أسخف سؤال
بقلم: محمد أكرم الندوي (عضو الاتحاد)
قالوا: نقرر للملحدين وجود الله تعالى، فنشرح لهم علل الأشياء، وعللها، وعللها إلى أن نتوصل إلى علة العلل، والمحرك الأول، وأن الله خالق السماوات والأرض، وإذا بهم يسألوننا: فمن خلق اللهَ؟ فنرتبك بالسؤال، ونحار في الجواب، وكأننا فقدنا رشدنا وفترت عزيمتنا.
قلت: إن جدالكم هذا جدال عقيم، لا يعلِّم جاهلا، ولا يهدي ضالا، ولا يرشد غاويا، وإن السؤال الذي يستثيره أولئك الملحدون لسؤال سخيف ركيك، ما سمعت بسؤال أسخف منه في العقول ولا أرك منه ركاكة بينة.
قالوا: أهكذا تُواجه المستفسر الباحث عن الحق والصواب؟ إننا ندعو الناس إلى الله تعالى فما زدت على أن عقَّمت دعوتنا مستهزئا بنا استهزاءًا، وجعلت السائلين وهم علماء أكاديميون سفهاء تافهين. أجاوزتَ حدَّك أم أنت من المستكبرين العالين؟
قلت: ما ألقيتُ إليكم كلمة في خطابي هذا إلا وقد عقلتُها وقلَّبتها على تصاريفها المختلفة، ثم تخيرت منها، ونطقت بما هو أصوب وأليق بالمقام، فلن أرجع عنها رجوعا، مهما كرهها الكارهون وأبغضني المبغضون.
قالوا: فما سقوط هذا السؤال؟ وما فساده؟
قلت: إذا قيل لكم: ضرب زيدٌ عمراً، أتسألون: فمن ضرب زيدًا؟ قالوا: لا، قلت: وإذا قيل: زوَّج خالدٌ محمودًا من امرأة، أتسألون: فمن زوّج خالدًا؟ وإذا قيل: أجابت هند عن سؤال زينب، أتسألون: فمن أجاب عن سؤال هند، قالوا: لا، قلت: لِمَ، قالوا: لأنه لا يلزم من ضرب زيد عمرا أن يكون زيد مضروبا، ولا من تزويج خالد محمود أن يكون خالد مزوَّجا، ولا من إجابة هند أن يكون سبق لها سؤال.
قلت: أنكرتم التلازم في كل ذلك مع أن زيدا وعمرا وخالدا ومحمودا وهندا وزينب نوع واحد متفق في حقيقته، أخبروني: هل الله والسماوات والأرض حقيقة واحدة؟ قالوا: لا، قلت: فإذا كان التلازم بين شؤون النوع الواحد سخيفا، أو ليس من البدهي أن يكون التلازم بين أحوال الأجناس المختلفة أسخف!!!
ولأشرح لكم بأمثلة:
إذا قيل لكم: طبخ زيد اللحم، وخبز محمود الخبز، وخاطت فاطمة الثوب، وحفر العامل البئر، وصنع الصانع الحاسوب، وبنى الملك القصر، وهذّب البستاني الحديقة، فهل تسألون: فمن طبخ زيدا؟ ومن خبز محمودًا؟ ومن خاط فاطمةَ؟ ومن حفر العاملَ؟ ومن صنع الصانع؟ ومن بنى الملكَ؟ ومن هذَّب البستانيَّ؟ قالوا: لا، قلت: ولمَ؟ قالوا: لأن تلك الأفعال أفعال الفاعلين، لا تجعلهم مفعولين، وما أسخفك في سؤالك، ما سمعنا أحدا يسأل الطباخ من طبخه، والخباز من خبزه، والخياط من خاطه؟ تزعم أن تكون للناس معلِّما وتضع بين أيدينا هذه الأسئلة الخرقاء الواهية.
قلت: فالخلق فعل الله تعالى، أحدثه وأوجده في الأشياء، فكيف يكون هو مفعولا؟ تسخفون بمن قال: فمن طبخ الطباخ، ولا تسخفون بمن قال: فمن خلق الخلاّق؟ أفٍّ لأولئك العلماء الأكاديميين وأفٍّ لعقولهم، سلوهم: أكلتم الطعام فمن أكلكم؟ وشربتم الماء فمن شربكم؟ ولبستم الثوب فمن لبسكم؟
وقلت: إن كلام أمثالكم يزيدني صداعا في رأسي. قالوا: اصبر محتملا أذانا، فقد علمنا سخافة هذا القول ودناءته، ولكن أخبرنا إذا قيل: ولد زيدٌ أسامةَ، أليس من الطبيعي أن نسأل: فمن ولد زيدًا؟ قلت: هذا باب آخر، قالوا: ما الذي عنيت؟ قلت: ألا يصح أن نسأل من ولد زيدًا قبل أن يلِد زيدٌ أسامة؟ قالوا: بلى. فاعلموا أن زيدًا مولود كما أن أسامة مولود، وكونه مولودا معلوم قبل أن يولد أسامة.
قالوا: فما باب هذا السؤال؟
قلت: بابه الأسباب والمسببات، ومن الأسباب ما هو حقيقي، وما هو عادي ظاهر، وما جهل الجاهل إلا بعدم تبينه الفرق بينهما.
قالوا: فبيِّنه لنا.
قلت: دعوه إلى وقت آخر، فإني لمشغول.
قالوا: فأجبنا عن سؤال أخير في مجلسنا هذا.
قلت: ما هو؟
قالوا: عرفنا أن منهجنا في الدعوة عقيم، فما المنهج المبارك؟
قلت: هو منهج كتب الله تعالى، وأنبيائه، وعامة الحكماء الصالحين، وهو الدلالة على الخالق بآياته، وعلى الرب بآلائه، وعلى المولى بنعمه وآثاره، وهذه الدعوة هي التي جُبل عليها بنو آدم بل الخلق أجمعون، فهي في الفطر الصحيحة والعقول السليمة، وهذا هو السر في افتتاح الله تعالى كلامه بـ"الحمد لله رب العالمين".