البحث

التفاصيل

بداية السعادة ونهاية المآل

الرابط المختصر :

بداية السعادة ونهاية المآل

بقلم: الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي

 

قال الله تعالى: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) الإسراء 13 و 14.

فقه الآيتين وفقههما في المسائل الآتية:

المسالة الأولى :قوله تعالى "ونخرج  له يوم القيامة كتابا" ، يوم القيامة من أسماء اليوم الآخر وسمي يوم القيامة لأن الناس تقوم فيه من القبور بإذن ربها للحساب ، وقوله تعالى " ونخرج" أيضا هذا يكون يوم القيامة ، وقد سمّى الله يوم القيامة أيضا بيوم الخروج فقال :" ذلك يوم الخروج " أي: يوم خروج الناس من القبور، قال الشاعر :َألَيسَ يَوْمٌ سُمِّيَ الخُرُوجا، ... أَعْظَمَ يَوْمٍ رَجَّةً رَجُوجا؟، وإذا رجعنا إلى معاني الخرج والخروج في اللغة العربية ،نجد أن  من معاني الخروج الإبل المتقدمة ذات الأعناق الطويلة ، ومن معاني الخرج والخروج أول ما يظهر من السحاب الممطر ، ومن معاني الخروج القيح والصديد ،ومن معاني الخروج ظهور الشيء وتقدمه ،وعليه فإن قوله تعالى ( ونخرج) تشمل كل المعاني التي ذكرناها ، فأعمال الإنسان يظهرها الله يوم القيامة وكما قال سبحانه( لا تخفى منهم خافية)، وأعمال الإنسان حين يظهرها الله يوم القيامة منها ما يكون خيرا وفيه المدح لفاعله مثل الإبل المتقدمة على غيرها لطول أعناقها ، ومن الأعمال ما تكون شرا ووبالا على أصحابها كحال القيح والصديد ، وعليه نعلم مدى بلاغة القرآن الكريم في اختيار الألفاظ ،وهذا مظهر من مظاهر بلاغة القرآن الكريم المعجز.

 

 المسألة الثانية: قوله تعالى (اقرأ):  جاءت القراءة في القرآن الكريم  بداية للسعادات  ونهاية للمآلات ، فقوله سبحانه في سورة العلق  :( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) بداية للسعادات ، لأنها قراءة للوحي المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، هذه القراءة التي تقوم على  تلقي الوحي المنزل والعمل به ،كما قال سبحانه في سورة البقرة" الذين آتيناهم الكتاب  يتلونه حق تلاوته ،يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون " أي : يعملون بما جاء به من أحكام ، وأما كون القراءة نهاية  للمآلات فهو كما جاء في الآية  في سورة الإسراء  (اقرأ كتابك)، وهذه القراءة تكون يوم القيامة ، فهي قراءة يعرف بها الإنسان نهايته الخالدة التي لا نهاية بعدها ، وهي أهم القراءات على الإطلاق ، لأنها قراءة السعادة الأبدية أو قراءة الشقاوة الأبدية.

 

المسألة الثالثة: والكتاب أصل القراءتين السابقتين ، فهو الوعاء الجامع لهما ، أما الكتاب الأول فهو القرآن الكريم ولهذا كان هو بداية السعادات ونهاية لكمال المآلات ، ولأنه كذلك كررت سورة الإسراء الحديث عنه والتعريف به ، ووصفته بأنه بداية السعادات فقالت: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، ووصفته بأنه نهاية  لكمال المآلات فقالت: (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)، وأما الكتاب الثاني فهو الديوان الذي يكتب فيه الملكان أعمالك فيكتبان حسناتك وسيئاتك ، فهذا الكتاب أصل لما يؤول إليه مصيرك يوم القيامة.

المسألة الرابعة: ويشترك كلا من الكتابين ، القرآن الكريم وديوان أعمالك من حسنات وسيئات ، في صفتين متلازمتين لا تنفكان وهما: الأولى :صفة الكتابة ، والثانية: صفة القراءة ، وبهاتين الصفتين تكتمل إقامة الحجة على العبد ، فالقرآن الكريم هو كلام الله حقا لا تبديل فيه ولا تغيير ، لأن الله تعالى حفظه في السطور بالكتابة ، وحفظه في الصدور بالقراءة ، فهو محفوظ في السطور وفي الصدور ، وهي ميزة له تختلف عن باقي الكتب السماوية السابقة ، وذلك أنه آخر الكتب السماوية إلى العباد فكان كذلك لتقوم عليهم الحجة باتباعه ، ولهذا كان اتباع القرآن أصل في بداية السعادة ونهايتها ، وكان الكفر به أو ترك العمل بأحكامه ، بداية التردي في الشقاوة في الدنيا ، والولوج فيها في الآخرة من غير خروج ، وأما ديوان أعمال العبد فهو سجل أعماله لم يزد فيها ولم ينقص منها ، فتكون الحجة عليه لازمة ، ولهذا قال سبحانه (( كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).

المسألة الخامسة: خصّ القراءة للكتاب في قوله تعالى "اقرأ كتابك"، ولم يخصها بلفظ آخر مثل أعمالك أو نحو ذلك ، وذلك لحكم منها،،

أولا: أن القراءة والكتاب يجتمعان في لغة العرب بمعنى الجمع ، فمن معاني القراءة الجمع ، وكذلك الكتاب من معانيه الجمع ، فتكون أبلغ في إقامة الحجة على محاسبته على أعماله فهي مجموعة عليه كتابة وقراءة.

ثانيا: ولأن الكتاب لا يمكن معرفة ما فيه إلا بالقراءة ،ولهذا ورد عن بعض السلف  أن كل إنسان يوم القيامة يقرأ كتابه سواء كان قارئا في الدنيا أو غير قارىء، وبهذا تجتمع للعبد يوم القيامة الكتابة والقراءة لأعماله فلا يستطيع إنكار شيء منها.

 

المسألة السادسة: ورد لفظ الكتاب في سورة الإسراء ثلاث مرات ،المرة الأولى بمعنى الكتاب المنزل من السماء وهو التوراة ، وذك عند قوله تعالى: (وآتينا موسى الكتاب ، وفي المرتين الأخريتين ذكر الكتاب بمعنى الديوان الذي تسجل فيه أعمال العبد ، المرة الأولى: (اقرأ  كتابك) ، والمرة الثانية (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا).

 

 المسألة السابعة: فالتوراة ذكرت بلفظ (الكتاب) في سورة الإسراء ، وأما القرآن الكريم فلم يذكر إلا بلفظ (القرآن) في هذه السورة مع أنه ذكر في عديد السور بعدة أسماء ومنها الكتاب ، ولعل الحكمة من اختصاص القرآن بهذا الاسم في هذه السورة هو لبيان أن القرآن محفوظ من التغيير والتبديل بعكس التوراة التي بدل فيها وحرّف ، فالقرآن مقروء ولا تكون القراءة إلا من كتاب فهو بذلك كما قلنا سابقا محفوظ في الصدور وفي السطور ، بينما التوراة مكتوبة أي محفوظة في السطور فقط ولم تحفظ في الصدور ولهذا دخلها التحريف والتبديل والتغيير ، وهذا كله مرتبط بالإفسادين المذكورين في أول السورة ، وهذا يعني أن كل ادعاء لبني إسرائيل في القدس والمسجد الأقصى هو باطل وأن ما هو موجود في التوراة من زعم لهم فيها هو من التحريف والزيادة التي دخلتها،،

فالمسجد الأقصى حق للمسلمين كما بينت أول السورة ، وإفساد بني إسرائيل فيه هو طارئ ومؤقت وزائل فكما زال وانتهى الإفساد الأول فيه ، فسينتهي الإفسادين الثاني والثالث فيه أيضا ، بأيادي أتباع القرآن الكريم الذين قال الله فيهم "عبادا لنا" تشريفا لهم وتعريفا بهم.

 

 المسألة الثامنة: ذكرت الآية الكتابة نكرة غير معرّف فقالت (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا) فنكّرت الكتاب للدلالة على أن ما فيه غير معروف لصاحبه ، فهو يجهل ما فيه ، ولهذا يطلب الله منه أن يقرأ كتابه بنفسه ،لإقامة الحجة عليه  وتقريره بأعماله .

 المسألة التاسعة: سمّي يوم القيامة بيوم القيامة لعدة أسباب،

الأول: لأنه اليوم الذي تقوم فيه الساعة،

الثاني: لأن الناس يقومون فيه من قبورهم،

الثالث: لأن فيه تقوم الأشهاد كما قال سبحانه: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) غافر 51. وعنى بقوله: (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة رسلها بالشهادة بأن الرسل قد بلغتهم رسالات ربهم ، وأن الأمم كذبتهم. والأشهاد: جمع شهيد ، كما الأشراف : جمع شريف).

الرابع: لأنه يوم يقوم فيه العدل بعد أن كان الظلم في الدنيا أما الآخرة فلا ظلم فيها بل عدل تام ومطبق.

المسألة العاشرة: قوله تعالى (اقرأ كتابك) يحتمل وجهين أحدهما: لما في قراءته من زيادة التقريع والتوبيخ ، والثاني: ليكون إقراره بقراءته على نفسه .

المسألة الحادية عشرة: قوله تعالى: (كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) قولان: الأول: شاهدا، والثاني: حاكما بعملك من خير أو شر.

المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى "كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا": يطلب الكافر من الله سبحانه وتعالى يوم القيامة أن تشهد عليه جوارحه فينطقها الله سبحانه وتعالى وتشهد عليه بما عمل فيقول:" قبحا لكن وسحقا عنكن كنت أناضل".

 

المسألة الثالثة عشرة: قوله تعالى: (حسيبا) ، الحسيب من أسماء الله الحسنى ، ومعناه: الكافي ، كما يقول المسلم (حسبنا الله ونعم الوكيل) أي : أن الله كافيني ولا كافي لي غيره ، وحَسْبُ،: بِمَعْنَى كَفَى؛

قَالَ سِيبَوَيْهِ: وأَمَّا حَسْبُ، فَمَعْنَاهَا الاكْتِفاءُ. وحَسْبُكَ دِرْهم أَي كَفاكَ، وَتَقُولُ: حَسْبُكَ ذَلِكَ أَي كفاكَ ذَلِكَ؛ والحسب: الكرم ، والحسب: الشرف الثابت في الآباء ، وَقِيلَ: هُوَ الشَّرَفُ فِي الفِعْل، والحَسَبُ: مَا يَعُدُّه الإِنسانُ مِن مَفاخِرِ آبائهِ، والحَسَبُ: الفَعالُ الصَّالِحُ، والحَسَبُ: المالُ، والكَرَمُ: التَّقْوَى.. والحَسَبُ: الدِّينُ.

والحسب غير النسب فالنَّسَبَ عدَد الآباءِ والأُمهاتِ، إِلَى حَيْثُ انْتَهى. والحَسَبُ: الفَعالُ، مِثْلُ الشَّجاعةِ والجُود، وحُسْنِ الخُلُقِ والوَفاءِ ؛ والحَسْبُ: العَدُّ والإِحْصاءُ؛ والحَسَبُ مَا عُدَّ؛

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنه قَالَ: "حَسَبُ المَرْءِ دِينُه، ومُرُوءَتُه خُلُقه، وأَصلُه عَقْلُه." وَفِي الْحَدِيثِ: (أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: كَرَمُ المَرْءِ دِينُه، ومُرُوءَتُه عَقْلُه، وحَسَبُه خُلُقُه).

والحَسَبَ يَحْصُلُ للرَّجل بكَرم أَخْلاقِه، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ، وَإِذَا كَانَ حَسِيبَ الآباءِ، فَهُوَ أَكرَمُ لَهُ. وَفِي حَدِيثِ وَفْدِ هَوازِنَ: قَالَ لَهُمْ: اخْتاروا إحْدَى الطائِفَتَيْنِ: إِما المالَ، وإِما السَّبْيَ. فَقَالُوا: أَمَّا إذْ خَيَّرْتَنا بَيْنَ المالِ والحَسَبِ، فإِنَّا نَخْتارُ الحَسَبَ، فاخْتاروا أَبْناءَهم ونِساءَهم ؛ أَرادوا أَنَّ فِكاكَ الأَسْرَى وإيثارَه عَلَى اسْتِرْجاعِ المالِ حَسَبٌ وفَعالٌ حَسَنٌ، فَهُوَ بالاختِيار أَجْدَرُ؛ والحَسَبُ والحَسْبُ قَدْرُ الشيءِ، كَقَوْلِكَ: الأَجْرُ بحَسَبِ مَا عَمِلْتَ وحَسْبِه أَي قَدْره؛ وَكَقَوْلِكَ: عَلَى حَسَبِ مَا أَسْدَيْتَ إِلَيَّ شُكْري لَكَ، تَقُولُ أَشْكُرُكَ عَلَى حَسَبِ بَلَائِكَ عِنْدي أَي عَلَى قَدْر ذَلِكَ.

 

المسألة الرابعة عشرة: ويستفاد مما سبق ذكره من معاني الحسب أن قوله تعالى (حسيبا) عند قوله: ( كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) الفوائد الآتية،

أولا: في الآية حض وحث للإنسان على أن تكون أفعاله صالحة ، لأن الحسب هو العمل الصالح.

ثانيا: في الآية بيان أن الأصل في كتاب الإنسان يوم القيامة أن يكون كتابا يرتفع فيه شأنه بحسبه الذي جاء فيه من التقوى والعمل الصالح.

ثالثا: أن كتابه كافيه يوم القيامة بما جاء فيه من خير أو شر ، فإن كان الذي جاء فيه حيرا فهو كافيه لدخول الجنة ، وغن كان الذي جاء فيه  شرا فهو كافيه لدخول النار.

رابعا: أن الإنسان لا ينفعه يوم القيامة نسبه بل الذي  ينفعه حسبه وهو عمله الصالح وتقواه (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) المؤمنون 101 ،

خامسا: أن حسب المرء دينه ، سادسا: أن أعمال الإنسان تعد عليه عدا يوم القيامة وتحصى عليه كلها صغيرها وكبيرها (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة 7 و 8.

والحمد لله رب العالمين

ــــــــ

* الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي – عضو الاتحاد العالمي لعلمء المسلمين وإمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك والأمين العام لهيئة العلماء والدعاة بيت المقدس.

 


: الأوسمة



التالي
نواب كويتيون يوقعون بيانا لرفض التطبيع مع الاحتلال.. وهاشتاق #كويتيون_ضد_التطبيع يحصد أكثر من 36 ألف تغريدة
السابق
بسوس العرب 2020.. "العرب وهدم البنيان"

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع