التوبـة
الشيخ محمد الغزالي رحمه الله
وهى أول مراحل الطريق، بل هى المدخل المفضى إليه، والقرين المتنقل فى مدارجه من البداية إلى النهاية.
والتوبة كلمة شائعة على الألسنة، حتى لكأن شيوعها ابتذلها وأطفأ سناها الكريم، ومع أن دلالة الكلمة تجعلها أخطر من أن يجازف بها.
هل يلغو إنسان فيقول: بنيت قصرا، أو يلغو فيقول : ألفت كتابا!!.
إنا بناء قصر شاهق أهون من بناء نفس خربة، وإن تأليف كتاب ثمين أرخص من تأليف نفس فرق الهوى أقطارها.
والتوبة هى هذا البناء والتأليف، فمن الهزل العجاب أن تدور على الألسنة دون تيقظ وإدراك.
وجمهور البشر محتاج إلى التوبة، فقلما ينجون فى حياتهم من العثار والتخليط، وما أكثر الذين يرديهم طيش الغرائز، وضعف الرأى، وقلة التجربة، واضطراب اليقين.
وإذا استثنينا الأنبياء فأغلب بنى آدم تعرضوا لخطايا سيئة، وأخطار لا حصر لها.
أما الأنبياء فإنهم قيادات روحية وفكرية اصطفاها الله من النشأة الأولى وتخيرها من معادن أرقى، فهم ليسوا على غرارنا، وان كانوا من تراب الأرض مثلنا على حد قول الشاعر:
فإن تفق الأنام وأنت منهم .. فإن المسك بعض دم الغزال
وقد قال الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك) أى: أن الذين تبعوه جاءوا إليه تائبين.
والتوبة ـ فى نظر الإسلام ـ جهد لابد أن يقوم كل إنسان به، ولن يغنى عنك أحد أبدا فى أدائه.
إذا اتسخ ثوبك فلن ينظفه أن يغسل جيرانك ثيابهم. وإذا زاغ فكرك، فلن يصلحه إلا أن يهتدى هو إلى الصواب.
واستحقاق الرضوان الأعلى لا يجئ إلا من هذه السبيل، فلا قرابين، ولا شفعاء. (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى).
والخطأ فى حق الله لا يداويه إلا اعتذار المخطئ نفسه. فلو اعتذر عنه أهل الأرض جميعا، وفى مقدمتهم النبيون، وبقى هو على عوج نفسه فلن يقبل عنه اعتذار، ولن ينفعه استغفار.
لابد أن يجثو المذنب فى ساحة الرحمن ثم يهتف من أعماق قلبه: (رب اغفر وارحم، وأنت خير الراحمين) ليؤمل ـ بعد ـ فى مغفرة الله ورحمته.
وعلى كل إنسان ساء فعله، واضطربت حاله أن يسارع إلى ربه، متعهدا نفسه بالرعاية والتأديب، مقبلا على شأنه بالترتيب والتهذيب، حتى يستطيع النجاة مما وقع فيه.
وانتهاز اليوم أفضل من انتظار الغد، بل إن كنت فى الصباح فلا ترقب الأصيل. " لا مكان لتريث، إن الزمن قد يفد بعون يشد به أعصاب السائرين فى طريق الحق، أما أن يهب للمقعد طاقة على الخطو أو الجرى فذاك مستحيل.
لا تعلق بناء حياتك على أمنية يلدها الغيب، فإن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير.
الحاضر القريب الماثل بين يديك، ونفسك هذه التى بين جنبيك، والظروف الباسمة أو الكالحة التى تلتفت حواليك، هى وحدها الدعائم التى يتمخض عنها مستقبلك، فلا مكان لإبطاء أو انتظار، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل ".
ثم إن كل تأخير لإنفاذ منهاج تجدد به حياتك، وتصلح به أعمالك لا يعنى إلا إطالة الفترة الكابية التى تبغى الخلاص منها، وبقاءك مهزوما أمام نوازع الهوى والتفريط.
بل قد يكون ذلك طريقا إلى انحدار أشد، وهنا الطامة.
وفى ذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " النادم ينتظر من الله الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، واعلموا عباد الله أن كل عامل سيقدم على عمله ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله وسوء عمله، وإنما الأعمال بالخواتيم.
والليل والنهار مطيتان فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة. واحذروا التسويف، فإن الموت يأتى بغتة.
ولا يغترن أحدكم بحلم الله عز وجل، فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله ثم قرأ : (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * و من يعمل مثقال ذرة شرا يره ).
_الجانب_العاطفي_من_الإسلام