الخطيئة السياسية
بقلم: د. فتحي أبو الورد (عضو الاتحاد)
توقع الكثيرون أن يقدم الدكتور العثماني رئيس الوزراء المغربي استقالته إثر الحديث في وسائل الإعلام عن عزم المغرب إعلان التطبيع مع الكيان المحتل، أو على أقل تقدير لا يظهر في مشهد التطبيع الآثم، في ضوء تصريحاته السابقة الرافضة للتطبيع، واتساقا مع أيدلوجيته وتاريخه وتوجهه وتوجه حزبه؛ فإذا به يفاجئ الجميع ويوقع بنفسه اتفاق التطبيع، وتوقع الكثيرون إعلان حزبه الرفض التام لتصرفه؛ فإذا به يبتعد عن رفض الموقف صراحة، ويؤكد على دعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني دون رفض صريح لما صدر عن العثماني، بل تأييدهم الكامل فيما يضطلع به من مهام باعتباره ثاني رجل في الدولة.
لا أدرى ما الذي حصل بالضبط؛ لكن يقيني أن شيئا ما قد حدث قلب الموقف. ويقيني أن ما حدث كان مكرا ودهاء وامرا دبر بليل لتوريط العثماني وتوريط حزبه الإسلامي في هذه المصيبة، وهذا واضح من مستوى التمثيل على التوقيع وفق البروتوكولات، كما يعتبر ذلك عند من خططوا له إنجازا كبيرا واختراقا عظيما في صفوف الإسلاميين، ونيلا منهم أمام مبادئهم، وإحراجا وتعرية لهم أمام أدبياتهم التي ما فتئوا يرددونهم في مؤتمراتهم ومنتدياتهم، وخصما من رصيدهم الشعبي وفق حسابات المكسب والخسارة، وإضعافا لموقفهم أمام الراي العام،
هل بوغت العثماني وأكره على الحضور والتوقيع؟ هل أخذوه على غرة فلم يتركوا له مجالا للخيار أو التفكير أو الرجوع لاستشارة حزبه لكي يشد أزره ويعينه على الاعتذار ورفض التوقيع قبل أن تقع الفأس في الرأس؟ هل اعتمدوا عنصر المفاجأة والإحراج السياسي حتى لا يتركوا له مخرجا ولا مهربا ولا مفرا؟ كل ذلك وارد عندي، ولكن أيا ما كان الافتراض، وكذلك أيا ما كانت الحسابات والمواءمات والتقديرات فقد جانب العثماني الصواب، ولم يكن موفقا في قراره الذي اتخذه، ومهما كانت الظروف والدوافع والملابسات التي أحاطت بالمشهد يبقى أن نعترف - دون مكابرة - بخطأ الموقف وإساءة التقدير وسوء التصرف، وغياب الدهاء والحنكة السياسية في التعامل مع مثل هذه المصائد المصطنعة والمطبات المتوقعة في طريق الإسلاميين وهم يخوضون تجربة المشاركة في السلطة، والتي لا ينبغي أن تغيب عن بال مثله، وهو يتبوأ أرفع منصب تنفيذي في البلاد، وأن يكون مستعدا ومنتبها للتصرف الصحيح مع مثل هذه المواقف، فضلا عن وجود خطوط حمراء ينبغي أن تكون معدة سلفا، وتكون محل اتفاق بين هياكل الحزب العليا لا يتجاوزها السياسي أثناء ممارسة العملية السياسية.
لا أدرى أين كان عقل العثماني، وكيف طاوعه قلمه وهو يوقع على هذه الخطيئة السياسية والمظلمة العظمى في حق أمته بعامة وإخوانه الفلسطينين بخاصة، حتى وإن كان قلبه كارها لذلك وهذا ظننا به.
ربما بررت له حسابات الظرف والزمن والمناخ وتقدير الموقف التوقيع مكرها، فالتمس لنفسه - والتمس له بعض رجالات حزبه - التبرير لصنيعه باسم فقه الموازنات، وتعارض المصالح والمفاسد، أو تعارض المفاسد بعضها وبعض، وهو وإن كان ممن أحسن الكتابة في الفقه السياسي الإسلامي أو ما يعرف بالسياسة الشرعية؛ لكن يبدو أن التنظير شيء والاختبار العملي لممارسة المبادئ في أروقة السياسة شيء آخر.
إن استحضرتم وتعللتم بفقه المصالح والموازنات، فقد غاب عنكم فقه المآلات في هذا الاختبار، وغابت عنكم المفاسد والمضار التي ستترتب على ذلك، والتي لا تخطئها عين، وستكونون بذلك أول من سن الموافقة على التطبيع باسم الإسلاميين، وستتحملون وزر من يقتفي أثركم.
وإن كانت مشاركتكم في الحكم بدافع تحقيق المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد أو تقليلها في ضوء التوجيه القرآني "فاتقوا الله ما استطعتم"؛ فإن استمراركم أيضا في هذه المشاركة منوط بالمصلحة، وإن تصرفاتكم ومواقفكم منوطة أيضا بالمصلحة، ولا يخفى في هذا الصدد ما قعد له الأصوليون أن حكم الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة، ولا أعلم مصلحة في التوقيع على اتفاقية التطبيع مع الكيان المحتل؛ لأن إعلان رفض التطبيع مع المحتل الغاصب ليس محل اجتهاد عند الإسلاميين، وهو من المحرمات السياسية -إن جاز التعبير- في أدبياتهم.
لو كان الأمر يتعلق بشأن داخلي بالمغرب لالتمسنا له ولحزبه الأعذار، وحملنا صنيعهم على أحسن المحامل؛ وقلنا لعل لهم في المغرب عذرا لا نعلمه، من باب أهل مكة أدرى بشعابها، وهم أعلم بواقعهم، وبما يدور في الغرف المغلقة ودهاليز السياسة؛ أما وقد تعلق الأمر بمسرى النبي الأمين، واولى القبلتين وثالث الحرمين ومركز قضية المسلمين الكبرى والأولى في واقعنا المعاصر فلا أجد لكم عذرا إلا أن تتحللوا منها وتعلنوا خطأ اجتهادكم، وتتحملوا نتيجة قراركم بشرف وأمانة ومسؤولية، ولن يكون في ملك الله إلا ما قدر الله.
لا أستغرب مواقف الدول التي طبعت أو تلك التي سوف تطبع- وإن كنا نستنكر ونرفض صنيعها؛ لكن أن يوقع على وثيقة التطبيع من يمثل حزبا إسلاميا ويتبوأ منصب رئاسة الوزراء ممثلا لحزبه فتلك مصيبة تستوجب الاسترجاع والحوقلة.
في الوقت ذاته أرفض لغة ومفردات التخوين أو العمالة أو التكفير التي استخدمت من البعض في التعامل مع الحدث والتعاطي مع الموقف، ولكن - في تقديري - هو الخطأ في تقدير الموقف الذي يجب تصحيحه، والنصح الذي تمليه علينا الديانة، والإنكار الذي يوجب علينا رفض استساغة الخطأ وتمرير المشهد العابث، سواء صدر من الإسلاميين أو من غيرهم، واليدان اللتان تغسل إحداهما الأخرى، كما أنه الدرس الذي يتحتم أن يستفيد منه الإسلاميون في المغرب وغيرهم، ويبقى إسلاميو المغرب ذخرا للإسلام، وعدة للمسلمين، ورصيدا للأمة في معركتها ضد الاستبداد، وردءا ونصيرا للقضية الفلسطينية وغيرها من قضايا العالم الإسلامي، فلا تشمتوا بهم الأعداء.
وليس من الإنصاف ولا الموضوعية أن نهيل التراب على تاريخ الحركة الإسلامية في المغرب بناء على هذا الموقف - الذي رفضه كثير من أبناء الحزب أنفسهم- مهما كان عظيما وكبيرا.
إن الأمر يستدعي مراجعة شاملة، وتقييما عاما للتجربة والأداء، ورصدا دقيقا لحسابات المكسب والخسارة، والإنجاز والإخفاق جراء المشاركة في مثل هذه الحكومات، ووفقا لنتائج هذا التقييم الشامل للتجربةوالأداء يكون قرار الاستمرار أو الاعتذار أو تقليل وخفض نسبة التمثيل والمشاركة والتراجع عن تصدر الحكومة.
بقي أن أقول: إذا اهتزت الأصول وتغيرت الثوابت في العمل السياسي بين الإسلاميين، فلا سياسة شرعية، ولا فقه سياسي إسلامي إذن، ولا تميز لأصحاب المشروع الإسلامي عن غيرهم من أصحاب المشاريع المطروحة على الساحة.