كيفَ يُسهِم العملُ الإغاثيّ الطّويل في الإبقاءِ على الفقرِ؟
بقلم: محمد خير موسى (عضو الاتحاد)
- بين الإغاثة الإسعافيّة والتّنمية الشّاملة
إنَّ التّعامل مع الأزمات الطّويلة بطريقة الإغاثة الإسعافيّة يمثّل إشكالًا عميقًا في منهجيّة تعامل الجمعيّات الخيريّة، فالإسعاف العاجل هو أحد أهمّ صور العمل الخيري الذي يجبُ أن تبادر المؤسسات إلى التحضير له قبل الكوارث المتوقّعة والمرتقبة، كفصل الشتاء والعواصف الثلجيّة التي تستهدف خيام اللاجئين ومواطن مكوثهم في سنوات تهجيرهم الأولى، لا بعد عشر سنين من التهجير إذ يتمّ التعامل كما لو أنّ الشّتاء جاء على حين غرّة ويقع النّاس في حيص بيص؛ فهذا مثار الكثير من إشارات الاستفهام، وكذلك تكون الإغاثة الإسعافيّة في الإسراع للنَّجدة بعد وقوع الطّارئ من الكوارث كالقصفِ والتدميرِ والتّهجير المفاجئ.
وقد أسّست الشريعة الإسلاميّة لهذا المعنى في مواضع كثيرة منها ما يرويه مسلم في صحيحه عن الصّحابيّ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: "بيْنَما نَحْنُ في سَفَرٍ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إذْ جَاءَ رَجُلٌ علَى رَاحِلَةٍ له، قالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: مَن كانَ معهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا ظَهْرَ له، وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زَادٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا زَادَ له. قالَ: فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ ما ذَكَرَ حتَّى رَأَيْنَا أنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ".
فقد استشعر النبي صلى الله عليه وسلّم حاجة الرّجل المنكوب دون إلجائه إلى الاستغاثة والاستصراخ، وسارع إلى إسعافه إغاثيًّا مستنفرًا الطّاقات كلّها رغم أنّه كان في سفرٍ، وعادةً ما يكون النّاس في السّفر قليلي المال وفي حاجةٍ إلى كلّ ما يحملونه منه، غير أنَّ هذا النّوع من الإسعاف الإغاثيّ ليس هو الأصل في العمل الخيريّ.
بل إنَّ جوهر العمل الإغاثي والخيري الأصيل يقوم على التَّنمية الشّاملة لا سيما في الأزمات الطّويلة، التَّنمية القائمة على الانتقال بمتلقّي المساعدات والمحتاجين إليها من السلبيّة والرّكون إلى التّلقّي المجرّد للمال إلى الإيجابيّة والفاعليّة، وبناء الفرد القادر على الاعتماد على نفسه، المساهمِ في الإنقاذ بعد انتشاله من أعماق الحاجة، ونشر ثقافة اليد العليا المعطية وعدم استسهال القبول باليد السفلى الآخذة.
وانتهاج التّنمية يفرض على المؤسسات الخيرية العاملة في مجتمعات الأزمات الطويلة استثمار المقدرات المالية، وتحويلها إلى فرص عمل بدل توزيعها بالطريقة النمطيّة. وهذا ما رسّخه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة، وأراد الأنصار قسمة مزارع النخيل التي يملكونها مع المهاجرين.
فرفضَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذا التوجّه وأقرّ اقتراح الأنصار بالتحوّل إلى أسلوبٍ آخر، وهو بقاء ملكيّة مزارع النخيل لأصحابها من الأنصار على أن يقوموا بفتح أبواب العمل وتهيئةِ فُرَصِه أمام المهاجرين للعمل في هذه المزارع، على أن تكون الثمرة شراكةً بين الطرفين.
فقد جاء في صحيح البخاري: "قالتِ الأنْصارُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اقْسِمْ بيْنَنا وبيْنَ إخْوانِنا النَّخِيلَ، قالَ: لا، فقالوا: تَكْفُونا المَؤُونَةَ، ونَشْرَككُمْ في الثَّمَرَةِ؟ قالوا: سَمِعْنا وأَطَعْنا".
ومن التّنمية المطلوبة على سبيل المثال لا الحصر التّوقف عن البذل المالي النمطيّ للطلّاب، واستثماره في توجيههم إلى التخصصات الدّراسيّة التي يحتاجها المجتمع لتحقيق التحرير والتغيير والبناء والإصلاح المرتجَى، لا سيما في ظلّ هذه العشوائيّة الكبيرة والتّيه عند شباب بلاد الأزمات، وغياب الموجّه الرّاشد الذي يجب أن يكون جزءًا من العمل الخيري التعليمي.
إنَّ عدم التحول في العمل الخيري من الإغاثة إلى التنمية في الأزمات الطويلة ينذر بتكريس أثرين خطيرين هما
- نشر ثقافة التسوّل الخفي
فعندما يعتاد النّاس استقبال المعونات الماليّة والعينيّة بشكلٍ دوريّ ولمدّةٍ طويلةٍ؛ فإنَّ هذا يسهم في نشر الخمول وصناعة الكسل وتكريس مفهوم التسوّل غير الصّريح، ممّا ينذر بخطر جسيم يتهدّد المجتمع عند انجلاء الأزمة أو انقطاع الدّعم.
ومن أعراض ثقافة التسوّل غير الصريح، القعود عن العمل وانتظار الإغاثة، ومن ذلك بيع المساعدات التي يتمّ تلقيها بأرخص من قيمتها وأسعارها، ومن صوره السّعي بين الجمعيّات الإغاثيّة لتحصيل المعونات فيغدو ذلك عملًا يبذل فيه الشّخص جلّ وقته ومعظم جهده.
والذين تعشّش فيهم هذه الثقافة لا يمكنهم أن يكونوا جزءًا من البناء الذّاتي الشّخصي أو المجتمعيّ العام، فاستمرار الإغاثة النمطيّة في الأزمات الطويلة على قاعدة اصطياد السمك للفقير وعدم تعليمه الصّيد يقضي على المستهدف بالمساعدة؛ فيزيده غرقًا بدل انتشاله والنهوض به ومساعدته في الانطلاق من جديدٍ في دروب الحياة الوعرة.
- الإبقاء على الفقر
إنَّ الغاية من العمل الخيري ــ من حيثُ الأصل ــ هي اجتثاث الفقر والقضاء عليه، وإنهاء الحاجة ومظاهرها، وتحقيق عوامل الاكتفاء والاستقرار في المجتمع؛ لكنَّ الاستمرار على المنهجيّة ذاتها القائمة على كون الجمعيّات الخيريّة مجرّد ساعي بريد بين الغنيّ والفقير؛ تجمع التبرعات وتعيدُ توزيعها؛ لا يمكن لها أن تحقّق الغاية من العمل الخيري.
فما دامت النمطيّة الإغاثية هي السّائدة من حيث الابتعاد عن التنمية، وتقطير توزيع التبرعات وتشطيرُها وتفتيتُها تحت فلسفة تعميم الخير على أكبر شريحةٍ أفقيّة؛ فإن ذلك لا يحقّقُ أكثرَ من تقليم بعض فروع شجرة الفقر ومفرزاته التي يزداد جذرها رسوخًا وعودها اشتدادًا.
من المؤكّد أنّ الحديث عن هذه المشكلة لا يبخس مؤسسات العمل الإغاثيّ والجمعيّات الخيريّة دورَها، ولا يقلّلُ من قيمة ما تقوم به في بلاد الأزمات الطّويلة.
فرجالها الذين أريقت دماؤهم لأجل رسم ابتسامةٍ على شفاه يتيمٍ، والذين يقبعون في زنازين الطّغيان، وليس لهم من تهمةٍ سوى أنّهم ركبوا المخاطر لأجل المنكوبين في بلادنا المثخنة بالجراح، شاهدٌ عدلٌ على عظيمِ الدّور والأثر، ودماؤهم وأرواحهم ورسالة العمل الخيريّ تستحقُّ من المؤسسّات الخيريّة والعاملين عليها وقفاتِ مراجعةٍ ومصارحةٍ ومواجهة مع الذات، كي تتحقق الغاية من العمل الإغاثيّ في إعزاز الإنسان والحفاظ على كرامته وانتشاله من مستنقع الفقر والذلّ.