج مِلك السلطان (أي بشخصه) فقد كفر؛ لأنه بهذا يكون قد استباح المال الحرام، فثمة فارق بين سلب الحق تعديًا وظلمًا وبين اعتقاد أن حق الغير مباح ولا حرمة له، ومن الطريف أننا نجد هذا في الكتاب الذي وضعه محمود بن إسماعيل الخَيْربَيْتي (ت بعد 843) للملك الظاهر أبي سعيد جقمق الذي تولى حكم مصر وتزوج إحدى أميرات آل عثمان، واحتفل بفتحهم للقسطنطينية؛ بل إن ابن ابن نجيم الحنفي (ت 970) يحكي أن ثمة خلافًا في تكفير قول الخطباء للسلطان: "السلطان العادل الأعظم مالك رقاب الأمم سلطان أرض الله مالك بلاد الله".
يتضح مما سبق أهمية المصادر المعيارية لفهم بعض الوقائع التاريخية، ومعرفة مدى اتساقها مع الشرعية المعترف بها في زمنها، أما أن نحتكم اليوم إلى مثل هذه الأحكام أو لا، فهذا نقاش مختلف ليس هو المراد هنا، وإنما المراد أن التاريخ يُقرأ ويُحاكَم إلى منظومته الحاكمة، كما أن هذه الاستمرارية في التقليد تُخل بفكرة أن التسويغات الفقهية جاءت لاحقة على التصرفات السلطانية، أو أن الفاتح ورث لقب الإمبراطور وممتلكاته.
وعلى فرض أن الحكم العثماني كان إمبراطوريًّا فهذا لا يعني عدم شرعية تصرفات العثمانيين خلال خمسة قرون، ومن الطريف أن عبد الغني النابلسي (ت 1143) وهو حنفي يقرر في تفسيره للقرآن (مخطوط) فكرة أن "المَلِك يملك بالسلطنة الحصونَ والبلاد" هي تصور العوامّ، ويصحح فيقول: "إن ذلك مجرد مِلك التصرف للرعية؛ بطريق المصلحة. والحصون والبلاد في مِلك أربابها إن كانوا مسلمين أو أهلَ ذمة. وإن كانوا أهلَ حرب فالمِلك لبيت المال ولجميع المسلمين، والمَلِك واحدٌ منهم يتصرف بالنيابة عنهم، وإنما له الأمر والنهي بالخير، وعلى الرعايا طاعته"، وما كنتُ أتخيل أن تصور العامة هذا الذي يحكيه حنفي عاش في دمشق في النصف الأول من القرن الثامن عشر سيتحول إلى أطروحة لبعض الباحثين.