(... اللهم بارك لنا في رجب...)
بقلم: الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي (عضو الاتحاد)
وهل من يوم يمر على شعبنا الفلسطيني المرابط في أرضه المباركة ووطنه المقدس من غير جهاد أو استشهاد أو تضحية وفداء من أبنائه في سبيل دينهم وعقيدتهم وقضيتهم العادلة؟ كل أيام هذا الشعب الصابر المصابر المجاهد ومن ورائه الأمة كلها مليئة بقصص البطولة والتضحية التي تحكي صمودهم وتمسكهم بثوابتهم وحقوقهم وهويتهم.
وهل من شبر في فلسطين لم يرتوِ بدم أبناء الأمة قديماً وحديثاً في مواجهة طغيان الغزاة والمغتصبين؟ وهل من شبر في أرضها الغالية لم يجبل بدم أبنائها الأحرار الذي يسفكه جيش الاحتلال الغاشم في كل يوم؟ إن كل ذرة من ثرى فلسطين تحكى قصة شهدائها الأبرار وتخلدهم في صفحات المجد والفخار، هؤلاء العظماء هم الأحياء حقاً وسواهم هم الموتى الراقدون في مقابر الخوف والجبن والإخلاد إلى الذل وإن بدت عليهم مظاهر الحياة.
أظلنا قبل أيام شهر رجب الخير وهل هلاله علينا، الشهر الذي {كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول فيه إِذَا دخل: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان} رواه أحمد.
تتفاضل الشهور والأيام عند الله سبحانه وتعالى كما يتفاضل الناس والأمم، فرمضان والأشهر الحرم الأربعة أفضل الشهور، ويوم الجمعة أفضل الأيام، وليلة القدر أفضل الليالي.
والأشهر الحرم الأربع التي قال الله سبحانه وتعالى فيها {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} التوبة 36؛ فمنها ثلاثةٌ سردٌ متتابعةٌ هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وواحد فردٌ هو شهر رجب الذي نعيش الآن أيامه.
وشهر رَجَبٌ سمته العرب بهذا الاسم لتعظيمهم إِيَّاه في الجاهلية فكانوا لا يَسْتَحِلُّون القتالَ فيه، جاء في معاجم اللغة العربية: رَجِبْتُ الشيءَ أي هِبْتُه، ورَجَّبْتُه أي عَظَّمْتُه، والتَّرْجِيبُ أي التعظيمُ، والرَّاجِبُ هو المُعَظِّم لسيده، لهذا يسمى الشهر أحياناً أنه رجبُ مُضَرَ لأنّهم كانوا أشدَّ العرب تعظيماً له.
في شهر رجب المحرم وقعت أحداث عظيمة ومهمة سواء في العهد النبوي والتاريخ الإسلامي، ففيه خط المسلمون سطوراً مضيئة في صفحات المجد والخلود لهذا الدين ولهذه الأمة العظيمة بجهادهم وبطولاتهم الرائعة، ومنها مثلاً:
* في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة النبوية كانت الهجرة الأولى من مكة المكرمة إلى الحبشة، فبسبب التعذيب والاضطهاد والإيذاء والإرهاب والظلم الذي تعرض له أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من قريش هاجر أربعة عشر مؤمن منهم إلى الحبشة فراراً بدينهم ، فقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه {لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه}.
* وفي أواخر شهر رجب من السنة الثانية للهجرة كانت سرية عبد الله بن جحش المعروفة بسرية نخلة، وقد نزل فيها قول الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ...} البقرة 217.
* وفي شهر رجب من السنة الثامنة للهجرة كانت سرية أبو عبيدة بن الجراح إلى أرض جهينة، وتسمى غزوة سِيف البحر أي ساحل البحر.
* وفي شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة وقعت أحداث غزوة تبوك التي تسمى بغزوة العسرة، وهى آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ونصر فيها بالرعب ، فقد فر جيش الروم بعد سماعه بقدوم جيش المسلمين ، وفيها نزل جزء كبير من سورة براءة منها قوله تعالى { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } التوبة 117 ، وقال صلى الله عليه وسلم { ... نصرت بالرعب ... } رواه البخاري.
* وفي رجب ذاته من السنة التاسعة للهجرة بعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك حاكم دومة الجندل فهدم صنمهم واسمه ود، وأسر أكيدر ـ
* في 4 من شهر رجب للسنة الثانية عشرة للهجرة فتح المسلمون مدينة الأنبار في العراق بقيادة خالد بن الوليد بعد أن تم له فتح الحيرة في جبهة فارس، وقد حدث هذا النصر بعد معركة اليمامة في حروب الردة، وفي الشهر ذاته استعان عياض قائد الجيش الإسلامي الثاني بخالد بن الوليد لفتح دومة الجندل، فتوجه خالد إليها وفتحها في 24 رجب.
* ونجح خالد بن الوليد رضي الله عنه في فتح مدينة دمشق في الخامس عشر من رجب في السنة الثالثة عشرة للهجرة بعد حصار شديد دافع فيه الروم عن المدينة، ولكن ذلك لم يمنع سقوطها فطلبوا الصلح بعد أن اشتد خالد في حصارها فأجابهم أبو عبيدة إلى الصلح.
* موقعة اليرموك بين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وجموع الروم في وادي اليرموك في الخامس من رجب للسنة الخامسة عشرة للهجرة، وانتهت هذه المعركة بانتصار المسلمين فيها، وهي من أهم المعارك لأنها كانت بداية أول موجة انتصارات للمسلمين خارج جزيرة العرب، وآذنت بتقدم الإسلام السريع في منطقة بلاد الشام.
* في 5 من شهر رجب عام 92هـ نزل القائد طارق بن زياد على الهضبة المعروفة باسمه "جبل طارق" بعد عبوره البحر الأبيض المتوسط إلى الأندلس لفتحها، وقد تمكَّن طارق بن زياد من تحقيق انتصارات عظيمة مكَّنت المسلمين من فتح بلاد الأندلس جميعها، وكان طارق قد خطب في جنوده خطبته المشهورة التي استهلها بقوله [أيها الناس أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام على مائدة اللئام ... واعلموا أنني أول مُجيب لما دعوتكم إليه].
* وفي في رجب من العام 216 ه فتح القائد المسلم القاضي أسد بن الفرات جزيرة صقلية.
* وانتصر الأمير يوسف بن تاشفين قائد جيوش المرابطين على الفرنجة بقيادة ألفونسو السادس ملك قشتالة فى معركة الزلاقة، وكان ذلك في يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام 479 هـ.
* وفي 27 رجب من عام 583 للهجرة أي في ليلة الإسراء والمعراج دخلت الجيوش الإسلامية بقيادة الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله مدينة القدس وحررها بعد حوالي 88 عاماً من احتلال الفرنجة (الصليبيين)، وأقام صلاح الدين صلاة الجمعة بالمسلمين في المسجد الأقصى المبارك بعد تنظيفه وتطهيره من أرجاس الغزاة ورشه بماء الورد، وكان دخولها بعد انتصاره العظيم في معركة حطين، ولكن هذا القائد المظفر لم يعامل الصليبيين عند دخوله القدس بالمثل رداً على جرائمهم الدموية البشعة التي ارتكبوها أيام احتلالهم القدس، فقد ذبحوا في يوم واحد أكثر من سبعين ألفاً من سكانها؛ في جريمة ما زالت تثير اشمئزاز العالم حتى في العصر الحديث، بل عفا عنهم وأعطاهم الأمان والحرية.
هذا غيض من فيض، وهذه بعض البطولات التي سطرها أبناء أمتنا في شهر رجب، أما في العصر الحديث فقد شهد هذا الشهر المحرم نكبات حلت بأمتنا:
* ففي 27 رجب عام 1342 للهجرة الموافق 3/3/1924م تم إلغاء الخلافة العثمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي أعلن نفسه رئيساً للجمهورية التركية، وطرد الخليفة العثماني وأسرته خارج البلاد ، وبهذه الخطوة نجحت المؤامرات والمكائد التي استمرت عشرات السنين الغربية الاستعمارية في تدمير الرباط الروحي بين المسلمين بعد عشرات السنوات من التآمر والمكائد لإسقاط الخلافة وتدمير الرباط الروحي الذي يجمع بين المسلمين .
* وشهد شهر رجب من عام 1367هـ ارتكبت مجازر صهيونية ضد شعبنا الفلسطيني سقط فيها ألوف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال لتشريده من أرضه ووطنه بقوة الحديد والنار، منها مثلاً مجزرة دير ياسين قضاء القدس التي ارتكبتها عصابات الهاجاناة والأرغون وشتيرن في الثاني من رجب وفق 10/5/1948م سقط فيها 360 شهيدًا، وفي السادس منه وفق 14/5/1948م ارتكبت العصابات الصهيونية ولواء جفعاتي مجزرة أبو شوشة قضاء القدس سقط فيها 50 شهيدًا.
* وبتاريخ 7 من شهر رجب عام 1367هـ وفق 15/5/1948م أعلن رسمياً قيام الكيان الصهيوني الغاصب على أرض فلسطين المباركة، وسارعت دول للاعتراف بها.
لقد تعلَّمنا من التاريخ أن الضعيف لن يبقى ضعيفاً إلى الأبد والقوي لن يبقى قوياً إلى الأبد، فالأيام بين الناس دُوَل، وأن دولة الباطل ساعة مهما طالت أيامها ولياليها، ودولة الحق إلى قيام الساعة وإن طال انتظارها ، قال تعالى { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } آل عمران 140
فهل ستنجب أمتنا الخيّرة المعطاءة مثل عمر وخالد وصلاح الدين لتحرير أرض فلسطين من جديد حتى لا تتكرر هذه النكبات؟ وحتى نعيد للأمة امجادها وانتصاراتها في شهر رجب الخير وغيره من الشهور؟ وحتى نمحو من ذاكرة الأمة النكبات التي بها وتوالت عليها، وذلك لا يكون إلا بعودتنا إلى المنهج الذي سار عليه أولئك القادة العظام، القادة الذين تمثلوا قول الله عز وجل {وَلا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} آل عمران 139 ، وقوله صلى الله عليه وسلم { تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنتي...} رواه الحاكم وصححه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي: عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقاضي قضاة فلسطين، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، وأمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس