البحث

التفاصيل

الفتوى السياسية

الرابط المختصر :

الفتوى السياسية

بقلم: د. ونيس المبروك – عضو مجلس أمناء الاتحاد

 

هذه بعض المقاربات في الإفتاء السياسي، كتبتها منذ فترة وأعيد تقديمها بين يدي الأصدقاء وطلبة العلم، فالمعرفة تزدادُ وتزدانُ بالحوار والتأمل، وقد تخرج هذه الأفكار في كتابٍ صغير فيه شيء من التدليل والتفصيل إن شاء الله تعالى.

1- الإسلام دينٌ شامل فيه تبيانٌ لكل شيء من مظاهر الحياة، وهذا التبيان يكون تارة بالنص المفصل المباشر وتارة بالتوجيه الكلي المقاصدي العام ، والسِّياسةُ فِعلٌ مُركَّبٌ ، يستهدفُ تدبيرَ الشَّأن العامِّ لأجل تحقيق المقاصد والمصالح العليا. ولأنَّها "فعل" من الأفعال الإنسانيّة؛ فإنَّ الحكم الشَّرعيَّ يتناولها باعتبار أنَّ الحكم الشَّرعيَّ هو خطاب الله تعالى المتعلقٌ بـ"أفعال" المكلَّفين؛ اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً. ولكنْ للفتوى السِّياسيَّة خصوصيَّة لا تنطبق على غيرها من الأحكام كون نصوصها التفصيلية نادرة، إنما يقوم التدبير السياسي في الإسلام على تفعيل القيم السياسية كالعدل والشورى والحرية وتغليب الصالح العام...، وتدور أحكام السياسة الشرعية في فلك المصالح والمفاسد العاجلة والآجلة، والتي عادة ما يعود تقديرها للسلطة السياسية، أو لمن يباشر الفعل السياسي، ويحتاج الفقيه السياسي إلى القدرة على التفريق بين الحكم الشَّرعيِّ والوضعيِّ، وبين السَّبب الشَّرعيِّ والسَّبب القدريِّ، وبين فقه التَّنزيل وفقه التَّنجيز، وفقه الواقع والتَّوقُّع، وبين الذَّريعة والمآل، ومعرفة الأولويات ومعيار تقديمها وتأخيرها، ومعرفة الموازنات ومعيار ضرها ونفعها، وما كان منها عاماً يشمل كلَ الناس ويمتد أو يتمدد في الزمان والمكان، وما هو خاصٌ يقتصر على مجاله ولا يتسع ..، وقديماً قال شيخ الإسلام: " ليس الفقيه الذي يعرف الخير من الشَّرِّ، بل الفقيه من يعرف خيرَ الخيرين وشرَّ الشَّرين".

2-  الإفتاء السياسي من أخطر مجالات الفتوى، وأكثرها تداخلا مع فروع المعارف، لأنه أمر ٌيتعلق بأخطر دوائر التشريع التي عليها قَوَامُ حياةِ البشر؛ ألا وهو الشأن العام -بفرعيه المحلي والإقليمي- كما أنه يتصل بشكل مباشر بأعظم المقدسات والمحرمات في الإسلام؛ وهي الدين والنفس والمال والعرض،... ويعود ضرَرُهُ ونفعه أوخيرُه وشرُّه، على الفرد والمجتمع والدولة، مما يُحتّم على كل عالمٍ مُحقِق وفقيهٍ مُدقق، توسيع دائرة المشورة في صناعة الفتوى المتعلقة به، أو يتورّع – على أقل تقدير – عن الجزم والقطع بأحكام التحريم والوجوب، أو أوصاف التأثيم والتبديع، أخذاً بوصية المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال لأحد أمرائه " وإذا حَاصرتَ أَهلَ حِصنٍ فأرادُوك أَن تُنْزلهم على حكم الله ، فلا تُنْزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حُكْمِكَ، فإنَّكَ لا تدري أَتُصِيبُ حكم الله فيهم أم لا". رواه مسلم.

3-  الحكم على أي شيء هو فرعٌ عن تصوّره، ولهذا كان " التصوير " أولَ مراحل صناعة الفتوى، ومن يخطئ في تصوّر أو تصوير المسألة، لابد وأن يخطئ في تخريجها أو تنزيلها، والقضايا السياسية ذاتُ طبيعةٍ سائلةٍ متجددةٍ تتأبّى على الثبات والجمود، ومعطياتها متغيرة نوعاً وكماً، كما أن القيم السياسية الحاكمة للأداء السياسي تفتقر إلى التقنين  وتنزيلها في مؤشرات وإجراءات محددة ، وعليه فمن المهم أن يتريث العالِم ولا يؤسس فتواه على عجل أو وجل، أو يستند في ترجيح المصلحة على ما يُنقل إليه من خواص مستشاريه، ويقتصر على انطباعاتهم ومعلوماتهم وإن كانوا فُضلاء، بخاصة في الظروف التي تمور بالاستقطاب والصراعات والخصومات السياسية التي تؤثر لا محالة على التجرد والحياد، وتحولُ دون إنصاف الخصم السياسي، وتقييم أقواله وأفعاله بموضوعية.

4-   لم يَعْرِف تراثُنا الفقهي نظاماً مُفصلاً لإدارة الحُكم والمُلك، ولا اسماً أو شكلاً مُحدَداً للدولة بمفهومها الحديث! لأن الدولةَ المعاصرة هي نظامٌ عالمي مُستجَد، مرَ بعدة مراحل من التشكّل والتطور، انتهت إلى ظهور الدولة القومية بعد معاهدة "وستفاليا" عام 1648 ،التي أقرت أنظمةً سياسيةً قومية ذات كيانات مُحدَدَة جغرافياً، تضُم رعايا يخضعون لسلطة مركزية ذات سيادة مستقلة، ولهذا فإنه لا يوجد في النظام العالمي اليوم جزيرةٌ في فضاء، ولا دولةٌ في فراغ، ولا يمكن لأي شعب أن يُقيمَ دولةً بمعزل تام عن النُظم والمواثيق العالمية، أو بعيداً عن المحيط السياسي والاقتصادي والأمني العالمي،... مما حدا بعضَ الباحثين إلى وصف الدولة الإسلامية المنشودة تحت سلطان هذا النظام العالمي بالدولة "المستحيلة "!

وليس من العدل مطالبة الناس بخرق نواميس الكون واستعجال المقاصد النبيلة وتكليفهم بغير الوِسْع، بل من حكمة الله ورحمته أنَّ تكاليف الشَّرع تقوم على ركني الطَّاعة والاستطاعة، وأباح – سبحانه - للمسلمين الأخذ بسنة التدرج لبلوغ غاياتهم الكبرى دون مصادمة السنن، لأنها غلّابة.

5- الشأن السياسي من أمور الناس العامة، التي لا تختص بطائفة دون أخرى، ومن حق كل الناس – بل من واجبهم – التفاعل معها والاهتمام بها، وهذا الواجب يشمل المفتي والمستفتي بمقتضى واجب النصح والمواطنة، ولكن ينبغي الحذر والتمييز بين مقام الفتوى الدينية ومقام الرأي الشخصي في الشؤون السياسية، فالخلطُ بينهما مجالٌ تزِل فيه الأقدام وتضطرب فيه الأفهام، .. ولا ينضبط هذا الأمر إلا بتعاون المُستفتي (السائل) والمفتي(المُجيب) معاً، وإدراكهم لهذه الفروق! وقد وقع الصحابة أنفسهم في هذا الخطأ عندما ظنوا أن الأمرَ بترك تأبير النخل في المدينة هو" تشريع ديني " فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن بيّن لهم هذا الخطأ قائلا: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" ! فالشريعة تتدخل في شروط بيع النخل حتى تتوافق مع مقاصد الشريعة في منع الغرر والغبن والربا... ولكن ما سوى ذلك من تقدير المصالح والمفاسد في الشأن الزراعي أو التعليمي أو السياسي هو أمر دنيوي يقوم على المشورة، ويتقدم فيه الخبيرُ المتخصص على غيره،... ومن واجب المفتي أن يبادرَ ويميّزَ ويُبيّن للناس ما إن كان قوله حُكماً شرعياً لبيان الحِل والحرمة ويستند على دليلٍ متجه وينطلق فيه من مقام الإفتاء والمسؤولية الشرعية وواجب البيان، أم هو رأيٌ شخصي يقوله من مقام المسؤولية الاجتماعية والمشاركة في الشأن السياسي العام، فكثير من العوام والأتباع ينزلون أقوال العلماء وأفعالهم وآرائهم الشخصية في شؤون الحياة منزلةَ الفتوى الشرعية الُمعبِّرة عن حكم الله تعالى، ويخلِطون بين محبتهم الواجبة وتقديسهم المُحرم، وهذا خلل عظيم، وخطأ جسيم، يشترك في صناعته المفتي والمستفتي معاً.

6-  لا شيء أشد حرمة من إسالة الدماء بغير حق، وشريعتنا تَتَشوف للصلح والتظافر، وتتطلع للمغفرة والتغافر، فتجدها تدرأ العقوبة لأدنى شبهة، وتحث الناس على العفو، وتستحسنُ- إن كان ولابد - خطأ العفو على خطأ العقوبة، ... إن وقف طوفان الثَّأر وتحجيم الثَّأر المقابل؛ مقصدٌ شرعيٌّ وحقٌّ اجتماعيٌّ وواجب إنسانيٌّ، ينبغي على الفقيه اعتباره، لأن هذه الحروب وإِنْ كانت بين فريق مصيبٍ ومخطئٍ، أو ظالم ومظلوم، إلَّا أنَّها حربٌ بين أبناء الملَّة الواحدة، والوطن المشترك، والنَّسب المتداخل،  وليست حرباً بين مؤمن ومشرك، أو سُنِّيٍّ وخارجيٍّ، أو متَّبع ومبتدع، كما تُوصف جهلاً أو مكراً.! واستمرار هذه الحروب لا يزيد نسيجَ المجتمع إلا تمزقاً، وثروات الوطن إلا ضياعاً، ومؤسسات الدولة إلا فساداً، بخاصة في المجتمعات التي تقوم على أساس رابطة الدِّم والقبيلة، ولا يهدأ المرء فيها إذا رأى قاتلَ أخيه أو أبيه – ولو كان محقِّاً – دون أن يأخذ بثأره، أو تأخذ الدَّولة حقَّه، ولهذا استحسن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قول عُتبة بن ربيعة عندما قال لقومه من المشركين قُبيلَ بدرٍ محذِّراً: "والله لئن لقيتم المسلمين، لا يزال الرَّجل ينظر في وجه الرَّجل قتل ابن عمه أو أخاه أو رجلاً من عشيرته". فقال عنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ يكن في القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر؛ إِنْ يطيعوه يرشدوا". فانظر كيف جعل مناطَ الرشد في وأدِ الثأر وكفِ الدماء.

 


: الأوسمة



التالي
هيومن رايتس وتش: سريلانكا لم تفي بوعدها وتواصل الحرق القسري لضحايا كورونا المسلمين
السابق
أبرزهم الريسوني .. نخبة من علماء الأمة يشاركون في المؤتمر الإلكتروني لإطلاق مشروع "عبادا لنا"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع