التطبيع مع إسرائيل بين ولي الأمر وتحقيق المناط
بقلم: معتز الخطيب
صدر في الأيام الماضية بيان باسم "مجلس أمناء منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة" يُشيد -بحسب نص البيان- "بمبادرة الإمارات العربية المتحدة الموفقة وجهودها المسددة"، التي أعلنت عنها بخصوص التطبيع مع إسرائيل، كما أشاد المجلس "بحكمة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد وسعيه من أجل السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط"، وسبق أن نقلت وكالة الأنباء الإماراتية عن الشيخ عبد الله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ورئيس منتدى السلم موقفا مماثلا.
وفي المقابل صدرت 3 مواقف عن 3 من أمناء منتدى السلم. الأول عن حمزة يوسف تلميذ بن بيه، دعا فيه الناس إلى التثبت مستشهدا بالمقولة الفقهية "لا يُنسب لساكت قول"، ولكن حمزة وإن لم يبين موقفه من البيان أو من قرار التطبيع؛ فإنه أكد -بكلامه هذا- أنه ساكت وأنه لا يُنسَب له قول، ما يلزم عنه -سواء درى أم لم يدر- إنكار صحة البيان الذي صدر باسمه؛ فالساكت ليس له قول سواء كان تأييدا أم معارضة، وهو ما يبطل الموقفين معا بناء على القاعدة نفسها التي استشهد بها.
العضوان الآخران كانا أكثر مباشرة وصراحة في التعبير عن إنكارهما لصحة البيان باسمهما على الأقل، الأول هو القاضي أحمد هليل من الأردن والثاني هو عبد الله المعتوق المستشار في الديوان الأميري الكويتي. وقد أكد المعتوق التزامه "بالسياسات والمواقف الثابتة، والمبدئية لدولة الكويت تجاه القضية الفلسطينية".
من الواضح هنا أن دولة الإمارات تحاول استثمار الهيئتين اللتين أنشأتهما (منتدى السلم، ومجلس الإفتاء) لإضفاء شرعية دينية على قرارها السياسي، كما فعلت من قبل هي والسعودية حين سخرتا كل الهيئات الدينية لدعم قرار حصار قطر بما فيها منتدى السلم نفسه. وهذا يعني أن استقالة بن بيه من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لم تكن رفضا للتسييس بل تبدلا في التحالفات والموقع السياسي، وهو ما عبر عنه في خطاب استقالته بعبارة غامضة قال فيها "ظروفي الخاصة والدور المتواضع الذي أحاول القيام به فى سبيل الاصلاح والمصالحة مما يقتضي خطابا لا يتلاءم مع موقعي فى الاتحاد". فبيان التطبيع مع إسرائيل هو أحد المواقف التي تعكس الموقع الجديد لبن بيه؛ فهو -منذ استقالته- لا يتحرك إلا ضمن دائرة السياسة الإماراتية، مستثمرا في ذلك عُدته الفقهية لخدمة موقعه الجديد، وتحديدا مسألتي المصالح وتحقيق المناط.
يشكل موقف بن بيه من قرار التطبيع مثالا نموذجيا للبرهنة على ما سبق؛ فقد قال "إن هذه المبادرة هي من الصلاحيات الحصرية والسيادية لولي الأمر شرعا ونظاما"، وتابعه على ذلك علي الجفري رئيس مؤسسة طابة التي مقرها الإمارات أيضا فقال "لا يخفى على من لديه مسكة من علم في الفقه أن قرار عقد المعاهدات مع العدو صلحا كانت أو هدنة؛ هو من مسائل السياسة الشرعية، التي أنيطت بولي الأمر وفق ما يظهر له من مصلحة عامة".
قررت في مقال الأسبوع الماضي أن قرار الصلح والحرب والعلاقات الدولية إجمالا هو قرار مصلحي في الفقه الإسلامي، لكن الإشكال يكمن في تصور المصالح من جهة، وفي الاستثمار السياسي لتحقيق المناط الذي جعله بن بيه عنوانا لمشروعه عامة وعقد له مؤتمرا من جهة أخرى.
يقع القائلون بفكرة الاختصاص الحصري لولي الأمر في مثل هذه القرارات في إشكالات عدة:
أولها: إن الفقهاء السابقين حينما تحدثوا عن "ولي الأمر" إنما اشترطوا فيه -اتفاقا- صفات محددة، منها أن يكون مجتهدا في الشريعة؛ حتى تتحقق له الكفاية، كما اشترطوا ذلك في القاضي أيضا؛ لكنهم آلوا بعد ذلك إلى التخفيف من الشروط بحكم الضرورة، لتصحيح التصرفات والعقود من الناحية الشرعية حتى يستقيم نظام الحياة، فوازنوا بين عالمي الواقع والمثال، وبهذا صار الولاة والقضاة حكام ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها؛ لأنها تختلف عن الأحوال الطبيعية، فلا تُعطى جميع أحكامها ولا يتم التطبيع الكامل مع الضرورة؛ بحجة عدم إمكان تغييرها (نشأ مثلا 3 درجات للتقاضي، وهو ما يعوض الشروط الصعبة في القاضي).
اعلان
وبناء على ما سبق، إذا أراد بعضهم أن يحتج باختصاصات ووظائف ولي الأمر في فقه ما قبل الدولة القطرية، فعليه أن يعود إذن إلى السؤال المهم هنا؛ وهو من ولي الأمر؟ وما صفاته؟ ومن الطريف هنا أننا نتحدث عن موريتاني (بن بيه) ويمني (الجفري) يؤيدان قرار ولي أمر إماراتي، وعلى خلاف قرار ولي أمرهما في موريتانيا واليمن، ما يعيدنا إلى سؤال مهم هنا؛ وهو ماذا نفعل لو تعارضت تقديرات أولياء الأمور للمصالح؟ وما الذي يحمل موريتانيا ويمنيا على مخالفة قرارات ولي أمرهما؟ وهي النقطة التي انتبه لها المعتوق حين أكد التزامه بموقف دولته هنا.
ثانيها: لو سلمنا بأن هذا القرار هو اختصاص حصري لولي الأمر، فإن هذا يعني أن كل موقف منه (سواء كان إنكارا أم تأييدا) هو تدخل في صلاحياته، وهو تناقض داخلي يقع فيه المؤيدون؛ ما داموا يتبنون فكرة "الاختصاص الحصري" بحيث يصبح تعليقهم على مثل هذه القرارات غير ذي صفة، في حين أن مخالفيهم يرون أن مثل هذه القرارات تُضر بهم وبقضاياهم العادلة، ومن ثم فهي تعنيهم كما تعني ولي الأمر.
ثالثها: إن المصالح المعتبرة هنا هي المصالح الشرعية لا مصالح الحكام أو الأنظمة، والمصالح الشرعية هي المصالح التي اعتبرها الشارع أو حتى تلك التي سكت عنها فلم ينكرها (المصالح المرسلة عند المالكية)؛ لأن الأحكام إنما تدور على رعاية قصد الشارع ورضاه. وهذا يعني أن تقدير المصالح الشرعية لا يتأهل له حكام الضرورة أو لا ينفردون به على الأقل؛ لعدم أهليتهم للاجتهاد في تحديد ما هو شرعي مما ليس بشرعي في نظر الشارع، الأمر الذي يُفسح مجالا للفقيه في تقويم ما هو مشروع مما ليس بمشروع، وهذه وظيفته وهي بيان الأحكام المعيارية.
رابعها: يقوم الفقه على التمييز بين الحكم ومناطه (أي العلة التي عُلِّق بها الحكم)، كالقول -مثلا- بوجوب القصاص في حالة وقوع القتل العمد. فالحكم هنا هو "وجوب القصاص"، أما المناط فهو تحقق صفة "القتل العمد"، ما يعني أنه يجب على القاضي أن يدقق في وجود العمدية لدى القاتل بناء على الأدلة والقرائن، وإلا لا يمكنه إصدار الحكم بوجوب القصاص. فإذا ما عدنا إلى مسألة التطبيع التي جعلها بن بيه حقا حصريا لولي الأمر، نجد أن الحكم هنا (هو جواز الصلح)، لكن مَناطه هو (وجود المصلحة الشرعية) وليس (ولي الأمر)؛ أي إننا نتحدث عن حكم وعن مناط وعن مُنَفذ للحكم بعد تحقيق المناط، ومن هنا رأى فقهاء الحنفية أنه يجوز عقد الهدنة والموادعة مع أهل الحرب من قبل فريق من المسلمين، ولو بغير إذن الإمام؛ لأن مناط الحكم هو المصلحة فحيثما وجدت صحّ الحكم.
حين يُحصر فعل التطبيع بولي الأمر من دون مناقشة ما إذا كان المناط متحققا أم لا، فإننا في الواقع أمام شخصنة للمصلحة بما يجعلها مسألة ذاتية وليست موضوعية (مبنية على معطيات علمية وتقديرات خبراء)، والجفري أصرح من بن بيه في هذا؛ إذ يقول "أثق على وجه التحديد في أخي الشيخ محمد بن زايد ثقة مبنية على معرفة عن قرب". فكأن المصلحة إنما تتحدد بفعل ولي الأمر نفسه، ولا وجود لها بمعزل عنه، وهو ما يذكرنا بالسؤال الكلامي القديم حول ما إذا كان أمر الله ونهيه هو الذي يحدد المصلحة أم أن المصلحة هي التي تحدد أمر الله ونهيه. بمعنى: هل يكون الفعل حسنا بمجرد أمر الله به، أم لأنه حسن أمر الله به؟ في الحالة الأولى ليس للفعل أي صفة معيارية؛ فالأمر الإلهي هو الذي يجعل فيه القيمة، أما في الحالة الثانية فإن الصفة المعيارية ثابتة للفعل نفسه قبل وجود الأمر الذي يقوم بتأكيد تلك الصفة المعيارية. فكأن مشايخ السلطة ينقلون هذا المعنى من الأمر الإلهي إلى الفعل السلطاني، فبمجرد فعل ولي الأمر للشيء يجعله مصلحة -في نظرهم- وهكذا يتحول ولي الأمر إلى شارعٍ، ويصبح المفتي موَقّعا عنه بصفته شارعا، فولي الأمر – حده- العالم بالمصلحة!.
أما تحقيق المناط -وهو المدخل الفقهي الثاني الذي بات يُستعمل اليوم لدعم الاستبداد والثورة المضادة- فيمكن أن نعالجه هنا بإيجاز من جهتين: الاستدعاء الانتقائي له، ومحاولات التنظير للواقع السيئ وشرعنته بالفتوى له (قبل وقوعه أو حتى قبل استقراره واقعا)؛ بحجة تحقيق المناط.
ففيما يخص الجهة الأولى، وهي الاستدعاء الانتقائي لتحقيق المناط، نجد أنه غاب عن مسألة التطبيع مع إسرائيل؛ لأن حضوره من شأنه أن يعكر على الموقف السياسي الذي يُراد له أن يكون فيه المصلحة، لكن لو عدنا إلى تنزيل الحكم الفقهي القديم (جواز الصلح) على واقع دول اليوم سنواجه صعوبات عديدة تتلخص في الآتي:
أولا: إن المصالح في ظل الدولة القطرية باتت أشد تعقيدا من تلك التي ألفناها في مرحلة ما قبل الدولة القطرية (كما أوضحت طرفا من هذا في مقال الأسبوع الماضي)؛ فقد انقسمت دار الإسلام إلى دول، وباتت إدارة المصلحة وتقديراتها متشابكة مع أطراف عديدة. فتقدير مصلحة دولة -كالإمارات مثلا- في التطبيع مع إسرائيل لا يمكن تقويمها -فقهيا- بمعزل عن مصلحة الفلسطينيين أولا؛ فهم أصحاب الاختصاص بالدرجة الأولى، وهذا لا يعني أن المصلحة لم تعد من اختصاص ولي أمر الإمارات فقط؛ بل يعني أيضا أن معايير تقدير المصالح من الناحية الشرعية باتت مختلفة؛ فإذا تعارضت مصلحة الإمارات مع مصلحة أصحاب القضية (وهم الفلسطينيون) وعاد قرار التطبيع عليهم بالضرر؛ فإن المعيار الشرعي هنا هو أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. وغني عن القول أن حساب المصالح والمفاسد هنا يقتضي التنسيق المسبق بين أولياء الأمور، وهو الأمر الذي لم يقع أصلا في حالة الإمارات؛ بل اتُفق عليه بمعزل عن أولياء الأمر في فلسطين، ما يعني أن تنزيل مقولة "اختصاصات ولي الأمر" يتجاهل واقع الدولة القطرية وتعقيداته ويتم بمعزل عن قواعد المصالح الشرعية؛ بغرض الاستثمار السياسي فقط.
يتشابه -بهذا- استثمار بعض المفردات الفقهية في ظل الدولة القطرية مع طرائق جماعات العنف في الاستثمار الانتقائي للفقه وفي تجاهل كامل لتحقيق المناط؛ لأن تنزيل الأحكام السلطانية في فقه ما قبل الدولة على واقع الدولة هو ممارسة لا تاريخية؛ لأنها تفتقر إلى فهم الإطار والقوانين التي تُنزّل الأحكام عليها، فكل حكم تكليفي محاط بحكم وضعي (الأسباب والشروط والموانع وغيرها)، وهي كلها ضرورية لتحقيق المناط وفهم التبدلات التي طرأت على النظام السياسي برمته وهو ما يتطلب اجتهادا جديدا لا مجرد استثمار سياسي موضعي لفقه قديم.
ثانيا: إن تحقيق المناط في مسائل السياسة في عالم الدولة القطرية يتعلق بإدراك تحول النظام السياسي من النظام السلطاني إلى نظام الدولة، ومن حكم الفرد إلى الحكم المؤسسي، ومن ثم فإذا ورد الخطاب الشرعي موجها إلى ولي الأمر في تحقيق مناط حكم معين، فإن ولي الأمر هنا لا يغدو فردا، كما أنه ليس له سلطة معيارية يستبد بها؛ لأن السلطة المعيارية تبقى بمعزل عن ولي الأمر وعن شخص الفقيه، فليس قول واحد منهما بحجة في ذاته، فسلطة الفقيه تكمن في حججه ومدى اتساقها مع نظام الشريعة الذي يجسده التقليد العلمي المتراكم، وسلطة ولي الأمر هي سلطة اتخاذ القرار المناسب الذي يحقق المصالح المرعية على شرطها؛ فهي سلطة محكومة بمرجعية معيارية مفصولة عنه؛ بحيث تراقب فعل السلطة وتصون حقوق الجماعة حتى لا يساء استخدام السلطة ولا تُنتهك حقوق الجماعة باسم الشريعة، وهو ما طورته الأنظمة الديمقراطية وفق النظام الدستوري اليوم.
وفيما يخص الجهة الثانية وهي الاسترسال مع الواقع حتى قبل تشكله أو استقراره، نجد أن مشروع "تحقيق المناط" يعمل على إمداد الأنظمة الاستبدادية بالمسوغات الفقهية؛ لشرعنة الواقع الوبيل عبر الاستسلام له والركوب في مركب السلطة والإفادة من منافعها. فالمناط لا يمكن اختزاله في ملاحظة ما هو واقع أو التنبؤ بما هو متوقع من موقع المراقب والمسترسل مع السلطة وقراراتها؛ فليست هذه مهمة الفقيه الحق (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا). ثم إن ممارسة دور المراقب المسترسل المِطواع يُفقد الدين طاقته التغييرية، وقدرته على مقاومة كل قدر بقدر مثله، ويجعل المعياري في انحسار دائم أمام الواقعي، في حين حافظَ الفقه الإسلامي -عبر تاريخه- على الموازنة بين الواقع والمثال (الواقعي والمعياري) من خلال تنظيرات وممارسات مختلفة، منها فقه الضرورة التي لها ضوابطها وقواعدها (الاستثناء والتيسير والتدرج وقواعد المصالح والمفاسد)، فالحياة مسار معقد من الجدل المستمر بين الواقع والمثال، ولكن الاستسلام للواقع والتوقيع عن الحكام باسم الشريعة من شأنه أن يودي بالمعياري ويجعل من حالة الضرورة حالة طبيعية.
فعلى سبيل المثال، راعى فقهاء الحنفية فساد الزمان، فأدركوا أنه يفرض تقييدات وتحوطات في الفتوى مما يجعل من اختصاصات ولي الأمر تتغير؛ بحسب فساد الزمان (ومبلغ عدله وجوره)، فأفتوا بخلاف المنصوص في كتبهم لفساد الزمان وجور الحكام؛ لأنهم تدبروا مآلات الفتوى وإمكان استغلالها من قبل حكام الجور، بما قد يؤدي إلى سلب الناس حقوقهم أو إضفاء شرعية شكلية (منزوعة القيمة) على تصرفات ظالمة.
وقد أدرك رشيد رضا هذه المسألة أيضا رغم احتفائه الشديد بفكرة المصالح، فقال "الظاهر أن مسائل المعاملات التي يُرجع فيها إلى الحكام: من قضائية وسياسية وحربية، ترجع كلها إلى الأصل الذي بينه حديث (لا ضرر ولا ضرار) بالتبع لآيات رفع المُضارّة… على أن جماهير الفقهاء يصرحون دائما بإرجاع جميع الأحكام إلى القاعدة المذكورة آنفا… وإنما فر أكثر علماء الأمة من تقرير هذا الأصل تقريرا صريحا؛ مع اعتبارهم كلهم له -كما قال القرافي- خوفا من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لاتباع أهوائهم وإرضاء استبدادهم في أموال الناس ودمائهم، فرأوا أن يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص، ولو بضرب من الأقيسة الخفية، فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسالك العلة في القياس، ولم ينوطوها باجتهاد الأمراء والحكام. وهذا الخوف في محله، ولكن لم يقِ الأمة من أهواء الحكام كما ينبغي؛ إذ كان يوجد في عهد كل ظالم من علماء السوء مَن يمهد له الطريق، ولو لبعض ما يريد من اتباع الهوى".
لقد مارس العلماء الكبار تاريخيا وظيفتين: وظيفة معرفية تمثلت في بيان أحكام الشرع، ومن هنا عظموا أمر الفتوى؛ لأنها توقيع عن الله، ووظيفة أخلاقية تمثلت في اتخاذ المواقف الأخلاقية الملائمة والمتسقة مع أحكام الشارع، وفي أضعف الإيمان كان مَن ضعُفت نفسه أو خشي عليها يؤثر السلامة بالابتعاد عن الدخول على السلاطين وعدم العمل معهم؛ بل ناقش الفقهاء حكم الأكل من طعام الحكام الظلَمة، ولم يكن ذلك كله ليتحقق لهم إلا عبر مسلكين: الأول الاستقلال المالي عبر الوقف أو التجارات أو المواريث من جهة، وعبر المنهج العلمي الذي وضع فيه الشافعي كتابه الرسالة ليحجز الحكام عن التلاعب في الأحكام، فوضع المنهج الذي يعصم من تحويل الشريعة إلى مادة خام، وعبر ضبط مسالك العلة كما أشار رشيد رضا هنا. أما حلف الثورة المضادة فقد سعى بعد الانقلاب في مصر إلى إعادة تنظيم صفوف فقهاء السلطة؛ ليكونوا لها درعا في مواجهة ثورات الربيع العربي تحت لافتات براقة كالحكمة والسلم. ولله الأمر من قبل ومن بعد.