غيابُ المستشارِ الشرعيِّ النّاصحِ
بقلم: الصادق بن عبد الرحمن الغرياني (عضو الاتحاد)
مقالٌ مستلٌّ مِن كتاب (المنتخبِ مِن صحيحِ التفسيرِ)
قال تعالى: {قَالَتْ يَا أيها الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}.
حينَ ألْقَى الهُدهدُ كتاب نبيِّ اللهِ سليمانَ إلى بِلقيسَ ملكة سبأ، وفيه: { أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }، جمعَتِ الملأَ من المستشارِين النصحاء، لأمرٍ جلل، يهدد بانتزاع مُلكها، وقالت تستنهضُ همتهم، ليسعفوها بجوابٍ شافٍ: أيها الملأُ؛ أفتوني في أمرِي، أشيرُوا عليَّ في أمرٍ حيرني والتبس عليّ، بمَا يجليه ويزيل لَبْسه على وجه الحكمة والصواب، فمَا كنتُ قاطعةً فيه أمرا ولا متخذة قرارًا حتّى تشهدون، تكونون حاضرِينَ معِي فيه، غير غائبينَ عنه.
حرصت على المشاورة واتخاذ القرار الجماعي، وهذا منها يدلُّ على رجاحةِ عقلِها، وحسن تدبيرِها في سياسة المُلك وإدارة الدولةِ، وهو في الحكم سبيل الرشاد والسداد لمن تولّى أمرًا مِن أمورِ الناسِ، سواء كان قاضيًا، أو ملكًا أو رئيسًا أو وزيرًا، أو متوَلّيًا أمرَ جماعةٍ أو طائفةٍ أو حزبٍ، سرُّ نجاحِ كلّ واحدٍ مِن هؤلاءِ يكمنُ في قدرتِهِ على التخلُّصِ مِن هوَى نفسِه، ومِن العِناد والاستبدادِ في اتخاذِ القرار ومَا يُصدرُهُ مِن أحكام، بأنْ يكونَ لهُ مستشارونَ نُصحاء أُمناء، والنّصحاءُ لصاحب القرار ليسوا هم الذين يُرضونَهُ في كلّ حالٍ، ويزينون له الأعمال، بل النصحاء الذين إذا رأَوْا فيه اعوجاجًا قوّمُوه، وأمرُوهُ ونَهَوْهُ، دونَ أنْ يجدَ في ذلكَ غَضاضةً، أو تأخذهُ عزة نفسه بالإثمِ.
حقُّ المستشارِينَ النّاصحينَ أنْ يكونُوا مِن أولِي العلمِ في كلِّ اختصاصٍ يُحتاجُ إليهِ، ففي كلِّ اختصاصٍ يستشيرُ أهلَهُ، كما قال تعالَى: {فَاسْأَلُوا أهْلَ الذِّكرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، ومِن أوْلَويّاتِ مَا يَحتاجُ إليهِ وُلاةُ الأمورِ مِن المستشارين المُختصِّينَ أهلُ العلمِ بالشريعة؛ لتُحمَى حُرمات الدِّينِ مِن الانتهاكِ في قراراتِ الدولةِ وأوامِرِ حُكّامِها، فكمَا أطبقتِ العادةُ واتفقَ الناسُ على أنَّ فِي كلّ مؤسسةٍ أو إدارةٍ مستشارا للشؤون القانونيةِ، ينبغي أَنْ يكونَ أيضا في كلِّ مؤسسَةٍ مثله من أهل الشرع، فليسَ الخوفُ مِن انتهاكِ القانونِ بأوْلى عند المسلم مِن الخوفِ مِن انتهاكِ الشرعِ.
وما مِن قرارٍ في سياسةِ الدنيا رُوعِيتْ فيهِ أحكامُ الله، إلّا وكانَ مأمونَ العاقبةِ، محمود المآل، فإنّ اللهَ تعالَى يقولُ: {إِنَّ هَذَا القرْآنَ يَهدِي للّتِي هِيَ أَقْومُ}.
وعلَى كُلٍّ ممَّن يَستشيرُ ويُستشارُ حقٌّ؛ فحقُّ مَن يُستشارُ مِن العلماءِ أنْ يكونَ شحِيحًا بِدِينهِ، لا يبذُلُه إرضاءً لرئيس المؤسسة أو مَن يُوَلِّيهِ، فيشترِي بآياتِ اللهِ ثمنًا قليلا، يكونُ بذلك غاشًّا لدِين الله وممّن يأكلونَ في بطُونِهم النارَ، ولا يُكلِّمهم اللهُ يومَ القيامةِ ولا يُزكّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ، وممّن يلعنُهم اللهُ ويلعنُهُم اللّاعنونَ.
وحقُّ المستشِير من الحكام أن يكون معتزًّا بذلكَ، فخورًا بهِ، لا يستنكف مِن مشاورةِ أهلِ الشرعِ، ولا يخشاهَا إرضاءً لأحدٍ، كما يفعلُ حكامُ زمانِنا، فإنّ اللهَ أحقّ أنْ يُرضُوهُ إنْ كانُوا مُؤمِنينَ، والقضاةُ مُطالَبونَ باستشارةِ العلماءِ قبلَ غيرِهم، فمِن كلامِ الفُقهاءِ في أبوابِ القضاءِ؛ أنّ القاضِيَ مطالب باستشارة العلماء قبل مجلس الحكم، أو يُحْضِرَهم مجلسه؛ ليأمَنَ الخطأَ والجَورَ.
ونحنُ اليومَ صِرنا لا نخشَى مجرّدَ الخطأِ في الاجتهاد أو التأويل مِن قُضاةِ العصرِ، وإنّما نعانِي مِن صدورِ أحكامٍ صريحة في معاقبة البريء وتبرئة أصحاب السوابق، بل نعاني من أحكام خالفت النص والإجماعِ! كمَا رأينَا مؤَخّرًا في قضية مذبحة أبو سليم مِن إصدارِ أحكامٍ استندَتْ في إسقاطِ القصاصِ عن عددٍ كبيرٍ مِن القَتلةِ إلَى تقادُم الدعوَى ومُضيِّ زمنِها! وهو ما لم يقل به أحد من علماء المسلمين، فالقصاص إذا وجب لا يُسقطه إلا عفو ولي الدم، فقد أمر الله تعالى بالقصاص في قوله: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، ثم لم يذكر له مُسقطا سوى العفو، قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، والحكم إذا خالف النص أو الإجماع سقط، قال الفقهاء: يجبُ نقضُه ولا يجوزُ إقرارُه.
وهذه الأخطاءُ الصريحةُ سببُها إبعادُ العلماءِ عن مجالِسِ الحُكم ومشاورتهم، فقد ذكرُوا في أبوابِ القضاءِ؛ أنّ مجردَ حضورِ العلماءِ مجلسَ القضاءِ، هو حرز للقاضي، يحفظه من الخطأ ويمنعه من الزلل، وقالوا: حضُور العلماء يُعدُّ تقريرًا لأحكامِهم ولوْ سَكتُوا وقتَ حضورِهم ولم يتكلموا.
والقدوةُ في مشاورة العلماء الخلفاءُ الراشدونَ المهديون، فكانَ عثمانُ رضي الله عنه يقضِي بمحضرِ العلماءِ مِن الصحابةِ، وكذلك كانَ أبوبكرٍ وعمرُ يستشيرانِ أَهلَ العلمِ من كبار المهاجرين والأنصار عندَ إصدارِ الأحكامِ، لا يقضيانِ بشَيْءٍ دونَهم، فكان عمر يُحضر في مجلسه جماعة من فقهاء الصحابة منهم معاذ بن جبل وأُبيُّ بن كعب وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت، وغيرهم من كبار الصحابة، وكان أبو بكر يُحضر عمر ويحضرهم.
قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.