فضل العشر الأواخر من شهر رمضان
مجالس رمضانية مع فضيلة الشيخ الدكتور سلمان العودة
الجلسة العشرون
تبدأ العشر الأواخر من رمضان من ليلة الحادي والعشرين من رمضان، وتنتهي بخروج رمضان، سواء كان ناقصًا أو تامًّا، فإن نقص الشهر فهي تسع، وإطلاق العشر عليها تغليبًا للأصل. وللعشر الأواخر من رمضان مزيةُ فضلٍ على غيرها؛ فإنها ليالي الإحياء التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحييها كلها، وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخص العشر الأواخر بمزيد عناية من الاجتهاد والعبادة، والحرص على الخير ويجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشرُ شدَّ مئزرَهُ، وأَحيا ليلَهُ، وأَيقظ أهلَهُ». وزاد مسلم: «وجدَّ وشدَّ المئزرَ».
وقد جاء من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لا أَعلمُ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قرأَ القرآن كلَّه في ليلة، ولا صلَّى ليلةً حتى الصبح، ولا صام شهرًا كاملًا غيرَ رمضانَ». فيُحمل قولها: «وأَحيا ليله» على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم أغلب الليل، أو يقوم الليل كله؛ لكن يتخلَّل ذلك العشاء والسحور وغيرها، فالمراد: إحياء معظم الليل.
ومن ذلك إيقاظ الرجل أهله للصلاة والعبادة:
قالت عائشة رضي الله عنها: «وأيقظ أهله» أي: أيقظ أزواجه للقيام، وقد كان صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في سائر السَّنة؛ لكن كان ذلك لقيام بعض الليل، ففي «صحيح البخاري» عن أم سَلَمةَ رضي الله عنها قالت: استيقظَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ فقال: «سبحان الله! ماذا أُنزل الليلةَ من الفتن، وماذا فُتح من الخزائن، أيقظُوا صواحبات الحُجَر، فَرُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الآخرة».
وكان صلى الله عليه وسلم يطرق ابنته فاطمة وزوجها علي رضي الله عنهما بالليل، ويقول: «أَلَا تقومان تصلِّيان؟». ولكن إيقاظه صلى الله عليه وسلم لأهله في العشر الأواخر من رمضان أظهر وأكثر منه في سائر السَّنَة.
ومن ذلك الاجتهاد في العبادة:
ففي «صحيح مسلم» تقول عائشةُ رضي الله عنها: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجتهدُ في العشر الأواخر ما لا يجتهدُ في غيره». وقال الشافعي: «ويسنُّ زيادة الاجتهاد في العبادة في العشر الأَواخر من رمضان».
وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر شدَّ المئزرَ، كما في «الصحيحين»، وقد تقدَّم.
وشَدُّ المئزر كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد والقيام فيها زيادة على المعتاد والتشمير لها؛ كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزري، أي: شمَّرت له وتفرَّغت. وقيل: «شد مئزره» كناية عن اعتزال النساء وترك الجماع، وهو الأقرب، فهذه كناية معروفة عند العرب، قال قائلهم:
قَومٌ إِذا حارَبوا شَدُّوا مَآزِرَهُم عَنِ النِّساءِ وَلَو باتَتْ بِأَطهارِ
ومنها: تحرِّي ليلة القدر:
فمن عظيم فضل هذه العشر أن فيها ليلة القدر، وهي أعظم ليالي العام، فهي خير من ألف شهر، فلو قُدِّر للعبد أن يجتهد ويواصل عبادة ربه قرابة أربعة وثمانين عامًا ليس فيها ليلة القدر؛ لكان قيامه ليلة القدر وحدها خيرًا من هذه السنوات الطوال، وهذا من عظيم فضل الله، وإنعامه على هذه الأمة، وفتح السبيل للمنافسة والتشمير وسلوك الطرق السريعة المحصِّلة للكثير من الخير، بالقليل من الجهد، خاصة مع الثقة بالله وحسن الظن به.
قال كثير من المفسِّرين: «العمل فيها خير من العمل في ألف شهر». وهذه الليلة في أوتار العشر الأواخر أرجى؛ وهي في السبع الأواخر أقرب. وأقرب السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين؛ لحديث أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه، وسيأتي بتمامه. فجدير بالمسلم أن يتحرَّى هذه الليلة، وأن يحيي وقته ذكرًا وتسبيحًا وتلاوةً واستغفارًا.
ويستحب الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التمسوها في العشر الأَواخر». وإنَّما تلتمس بالعمل الصالح، لا بأَنَّ لها صورة وهيئة يمكن الوقوف عليها بخلاف سائر اللَّيالي، كما يظن بعض الناس، إنَّما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 3-4]، وقال تعالى: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 1-5] ، فبهذا بانت عن سائر اللَّيالي.
ومنها: اعتكاف العشر الأواخر:
وهو من أجلِّ الأعمال في العشر، كما سبق تفصيله، ولو اعتكف ليلة أو يومًا أو بعض يوم. ومقصوده: عكوف القلب على الله تعالى والخلوة به، ويستحضر المعتكف النية الصالحة فيه، مع احتساب الأجر، واستشعار الحكمة منه، وأن يلزم مسجده ولا يخرج إلا لحاجة ضرورية، مع المحافظة على السنن والأذكار مُطلَقِها ومقيَّدِها، كالرواتب والضحى والقيام، وأذكار طرفي النهار، وأدبار الصلوات وغير ذلك، والإكثار من قراءة القرآن، والإقلال من الطعام والنوم وكثرة الكلام فيما لا ينفع، مع النصيحة للمسلمين والتواصي بالحق والصبر في رمضان، وخاصة العشر الأواخر.
ويستحب كذلك البذل والجود، في غير سرف ولا مخيلة؛ لما جاء في «الصحيحين» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس بالخير، وكان أجودُ ما يكونُ في رمضان».
قال في «المجموع»: والجود والإفضال مستحب في شهر رمضان. وفي العشر الأواخر أفضل؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسلف؛ ولأنه شهر شريف، فالحسنة فيه أفضل من غيره؛ ولأن الناس يشتغلون فيه بصيامهم، وزيادة طاعتهم عن المكاسب، فيحتاجون فيه إلى المواساة».
أنت في الدَّهرِ غرةٌ وعـلـى الأرْ ضِ سلامٌ وفي السمـــــــاء دعــاءُ
يتلقَّاك عنــــد لُقيـــاك أهـــــــلُ الــْ بِــــــرِّ والمؤمنــــــــــــــــــــــون والأصــفـيـــاءُ
فلهم في النَّهار نَجوى وتَسـبيــ ــــــحٌ وفي الليـلِ أدمُــــــــــــعٌ ونــــداءُ
ليلةُ القدرِ عندَهم فرحـةُ العُمْـ ـرِ تدانَت على سناها السَّمــاءُ عرض أقل