المقاصد التربوية للصيام
أ.د صلاح سلطان
أولاً: الأثر التربوي للصيام في الجانب الروحي للفرد المسلم
الصيام من أكثر العبادات تأثيرًا حسنًا في الجانب الروحي للفرد المسلم، يتضح ذلك من جوانب كثيرة أهمها:
أولًا: الصيام بآدابه وأركانه مؤدٍّ إلى التقوى، والتقوى هي عماد إصــلاح النفس، فإذا تحققت فإن النتيجة هي السعادة التي تنتفي معها الأحــزان والهمــوم والخـوف والفـزع لقوله تعــالى:" فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٣٥﴾"(الأعــــــراف)، والمعلوم أن الخوف والحزن هما عماد اضطراب النفس، والتقوى والإصلاح ينفيان كل صور الحزن والخوف من المستقبل أو الحزن على الماضي، وذلك لأن التقوى توجد الميزان الذي يهتدي به المسلم في الظلمات وينجو به من النوائب؛ لقوله تعالى:" وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴿٢﴾ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ"(الطلاق)، ويظل المسلم في دائــرة الولايــة للـه تعـالى مـا دام تقيًّا ورعًا لقـولـه سبحـانــه:" أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٦٢﴾"(يونس).
أما عن آثار التقوى في سعادة المسلم في آخرته، فيكفيه رضًا وراحـة نفـس وطمأنينـة قلب أن يوقن بقـوله تعـالى:" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ﴿٥١﴾ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿٥٢﴾ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴿٥٣﴾ كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴿٥٤﴾ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ﴿٥٥﴾ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿٥٦﴾"(الدخان).
ثانيًا: المسلم الذي يحب الله تعالى يداوم على الصيام فهو ينتظر شهر رمضان ليغسل نفسه غسلًا كاملًا من الذنوب والآثـام، ويطهــر نفســه من المعاصي، وهذا يزيـل الران عن القلب؛ وذلك لما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنهأن النبي ﷺ قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» . فإذا ما انتهى رمضان صار الصوم له إلفًا، ومصدر سعادة قلبية لانشراحه برحمة الله وفضله، فهو يصوم الأيام البيض من شوال ويصوم العشر الأوائل من ذي الحجة ويحرص على صيام عرفة ولا يفوته صيام التاسع والعاشر من المحرم (عاشوراء)، ويكثر من الصيام في شعبان، ويحرص طوال العام على صيام الإثنين والخميس، أو يصوم يومًا ويفطر يومًا إن قدر عليه، ولا يقل عن صيام ثلاثة أيام كل شهر، وبهذا يظل المسلم والمسلمة في طهارة من الذنوب دائمة، ولعل هذا ما جعل الإمام مسلمًا يترجم في كتاب الصيام بابًا بعنوان: صيام النبي ﷺ واستحباب ألا يخلي شهرًا عن صوم. ويكفي المؤمن شرفًا أن يصوم وهو يستحضر حديث النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان؛ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه . فهو صيـام يختـص بـه الله تعــالى، ويعـود فضله على العبد؛ فرحة في الدنيا برحمة الله، وفرحة في الآخرة بنعيم الله تعالى، والنجاة من النار؛ لما رواه مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفًا .
ثالثًا: المسلم يجد نشاطًا روحيًّا خاصًّا في شهر رمضان؛ وذلك لأن الله تعالى يقيد مردة الشياطين ويرسل ملائكة تنادي: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أدبر. وشعور العبد أن الفريضة في رمضان تعدل سبعين فريضة فيما سواه، وأن النافلة مثل ثواب الفريضة، وأنه شهر العتق من النار، والعودة إلى الله، وتحري ليلة القدر، والاعتكاف في العشر الأواخر، ممَّا يمثل جرعة روحية كبيرة لا تكاد تعدلها جرعة أخرى طوال العام، اللهم إلا جرعة الحج ابتغاء وجه الله تعالى.
رابعًا: إذا كان المسلم في رمضان يجد نشاطًا روحيًّا بالنهار؛ لأنه يدع شهوته لله تعالى، فإنه بالليل ينعم أيضًا بهذا النشاط الروحي بقيام الليل في صلاة التراويح كل ليلة، ولعل القليل هو الذي يجد نشاطًا روحيًّا طوال العام لقيامه كل ليلة بثماني ركعات، يطيل فيها القراءة، ولكن الكثير جدًّا يهرع إلى صلاة التراويح، ومن فاته منها شيء أكمله في مصلاه أو مسجده. وكذا القيام للسحور قبل الفجر، ودعاء الله تعالى حتى يحظى المسلم بصلاة الله ودعاء الملائكة له وهو يتسحر؛ وذلك للحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «السحور كله بركة، فلا تدَعُوه ولو أن يتجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين» .
خامسًا: من المنح الروحية في الصيام أن للصائم دعوة ما ترد؛ وذلك لما رواه ابن ماجه بسنده عن عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: إن للصائم عند فطره لدعوة ما تُرد . هذه الدعوة مفتاح خير إلى سعادة المرء في الدنيا والآخرة حيث يلحف في المسألة لله تعالى أن يصلح له دنياه، وينعم آخرته بالفردوس الأعلى من الجنة.
سادسًا: يظل المسلم ينتقل من خير إلى خير، فيزداد تعلق القلب بالله تعالى، ويقل تعلقه بالدنيا فيشعر أنه بحاجة إلى خلوة مع ربه جل وعلا، فيلجأ إلى الاعتكاف آخر الشهر في العشر الأواخر ليزيد حبال المودة بالرغبة والرهبة والخوف والرجاء، ويشدو اللسان في الليل والنهار بقراءة القرآن، ويشنف الآذان بالاستماع إليه، ويعمل فكره في بديع خلق الله وكثرة نعمه على خلقه فتبكي العين خوفًا وفرَقًا من عذاب الله، ويطمئن الفؤاد طمعًا وأملًا في رحمة الله، ويكثر القيام والقعود بين يدي رب الوجود سبحانه وتعالى فيفيض هذا على القلب ريًّا، وعلى النفس رضًا، وعلى الجســم حيوية، وعلى الخلُق رقيًّا، وكلما ذاق حلاوة الوصال واصل التراويح بالتهجد، والذكر بالدعاء، والاستغفار بالثناء، والتضرع بالبكاء، والحب بالخوف، حتى إنه لا يحرم خيرها إلا شقي، ولا يصيبه إلا تقي، فتشبع النفس من هذا الهدير الذي يمسح على القلب، ويظل في بوتقة الحب، حتى إذا جاء يوم العيد قام إليه يتلقى جائزته، ويصافح ملائكته، ويخالط الخلق بأخلاق الحق، يحنو على فقيرهم، ويقبل من مسيئهم فيستغفر لذنبهم، ويستحث مدبرهم، فيكون قد صُنع على عين الله، وحمل أخلاق الإسلام وآدابه بعد هذه الخلوة التي تعيد الإنسان إلى الفطرة السليمة، وهكذا تبقى الروح في نضارتها وطهارتها فيسعد صاحبها في الدارين.
سابعًا: الاعتكاف من السنن المستحبة في العشر الأواخر من رمضان؛ لما أورده البخاري ومسلم بسنديهما عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله .
هذا الاعتكاف جولة روحية راقية، فيها تركيز عال لنقاء الروح وصفاء النفس من كل أدرانها؛ لأن الاعتكاف كما قال الأستاذ أحمد غراب ليس هروبًا ولا رهبانية وإنما هو وقفة قصيرة في رحلة الحياة يلقي العبد خلالها نظرة شاملة على ما قطع من الطريق، وما بقي منه ويحاسب نفسه في خلوة العابد المتبتل على ما فرط في جنب الله تعالى.
إن الاعتكاف حبس النفس على منهج الله تعالى، وجولة في عالم الخوف والرجاء، ورحلة إلى الله تعالى بزاد التقوى، وسبحة للنفس لاستنهاض كوامن الخير فيها، ومجاهدة نوازع الشر التي تنساق إليها، إن الصلوات بالليل، وقراءة القرآن، ومداومة الذكر، وزيادة النوافل، وتعوُّد الخشوع في الصلاة، وتعميق المؤاخاة في الله من خلال المسجد، هذا مع الصيام وفضله؛ كل ذلك يقوي كوامن الخير وصنائع المعروف في الفرد المسلم.