"شيخ السلطان" والمعايير الأخلاقية للاتصال بالسلطة
بقلم: معتز الخطيب (عضو الاتحاد)
عالجت في مقالات سابقة عدة مسائل تتصل بالعلاقة بين المشايخ والسلطة من زوايا مختلفة، بعضها يتصل بتفكيك الحجج الفقهية التي يستخدمها مشايخ السلطة: كالمصلحة التي باتت أداة للاستثمار السياسي، وصلاحيات ولي الأمر وحدودها في الفقه الإسلامي لفضح تزييف مشايخ السلطة لها،
كما أنني أوضحت في بضع مقالات كيف أن الشيخ عبد الله بن بيه يجسد مرحلة متقدمة في "مشيخة السلطة" حيث يؤصل للاستبداد والظلم تحت شعارات زائفة هدفها خدمة السلطان، وتحصيل منافع قاصرة، في حين أن عامة مشايخ السلطة ربما اكتفوا ببيان أو فتوى أو إعلان موقف.
لا نعرف على وجه التحديد متى ظهر تعبير "شيخ السلطان"؛ لكن هذه الإضافة إلى السلطان تحتمل دلالتين متعارضتين، أولاهما: الشيخ الذي يتبعه السلطان، وهي -على هذا المعنى- تنطوي على معنى الإخبار، وربما التعظيم أيضا، وثانيهما: الشيخ الذي يتبع السلطان، فيعمل له، ويطوّع معرفته الشرعية لخدمة أغراض السلطان، وهي -على هذا المعنى- إضافة تحقيرية.
ومن طرائف ما تذكره كتب التاريخ قصة الشيخ خضر بن أبي بكر بن موسى المهراني العدوي (676 للهجرة)، وكان شيخا مشهورا في زمانه، وعُد شيخ الملك الظاهر بيبرس، ولذلك ترد الإحالة إليه أحيانا باسم "خضر شيخ السلطان". يحدثنا الإمام الذهبي عنه بأنه "كان صاحب حال ونفس مؤثِّرة، وهِمّة إبليسية، وحال كاهنيّ". ويكاد يتفق كتاب التراجم -ممن تعرضوا لقصته- على أنه كانت له موافقات؛ فقد كان يخبر بالشيء قبل وقوعه، فيقع على وفق ما قال، ولأجل هذا تَنَفّذ واستطال على الناس؛ بل والأمراء. من ذلك أنه أخبر الملك الظاهر بوقوع السلطنة له قبل وقوعها، ولذلك كان الملك الظاهر "يعظمه وينزل إلى زيارته في كل أسبوع مرة ومرتين وثلاثا، ويُطلعه على غوامض أسراره، ويستشيره، ويستصحبه في أسفاره، ويخبره بأمور قبل وقوعها". وكان السلطان لا يخرج عما يشير به الشيخ خضر، وأطلق يده وصرّفه في مملكته، فهدم كنيسة اليهود بدمشق، وهدم كنيسة للنصارى بالقدس، وجعلها زاوية، وقتل قسيسها بيده، وهدم كنيسة للروم بالإسكندرية وحولها إلى مسجد سماه الخضر، فاتقى جانبه الخاص والعام. وما برح خضر على منزلته تلك إلى 18 شوال سنة 671 للهجرة حين قُبض عليه، واعتقل بقلعة الجبل، ومنع الناس من الاجتماع به.
وكانوا قد حاققوه على أمور كثيرة منكرة أبهمها الذهبي مكتفيا بالقول إنها "لا تصدر من مسلم"، وفي موضع آخر قال "وجرى ما لا ينبغي"، ولكن المقريزي والنويري ذكرا أن مما اتهم به اللواط والزنا، ولعلها كانت مكيدة من بعض الأمراء، الذين أغروا بعض أتباعه بالشهادة عليه، كما يفهم من حكايته عند النويري، وقد نقل الذهبي عن شيخه ابن تيمية قوله "كان خضر مسلما صحيح العقيدة؛ لكنه قليل الدين باطوليّ. له حال شيطاني". أما المقريزي فقال "كانت أحواله عجيبة لا تتكيف، وأقوال الناس فيه مختلفة، منهم من يُثبت صلاحه ويعتقده، ومنهم من يرميه بالعظائم".
تجسد هذه الحكاية إحدى الممارسات المبكرة لشيخ السلطان بالمعنى الثاني السابق، حيث يسلك مسلك إعانة السلطان على أغراضه السلطوية مع فساد في الديانة، ومن العبارات الأقدم لما نحن فيه ما استعمله إمام التابعين إبراهيم النخعي (96 للهجرة) في حق عبد الرحمن بن أبي ليلى حين وصفه بأنه "صاحب أمراء" في معرض الذم. ولدينا إرث ثري في التنظير لهذه العلاقة المتوترة بين العالم والسلطان، ويمكن أن نميز فيه بين نوعين من المصنفات:
الأول: مصنفات مفردة هدفها ذم الدخول على السلاطين، والتحذير من الافتتان بالدخول عليهم، ككتاب الإمام جلال الدين السيوطي (911 للهجرة) "ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين" وغيره. من تلك الروايات والأحاديث النبوية "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن" (رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم). ونجد في كتب التراجم أخبارا عن بعض العلماء تشيد بأن فلانا كان يعتزل السلطان، من ذلك -مثلا- أن نصر الله بن محمد المصيصي (542 للهجرة) "كان منقبضا عن الدخول على السلاطين". وفي المقابل نرى ابن السمعاني -مثلا- يقول عن علي بن أحمد بن الإسكندر العلوي الحسيني في معرض الذم "حريصٌ على طلب الدنيا والجَمع، دَخَّال على السلاطين والوزراء ومنازل الأمراء".
"هكذا كان اعتزال السلاطين سمة أهل العلم والورع تاريخيا، ولهذا حكى البيهقي عن الشافعي وغيره من أهل الورع كراهيتهم الدخول على السلاطين والاختلاط بهم، وكان أحمد لا يأتي الخلفاء ولا الولاة والأمراء، ويمتنع عن الكتابة إليهم، وينهى أصحابه عن ذلك مطلقا"
ويتأكد ذم الاتصال بالسلاطين في مجال رواية الحديث النبوي، ولهذا كان علماء الحديث يذمون من يتقرب من السلطان أو يعمل معه أو يغشاه؛ لأنهم كانوا يرون ذلك تهمة تؤثر في ديانته والثقة به وبروايته. من ذلك أن أحد أئمة الجرح والتعديل وهو أبو حاتم الرازي، كان يقول عن حميد بن هلال بن هبيرة "دخل في شيء من عمل السلطان"، ولهذا كان لا يرضاه مع أنه كان ثقة في الحديث، وكذلك كان يفعل محمد بن سيرين؛ لكن ابن عدي -وهو أحد أئمة الجرح والتعديل المتأخرين- قال "والذي حكاه يحيى القطان أن محمد بن سيرين كان لا يرضاه لا أدري ما وجهه، فلعله كان لا يرضاه في معنى آخر ليس الحديث. فأما في الحديث فإنه لا بأس به، وبرواياته". يبدو أنه كان لا يرضاه لاتصاله بالسلطان مما أورث في نفسه منه شبهة، وهو ما صرح به أبو حاتم من قبل؛ بل إن اعتزال السلطان كان معيار التفضيل بين الرواة لدى الإمام أحمد، فقد كان يفضل خالد الطحان على هُشيم؛ لأن خالدا "لم يتلبس من السلطان بشيء".
هكذا كان اعتزال السلاطين سمة أهل العلم والورع تاريخيا، ولهذا حكى البيهقي عن الشافعي وغيره من أهل الورع كراهيتهم الدخول على السلاطين والاختلاط بهم، وكان أحمد لا يأتي الخلفاء ولا الولاة والأمراء، ويمتنع عن الكتابة إليهم، وينهى أصحابه عن ذلك مطلقا، وقال تلميذه مهنا "سألت أحمد عن إبراهيم بن الهروي؟ فقال رجل وسخ. فقلت ما قولك إنه وسخ؟ قال من يتبع الولاة والقضاة فهو وسخ". وكان هذا رأي جماعة من السلف، منهم سويد بن غفلة وطاوس والنخعي وأبو حازم الأعرج والثوري والفضيل بن عياض وابن المبارك وداود الطائي وعبد الله بن إدريس وبشر بن الحارث الحافي وغيرهم. وكان مما أُخذ على القاضي أبي بكر بن العربي (543 للهجرة) أنه "تعلق بأذيال المُلك، ولم يَجر مجرى العلماء في مجاهرة السلاطين وحزبهم".
النوع الثاني: مصنفات مفردة في نصيحة الملوك أو السلاطين، وقد صنف في هذا أئمة حتى بات يطلق على هذا النوع نصائح الملوك، وهو أحد فروع مصنفات السياسة في التراث الإسلامي إلى جانب فرعين آخرين: كتب الأحكام السلطانية وكتب السياسة الشرعية. وممن صنف في نصائح الملوك الماوردي (450 للهجرة) والحسن الأهوازي (446 للهجرة) والغزالي (505 للهجرة) وغيرهم؛ لأنهم رأوا أن النصيحة مبدأ أخلاقي عام، وهي للملوك أو السلطان آكد؛ لأن فيها نصيحة للكافة باعتبار أثرها ونفعها. يقول الماوردي "في نصيحة الكافة هداية إلى مصلحة العالم بأسره، ونظام أمور الكل بجملته، وعلى حسب ذلك يرجو باذلها لهم من ثواب العاجل والآجل وجزاء المحيا والممات".
ولكن كيف نوفق بين الاعتزال والنصيحة، وفي زمنهم لم تكن النصيحة ممكنة من دون الاتصال بهم؟
حاول ابن عبد البر حل هذا الإشكال من خلال القول: إن أحاديث الاعتزال إنما هي "في السلطان الجائر الفاسق. فأما العدل منهم الفاضل، فمداخلته ورؤيته وعونه على الصلاح من أفضل أعمال البر. ألا ترى أن عمر بن عبد العزيز إنما كان يصحبه جلة العلماء مثل عروة بن الزبير وطبقته وابن شهاب وطبقته، وقد كان ابن شهاب يدخل إلى السلطان عبد الملك وبنيه من بعده، وكان ممن يدخل إلى السلطان: الشَّعبي وقَبيصة بن ذُؤيب والحسن وأبو الزناد ومالك والأوزاعي والشافعي رضي الله عنهم، وجماعة يطول ذكرهم". وكذلك أوضح ابن مفلح أن هذا الذم محمول على من أتى السلطان لطلب الدنيا، ولا سيما إن كان ظالما جائرا، أو أنه محمول على من اعتاد ذلك ولزمه؛ أي داوم عليه، فإنه يُخاف عليه الافتتان والعجب؛ بدليل لفظ آخر في الحديث يرد فيه "ومن لزم السلطان افتتن".
من الواضح أن الذم ليس في مجرد الاتصال بالسلطان حتى يتم ذم كل من اتصل بالسلطان، أو التهور في المساوة بين جميع المتصلين بالسلطة من كل وجه ذما أو مدحا، فالاتصال بمجرده ليس فضيلة ولا رذيلة، ومن ثم تفاوتت أحوال المتصلين بالسلطة كما سأوضح قريبا، وإن كان مجرد الاتصال مظنة التهمة عند السابقين لاعتبارات تتصل بالتجربة التاريخية والفتن، التي وقعت في سبيل السلطة من جهة، وبصفات حكام زمانهم من جهة أخرى، والذين فشا في جمهورهم الاستبداد والقمع مع استثناءات، ولذلك لم يجد ابن عبد البر بُدا من القول عن مجالس السلطان "الفتنة فيها أغلب، والسلامة منها ترك ما فيها"؛ لأن المتصل بالسلطان في هذه الحالة يضحي بسلامة ديانته الفردية بدون أن يغلب على ظنه وجود مصلحة عامة يتم تحقيقها تكون عذرا له يوم القيامة وعند الناس. وما وقع من استثناءات في ذلك، فهي إما لخصوصية الحكام الذين وقع الاتصال بهم كعمر بن عبد العزيز مثلا المشهور بعدله، أو لخصوصية المتصل بهم؛ لما عُرف من جرأته وشجاعته وعدم خشيته في الله لومة لائم، هذا في أهل الفضل والعلم طبعا.
ويمكن القول: إن الاتصال بالسلطة تحكمه 3 اعتبارات:
الأول: شخص الشيخ الذي يتصل بالسلطان أو السلطة، وخصائصه الفردية، كالشجاعة والجبن والقدرة على التغيير أو التأثير من عدمه، والديانة قلة أو كثرة، وهي الديانة الحاجزة له عن ممالأة السلطان أو الاسترسال معه في أغراضه وأهوائه، ويعرف هذا من خلال مسيرة الشيخ العامة، والكفاءة في فهم ألاعيب السياسة ودهاء الحكام، والكفاءة العلمية والسياسية، التي تؤهله لتأدية دور ما مؤثر أو مغير، وهذا يتصل بمكانة الشيخ عند الناس وقوته المعنوية، التي تجعل له وزنا في مقابلة الحاكم، فمن لا وزن له لا يقدر على التأثير، ويكون اتصاله لمصلحة نفسه، وليرفع من خسيسته فقط.
الثاني: مقاصد الشيخ من الاتصال بالسلطة، هل هي مقاصد شرعية؟ وما المصلحة التي يتوخاها؟ هل هي شخصية أم عامة؟ هل هي قاصرة أم متعدية؟ ويشكل زمن الاتصال بالسلطة عنصرا فارقا ومؤثرا؛ لأن الاتصال في سياق التجاذبات السياسية والصراعات ما هو إلا اصطفاف إلى جانب على حساب آخر، وبهذا يعد مجرد الاتصال تحزبا سياسيا؛ ولا يمكن الادعاء عندها بأنه لتحقيق مصلحة عامة للمسلمين؛ لأنه بانحيازه فقد قدرته على التوسط بين الأطراف المتصارعة.
الثالث: صفة السلطان الذي يقع الاتصال به وسياساته العامة الظاهرة، ومدى قابليته للتأثر بتواصل الشيخ معه؛ لأن السلطان إن لم يكن ممن يقبل النصح من مثل هذا الشيخ، فإن مجرد الاتصال به هو رذيلة؛ ففي هذه الحالة يصبح اتصال الشيخ بالسلطان عاريا عن أي مصالح شرعية، فإذا انضم إلى ذلك مصلحة غالبة للسلطان من الاتصال بالشيخ نفسه في أوقات الصراع والاصطفاف كان الاتصال به ظالما؛ لأنه إعانة له على ظلمه، ليتحول الشيخ فيه إلى مجرد أداة من أدوات ظلم وبطش السلطان، وفي هذه الحالة يندرج الشيخ نفسه ضمن فئة الظالمين أنفسهم لا أعوانهم، وإن تفاوتت درجات الظالمين بدرجات الظلم.
وقد لاحظنا أن تصرفات المتصلين بالحكام تنوعت تاريخيا، فقد كان رجاء يقول "كان الحسن [البصري] يجيء إلى السلطان ويعيبهم، وكان ابن سيرين لا يجيء إليهم، ولا يعيبهم". وقال هشام "ما رأيت أحدا عند السلطان أصلب من ابن سيرين". وقيل لمالك بن أنس "إنك تدخل على السلطان، وهم يظلمون ويجورون!، فقال يرحمك الله، فأين المكلم بالحق؟". واضح من هذه الأخبار أن تصرفات المتصلين بالسلطان كانت محكومة بمقصد أخلاقي، وهو النصح وقول كلمة الحق مع الثبات أمامهم؛ لذلك جعلنا شخصية المتصل أحد الاعتبارات في تقويم الاتصال نفسه. وما نشاهده اليوم من اتصال بعض المشايخ بالسلطان ما هو إلا للركوب في مركبهم، وتبني وجهات نظرهم ونصرتها وتسويقها للناس باسم الشريعة، كما فعل البوطي وكما يفعل بن بيه وغيره ممن لا تجد لهم كلمة نقدية واحدة في حق الحكام؛ بل لا تجدهم إلا حيث يرضى عنهم الحاكم، وهذا معيار مهم في التفريق بين شيخ السلطة وغيره.
فمعيار الاتصال هو ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تقليل المفاسد بقدر الإمكان، فإذا تحقق له عدم قدرته على ذلك، أو أن الاتصال لا يؤثر في الواقع شيئا وجب عليه الانفصال، وقد فاضل أحمد بن حنبل بين الإمامين ابن أبي ذئب ومالك، فقال ابن أبي ذئب أصلح في دينه وأورع ورعا، وأقوم بالحق من مالك عند السلاطين؛ وقد دخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر المنصور فلم يَهَبه أن قَال له الحق؛ إذ قال: الظلم فاشٍ ببابك. وأبو جعفر أبو جعفر!. وقال حماد بن أبي خالد كان أحمد يشبّه ابن أبي ذئب بسعيد بن المسيّب في زمانه؛ وما كان ابن أبي ذئب ومالك في موضع عند السلطان إلا تكلم ابن أبي ذئب بالحق والأمر والنهي، ومالك ساكت، وإنما كان يقال ابن أبي ذئب وسعيد: أصحاب أمر ونهي. فإذا كان هذا التفاضل لمجرد صدع أحدهما بالحق وصمت الآخر، فكيف يكون الحال مع التأييد العلني والتنظير للاستبداد والظلم وإصدار الفتاوى باسم الله تعالى؟.
وإذا كان ما سبق كله يدور حول الاتصال بالسلطة بشكله التقليدي، فإن التغيرات التي طرأت على عالم السياسة ومفاهيم النصيحة والدور السياسي، الذي يمارسه الفاعلون أيًّا كانوا سيكون له أثر في إعادة صياغة هذه العلاقة بين العالم والسلطة، وهذا الفهم هو جزء من الاعتبارات، التي تدخل في تقويم أخلاقية الاتصال بالسلطة من عدمه؛ لأن الاتصال بها مع قلة الكفاءة أو الغفلة سيجعل من مجرد الاتصال فتنة، ويتحول إلى مفسدة على المستويين الشخصي والعام كما رأينا في أكثر من حالة. فالنصيحة تاريخيا كانت تأخذ شكلين: الأول: كتابة مؤلفات يُخاطب بها الحكام كما سبق، والثاني: الاتصال بهم ووعظهم وهو شكل مارسه تاريخيا أشخاص كثيرون، وكانت لهم مواقف مشهودة؛ لكن مفهوم السياسة الحديث يتضمن بالضرورة النقد والمعارضة من جهة، ولا يستلزم الاتصال المباشر بالسلطة من جهة أخرى، فالفتنة التي يقع فيها الموظف عند السلطة أعظم من الفتنة، التي يمكن أن يتعرض لها من هو خارج جهاز الدولة، كما أن الفتنة التي يتعرض لها الشيخ المواطن في دولته هي أعظم بكثير من الفتنة، التي يتعرض لها الشيخ غير المواطن حين يذهب ليتصل، ويعمل في خدمة دولة أخرى لا يحمل مواطنتها.
كما أن الميزان سيختلف في تقويم تصرفات شخص ينتمي إلى حركة كبرى تقوم أيديولوجيتها على معارضة الأنظمة عامة، وبين شخص يدافع عن الأنظمة القائمة نفسها، فالأول لا يمكن أن يوصف بأنه شيخ سلطة وإن أمكن نقد تصرفاته التي اتصل فيها بهذه السلطة أو تلك؛ لأن مشروعه قائم على معارضة هذه الأنظمة، وهو حين يتصل ببعضها، فإنما يفعل لتقاطع المصالح أو التوافق على فكرة ما لا تخل بتصوراته بحسب ظنه على الأقل. في حين أن من يدافع عن الأنظمة القائمة، وليس له أي أيديولوجيا أو مواقف مشهودة لنقد أي نظام ما من هذه الأنظمة، لا يمكن إلا أن يوصف بأنه شيخ سلطة، فالأول حياته محفوفة بمخاطر ومحن ومنح أيضا، بينما الثاني فحياته كلها محفوفة بالسلامة والمنح والأعطيات السلطوية؛ لأنه إنما يعمل خادما لها على طول الخط.
ويمكن تلخيص الأصول الحاكمة لهذا الموضوع بالآتي:
1. "التزام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصدق، وتقديم العلم على حظوظ النفوس، والاستغناء بالله عن جميع خلقه"، وهو أصل أوضحه الإمام الحارث المحاسبي، وقال إن أهل المعرفة بنوا عليه طريقهم، ويقول ابن عبد البر "وإذا حضر العالم عند السلطان غِبًّا فيما فيه الحاجة إليه، وقال خيرا ونطق بعلم كان حسنا، وكان في ذلك رضوان الله إلى يوم يلقاه".
2. إن الاتصال فرع عن بذل العلم النافع للعباد، قال المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام "العلم لواحد من 3: لذي حسب يُزينه به، أو لذي دين يسوس به دينه، أو لمن يختلط بالسلطان ويدخل إليه يتحفه بعمله وينفعه به". قال الزبير بن بكار "ولا أعلم أحدا جمع هذه الخلال إلا عروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، فكلاهما جمع الحسب والدين ومخالطة السلطان".
3. ولا يخلو الاتصال بالسياسة والعمل في الشأن العام من موازنات؛ فليس هناك مصالح محضة أو مفاسد محضة، وإنما هي مصالح ومفاسد غالبة أو مظنونة أو موهومة، بحسب القرائن والتجارب؛ لكن هذه الموازنات ترجع إلى ما قرره العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام في الموازنة بين المصالح والمفاسد بتفصيل دقيق. وقد يعم الفساد، فتكون القاعدة الحاكمة هنا ما قرره العز وابن تيمية من العمل على تقليل المفاسد بقدر الإمكان؛ لأن مجرد تقليل المفاسد مصلحة شرعية مطلوبة. وحسابات المصالح والمفاسد والتكثير والتقليل ليست أحوالا خفية كأحوال الصوفية هنا؛ بل هي معاينة وملحوظة حتى لا يلبّس بعض مشايخ السلطة على الناس بادعاءات كاذبة أو غافلة في أحسن الأحوال.
4. ومعيار شيخ السلطة أنك تفتقده في النصح والنقد، ولا تجده إلا حيث يأمر السلطان أو ينهى أو حيث يحب ويكره، فهو لا ينطق إلا بما يوافق هوى الحاكم، فلا يغضبه، ولا يقول ما يسوءه، والأصل الكلي الذي نحتكم إليه هنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم "من أنكر فقد برئ، ولكن من رضي وتابع، فأبعده الله عز وجل".