البحث

التفاصيل

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: سورة الطور

الرابط المختصر :

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:

(سورة الطور)

الحلقة السابعة

بقلم: د. سلمان بن فهد العودة


* ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور: 30] :
هذا مما ادَّعوه لما قالوا: كاهن، أو مجنون، فنفى تعالى ذلك ولم يتوقَّف عنده؛ لأنه واضح البطلان، فهم يعرفون أنه ليس بشاعر، والشعر صنعتهم وبضاعتهم.
وهم كانوا يُلَبِّسون على الجهلة والعوام بأنه رجل يتعاطى الشعر، ومثله مثل الشعراء السابقين الذين هلكوا ولم يحدثوا تأثيرًا في الحياة، وكأنهم بهذا يعزون أنفسهم أيضًا بأن مآل هذه الرسالة إلى زوال وخفوت وهلاك صاحبها، فيكفي معها ومعه مجرد التربُّص، ولذا قال سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: 52].
و ﴿رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ يحتمل أن يكون المقصود به: الموت، كما قال أبو ذُؤيب الهذلي، وقد مات بنوه السبعة بالطاعون في عام واحد:
أَمِنَ المَنونِ ورَيْبِها تَتَوَجَّعُ *** والدَّهرُ ليسَ بِمُعْتِبٍ مَن يَجزَعُ
ويحتمل أن يكون: حوادث الدهر، وتحوله من حال إلى حال، بالموت أو غيره.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «كل ﴿رَيْبَ﴾ في القرآن: شكٌّ، إلا مكانًا واحدًا في الطُّور: ﴿رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ ، يعني: حوادث الأمور».
وكما قال الشاعر:
تربَّص بها ريبَ المنون لعلَّها *** تُطلَّقُ يومًا أو يموتُ حليلُها
أي: يتربَّص تغيُّرًا يسمح بالوصول إليها، فيكون المعنى: تربَّصوا بمحمد، فربما يموت، أو يعجز، أو يضعف، أو ينتصر عليه غيره، أو يُكْفَى بغيرنا.
والأقرب الأول، وأنهم رأوا انتظار موته، وظنوا أنه بموته سيموت شأنه، وتنتهي رسالته ودينه.
ولعل المقصود بـ «رَيْب المنون» في البيت هو: موت حليلها، لا غير.
* ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ [الطور: 31] :
إما أن يكون المقصود أصل التربُّص، فيكون المعنى: أنا أتربص بكم مثلما أنتم تتربَّصون بي.
وهذا يتطابق مع قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: 52].
أو أن المقصود هو أن الشأن إذا كان شأن الموت الذي تتربصونه بي، فأنا أتربص الموت مثلكم؛ لأن الموت حقٌّ عليَّ وعليكم، ولست بجزع من الموت ولا أبالي أن ألقى الله تعالى، وإنما الشأن بكم أنتم!
وهذا ينطبق على اليهود حين كانوا يأتون النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويقولون: «السَّامُ عليك يا أبا القاسم». يتظاهرون بأنهم يُلقون السلام، وهم يدعون عليه بالموت، والسَّام هو: الموت، ولما غضبت عائشة رضي الله عنها وسبَّتهم، نهاها صلى الله عليه وسلم، وقال: «مَهْ يا عائشةُ، فإن اللهَ لا يحبُّ الفحشَ والتَّفَحُّشَ». وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وعليكم». يعني نحن وإياكم نشترك في الموت، فهو أمر مشترك بيننا وبينكم.
وفي هذه الآية إعجاز لأنه قال لهم: ﴿ تَرَبَّصُوا﴾، فكان أولهم موتًا أبو جهل والزعماء الذين قُتلوا ببدر وسُحبوا إلى القَلِيب، وعاش النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعدهم، وانتشرت دعوته، وعمَّت رسالته، واتَّسعت أمته، حتى جاوزوا اليوم مليارًا ونصف مليار، كلهم يشهدون أنه رسولُ الله!
* ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الطور: 32]:
سؤال استفهام على سبيل الإنكار والتعجب منهم، والأحلام جمع: حِلْم، وهو العقل، والمعنى: هل عقولهم تأمرهم بهذا الإنكار والصدود والإعراض عن الحق؟
﴿أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾: وهم أدرى بطبيعة الحال أن هذا لا يصدر من حِلْم وعقل، وإنما يصدر من طغيان؛ أن يصفوا رجلًا مثل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر أو ساحر أو كاهن.
• ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الطور: 33] :
وقد قالوا: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تقوَّل هذا: والله تعالى يقول: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ۝ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة: 44-46] ، فإن أحدًا يدَّعي على الله سبحانه وتعالى ويعلن بأن هذا من عند الله، وأن الله أمره ونهاه، ثم يمكِّن اللهُ تعالى له في الأرض وينصره ويعزّه ويظهر كلمته ويبقى على العصور والقرون والأجيال متبوعًا محبوبًا مؤيَّدًا منصورًا؛ هذا لا يتأتَّى! فالله تعالى يقمع أولئك الذين يتقوَّلون عليه.
ثم إن في دعواهم هذه أنه صلى الله عليه وسلم تقوَّل القرآن من تلقاء نفسه تناقضًا؛ فكيف تزعمون أنه تقوَّل هذا القول المحكَم البليغ العظيم، الذي يُعْجِزُ العقلاء ويُبْهِرُ العظماء ويقع به التحدِّي لهم ولغيرهم فينقطعون، وتزعمون في الوقت نفسه أنه مجنون؟!
* ولهذا قال بعدها: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ [الطور: 34]:
وتأمَّل أنه قال: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ ، ولم يقل: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: 23] ، ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ [يونس: 38]، أو: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ [هود: 13]، فتحدَّاهم الله تعالى بأقل قدر، فلم يستطيعوا، وتخيَّل كيف هو حالهم وهم يقولون مثل هذا الكلام، ويسمعون هذا الرد القرآني! فلو لم يكن صلى الله عليه وسلم مرسَلًا من عند الله ويتلو كتاب الله لما تحدَّاهم بهذا؛ لأن أحدًا من البشر لا يستطيع أن يتجرَّأ على مثل هذا التحدِّي إلا وهو يعلم أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله.
*﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35]:
انتقل بهم إلى المجادلة في شأن الألوهية، فهل خُلقوا من غير خالق؟
ويحتمل أن يكون المعنى: من غير مقصد وغاية؟ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾: أهم الخالقون لأنفسهم؟ لأن هذا أقرب مذكور في الآية، هل ينكرون أن يكون الله تعالى خلقهم أم هم الخالقون أنفسهم؟
وهذا محال، ولا يمكن أن يخلق الإنسان نفسه؛ لأنه العدم لا يخلق نفسه ولا يخلق شيئًا، فهذا من المستحيلات.
* ولهذا عقَّب بتحدٍّ أكبر، فقال: ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الطور: 36]:
فهذه السماوات والأرض التي يرونها أمامهم بهذه القوة والضخامة تصدمهم وتجبههم في كل وقت، هل هم الذين خلقوها، أو يعرفون أحدًا ادَّعى أنه خلقها؟
كيف وهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي خلقها، ولهذا قال: ﴿بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾ ؛ لأنهم إذا سُئلوا في الجاهلية: مَن خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله. ولكن الله فضحهم بأنهم وإن كانوا يردِّدون بألسنتهم أن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض، لكن هذا ليس يقينًا في نفوسهم، وإنما ثقافة توارثوها، وكلمات ردَّدوها، دون أن تستقر إيمانًا في قلوبهم.
• ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ [الطور: 37]:
حينما احتجوا على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ورأوا أنه ليس جديرًا بها، واقترحوا أن تكون الرسالة إلى ﴿رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31]، أي: إلى كبير من كُبراء الطائف أو آخر من كبراء مكة، فهل خزائن الله عندهم حتى يقوموا بقسمتها؟ في حين يبلغ تواضع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ [الأنعام: 50].
و ﴿ٱلۡمُسَيۡطِرُونَ﴾: تُقرأ بالصاد عند جماعة، وتُقرأ بالسين: ﴿ٱلۡمُسَيۡطِرُونَ﴾، وكلاهما قراءة سبعية، أي: ألهم السيطرة والملك والغلبة، وكأنهم أرباب متصرِّفون في الأكوان، أو بيدهم الأمور.
* ﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [الطور: 38]:
﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ﴾ [الطور: 38] : يمدونه إلى السماء ويقعدون عليه فيستمعون أو يسترقون السمع، ﴿فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [الطور: 38] وليس بادِّعاء مثلما يدَّعي الكهنة أو غيرهم، وإنما بحجة قوية تثبت أنهم فعلًا يستمعون، في حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتيه جبريل بالوحي بكرةً أو عشيًّا، ويتلو على الناس هذا الوحي المعجِز، والحاوي ألوان المعرفة والحق في أخبار الماضي وأحكام الحاضر، ومواعيد المستقبل وأسرار الصنعة والكون، مما لا يستطيعون أن ينكروه، ولا أن يأتوا بمثله.
• ﴿أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ﴾ [الطور: 39]:
وذلك أنهم كانوا يدَّعون أن الملائكة بنات الله.
* ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ [الطور: 40]:
وجَّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: هل طلبتَ منهم مالًا على دعوتك؟ فلذلك هم مثقلُونَ بهذا الدَّين الذي تطلبه منهم، ولا يستطيعون أن يسمعوا، ولا أن يستجيبوا؟
* ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الطور: 41]:
هل اطَّلعوا على الغيب، ولو أصبح عندهم لم يعد غيبًا، فقد عرفوه، وهذا نوع من التعجيز، فليس عندهم ﴿سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ﴾ [الطور: 38] ، وليس ﴿عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ أي: ينسخون ما اطلعوا عليه.
* ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ [الطور: 42]:
وهذا هو المقصود أنهم يريدون كيدًا، وكل ما يقولونه ليس على سبيل المناقشة المعرفية، ولا الجدل العلمي، ولا الحجة، ولا على سبيل الشبهة التي تحتاج إلى كشف، كلا! بل على سبيل الكَيْد والتحذير من دعوته ومحاربتها.
﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾: وقد يكون هذا مرتبطًا بقولهم: ﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور: 30]، والمعنى: أنهم كانوا يضعون خطةً لقتله صلى الله عليه وسلم، وإلا فهل كان عندهم الغيب فاطَّلعوا على أن عمر النبي صلى الله عليه وسلم أقصر من أعمارهم، وأنه يموت قبلهم؟ كلا! بل الذي حدث أن الله مكر بهم مقابل مكرهم، وقال: ﴿هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ مصداقًا لقوله: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ [الطارق: 15-16] ، فقد ماتوا هم، وبقي هو حتى استقرت رسالته، وانتصرت دعوته، وآمن بها الناسُ.
• ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الطور: 43]:
أي: آلهتهم التي يدعونها ويعبدونها، ما منزلتها، وما مكانتها وما تأثيرها؟ هل خَلَقتْ؟ هل رَزَقتْ؟ هل أَعَطتْ؟ هل عَلِمَتْ غيبًا.
* ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ﴾ [الطور: 44]:
وهذا لم يحدث، لكنه شيء كانوا يقترحونه: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الشعراء: 187]، فالله تعالى يقول: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا﴾ [الطور: 44] فلن يؤمنوا ﴿وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: 97]، ولو رأوه لقالوا: ﴿سَحَابٌ مَرْكُومٌ﴾ ، إنه سُحُب تراكمت، واجتمع بعضها على بعض.
هذا الحشد من الأسئلة الذي لا نظير له يؤكِّد على حرص القرآن الكريم على رفع الغشاوة عن الناس وكشف حالة الغفلة؛ ليحمل القارئ على مواجهة أسئلة الكون والحياة بجد، ويحاصر العقول والقلوب من كل ناحية؛ ليكشف غشاوتها ويحرِّكها ويحملها على النظر والتفكُّر، ولعل هذا هو أخطر ما يُبتلى به الناس، أن يمروا على الحقائق معرضين، ويردِّدوا كلامًا حفظوه واعتادوا أن يقولوه، دون أن يعني إيمانًا وقناعة.
حتى القرآن الكريم نفسه كم يقرؤه الناس وهم عن تدبره غافلون، دون أن يدركوا مقاصده ومراميه، فلا تلامس حقائقه شغاف قلوبهم، ولا تحرِّك ضمائرهم، ولا تغيِّر واقعهم.
أو يقرؤونه وهم منهمكون في جانب لغوي إعرابي، أو فقهي بحت، أو بلاغي، ربما بالغوا فيه حتى حجبهم عن حقيقة القرآن وعظمة آياته، وهداياته إلى الله العظيم وأسمائه وصفاته ووحدانيته وعبادته، ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 213] .
* ﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ [الطور: 45]:
ليس معناه ترك الدعوة، بل ترك الجدل العَقِيم معهم، حيث يصبح بلا قيمة، ولا تحزن عليهم، والكفار آنذاك كانوا خلقًا كثيرًا في مكة وغيرها، وكانوا ألوانًا وضُروبًا، فيهم الملأ المستكبرون الذين يحاربون الإسلام ويحاصرون دعوته، وفيهم العوام الذين ينتظرون أن تُحسم المعركة حتى يذهبوا إلى ما تمليه عليهم قناعاتهم، وليس عندهم استعداد أن يضحوا في سبيل تلك القناعات؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى: 16] ، وقال: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۝ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ [النصر: 1-2] ، هؤلاء الذين دخلوا في دين الله أفواجًا هل جاءت حجج جديدة لم يسمعوا بها من قبل؟ كلا؛ هي الحجج والآيات نفسها، ولكن الموانع التي كانت في نفوسهم وعقولهم تَحُول بينهم وبين الاستماع والتفكير واتخاذ القرار زالت بسبب تغيُّر الوضع السياسي والاجتماعي والقبلي، فدخلوا في دين الله أفواجًا؛ ولهذا قال هنا: ﴿فَذَرْهُمْ﴾ يعني: اترك الملأ المستكبرين الذين كُتب أن يموتوا على الكفر، كأبي لهب وأبي جهل والملأ من قريش، ذَرْ هؤلاء، ولا تحزن عليهم، ولا تلتفت إليهم، وانشغل بدعوة مَن يستجيب للدعوة.
﴿حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ [الطور: 45] أي: تصيبهم الصَّعْقة، والصَّعْقة قد تقتل، وقد تجعل الإنسان في غيبوبة ثم يسقط، فيحتمل أن يكون المعنى: الموت، ويحتمل أن يكون المقصود: أهوال يوم القيامة، على اختلاف القراءتين بضم الياء: ﴿يُصْعَقُونَ﴾ ، وفتحها: ﴿يَصْعَقُونَ﴾، وكلاهما قراءة سبعية.
* ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [الطور: 46]:
أي: لا ينفعهم شيئًا كيدُهم في الدنيا؛ لأنه قد زال، وفي ذلك الموقف لا كيد لهم، ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ من قِبَل طرف آخر، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الطور: 47].
* ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الطور: 47]:
أي: يصيبهم في الدنيا قبل الآخرة: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: 13].
وتحمل أولًا: على الدونية الزمنية، أي: أنه في وقت مبكِّر قبل يوم القيامة، فهو في الحياة الدنيا، كما قال سبحانه ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [السجدة: 21]، وهذا يعني كل ما يصيبهم من عذاب الدنيا أن يكون فيه توجيه لهم إلى التقوى والإيمان والطاعة وإقامة الحجة.
ويحمل على عذاب القبر، كما قال بعض المفسِّرين، فإنه قبل يوم القيامة، وهو عذاب البرزخ، وهو دون ذلك أيضًا من حيث الشدة والقوة؛ لأنه لا يقارَن بعذاب الدار الآخرة، فعذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم.
* ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ [الطور: 48]:
وهذا تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم، وتقوية لقلبه، يأمره ربُّه أن يصبر لحكم الله تعالى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ [ص: 17]، اصبر على الشريعة، اصبر على تأخر الفتح والفرج والنصر والتمكين.
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ فإن الله تعالى لا يغفل عن هؤلاء الظالمين، ولا يترك أولياءه ورسله وأنبياءه، فهو يراهم ويسمعهم ويجيبهم، ولكنه قد جعل لكل شيء أجلًا، ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾أي: بمرآنا، كما قال سبحانه: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ [القمر: 14]، وكما قال عن موسى عليه السلام: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: 39]، وقال لموسى وهارون عليهما السلام: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46].
﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ [الطور: 48] ، وفي «صحيح البخاري»: «كلمتان خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحانَ الله وبحمده، سبحانَ الله العظيم».
وللتسبيح سرٌّ في تقوية القلب، وتعزيز النفس، والصبر على صعوبات الحياة، وتحقيق النجاح، وتحصيل السعادة والرضا والقرب؛ ولذلك فإن إدمان التسبيح ترياق، وبخاصةً للذين يواجهون مواقف صعبة، أو أعمالًا شاقة، كما أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليًّا وفاطمة رضي الله عنهما إلى: «سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر» عند النوم، وقال: «هو خيرٌ لكما من خادم».
والمعنى: حين تقوم من النوم، فالتسبيح مشروع أول ما يصحو الإنسان، فيسبِّح ربَّه ويحمده؛ ولذلك شُرع مثل: «الحمدُ لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النُّشُورُ».
وفي «صحيح البخاري»: «مَن تَعارَّ من الليل، فقال: لا إله إلا اللهُ، وحده لا شريكَ له، له المُلكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيء قديرٌ، الحمدُ لله، وسبحانَ الله، ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبَرُ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إِلَّا بالله. ثم قال: اللهمَّ اغفرْ لي- أو: دعا- استُجيبَ، فإن توضَّأَ وصلَّى قُبلتْ صلاَتُه».
هذا وعد عظيم أن يستحق المغفرة إذا ما انقلب من جنب إلى جنب وقال هذا الدعاء: «اللهمَّ اغفرْ لي». وهذه من الغنيمة الباردة.
وحمل بعضهم قوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ على القيام من القيلولة؛ لأنهم كانوا يقيلون قبل صلاة الظهر، فإذا صحا سبَّح ربه.
وقيل: حين تقوم من مجلسك، وهذا ما يسمى: كفارة المجلس، وفي الحديث: «مَن جلسَ في مجلس، فكثُرَ فيه لَغَطُهُ فقال قبلَ أن يقومَ من مجلسه ذلك: سبحانكَ اللهمَّ وبحمدكَ، أشهدُ أن لا إله إِلَّا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليك. إِلَّا غُفِرَ له ما كان في مجلسه ذلك».
وهذا الحديث ورد من طرق كثيرة، حتى جمع فيه ابن كثير رحمه الله جزءًا خاصًّا في جمع طرقه، وإن كان كثير من طرقه معلولة، لكن في مجموعها لها أصل، فتختم بهذا التسبيح ﴿حِينَ تَقُومُ﴾.
فيتحصَّل مما سبق: التسبيح قبل النوم، حتى ينام على تسبيح، وعند الاستيقاظ؛ ليكون التسبيح أول ما يباشره عقله وقلبه ولسانه عند صحوه، وأثناء تقلبه في المنام من جنب إلى جنب، وأثناء تقلبه في الحياة وأعمالها.
* ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ [الطور: 49]:
والمقصود: صلاة المغرب وصلاة العشاء، فهما من الليل، والصلاة تسبيح؛ ولهذا تسمى صلاة الضُّحى: سُبحة الضُّحى؛ لأن المصلِّي في الركوع يقول: «سبحان ربي العظيم»، وفي السجود: «سبحان ربي الأعلى».
أما ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ فهو: وقت الفجر، إذا النجوم أدبرت، وبدأت تغيب عند الإسفار.
وقال بعضهم: ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾: راتبة الفجر، فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها». و «لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشدَّ منه تعاهدًا على ركعتي الفجر» ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تَدَعُوا ركعتي الفجر، وإن طردتكم الخيلُ». وكان صلى الله عليه وسلم لا يتركها في حضر ولا في سفر، يقرأ فيهما بـ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ۝ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون: 1-2].
فخير ما يتزوَّد به الداعية: القرب من الله، واصطحاب ذكره وتسبيحه، وأَلَّا يشغله عنه شاغل من ازدحام الناس أو كثرة الأعمال؛ فللقلب حقٌّ لا ينبغي نسيانه، ولا ديمومة للمؤمن على نشاطه وجِدِّه وعمله، إلا بالله والقرب منه وكثرة ذكره وتسبيحه آناء الليل وأطراف النهار.


: الأوسمة



التالي
التفاؤل رغم المحن
السابق
هل يجوز تعجيل إخراج الزكاة بسبب وباء “كورونا”؟!

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع