الرابط المختصر :
شهر رمضان بين ميزان المادية والمعنوية
بقلم: د. أشرف دوابة (عضو الاتحاد)
خلق الله تعالى الإنسان من طين ونفخ فيه من روحه، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض في إطار توازن بديع بين المادة والروح، بميزان ليس فيه طغيان للمادة وإخسار للروح فيصل الإنسان إلى مرحلة البهيمية، أو طغيان للروح وإخسار للمادة فيصل الإنسان إلى مرحلة الرهبانية، "والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" (الرحمن: 7-9).. توازن بين الأبعاد المادية التي يحس بها الإنسان عن طريق حواسه والأبعاد المعنوية التي يحس بها الإنسان ولكنها غير ملموسة.. توازن بين الأمن المادي والأمن المعنوي، "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" (قريش: 4).
إن ميزان المادية والروحية هو ميزان يحكم السلوك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمسلم، فهو ميزان حاكم لكل حياته من عبادات وعاديات. وفي هذا الشهر الكريم، شهر القرآن، يبدو هذا الميزان بصورة واضحة جلية كي يكون المسلم ربانيا لا تستعبده المادة ولا تستهويه المعنويات، بل توازن ما بينهما بصورة تحقق له حسنة الدنيا وحسنة الآخرة.
لقد شهد هذا الشهر الكريم نزول أول آيات من كتاب الله الخالد القرآن الكريم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءه جبريل - عليه السلام - في خلوته في غار حراء فقال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه حتـى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. فأخذه فغطه الثانية حتـى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. فأخذه فغطه الثالثة حتـى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: "اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم" (العلق: 1-5).. وهذه الآيات البينات تبرز قيمة الأبعاد المادية من خلال خلق الإنسان من علقة طفيلية، فضلا عن القلم ودوره التعليمي جنبا إلى جنب مع الأبعاد المعنوية ممثلة في القراءة والتعلم وهو توازن يعكس قيمة البعدين معا.
كما يظهر التوازن بين البعد المادي والبعد المعنوي، كذلك في العديد من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الصيام وسلوكه في شهر رمضان المبارك، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء. وكان دعاؤه إذا أفطر: "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله". وهذا الدعاء فيه توازن بين البعد المادي بذهاب الظمأ والبعد المعنوي بثبات الأجر بفضل الله ومشيئته.
كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من وصاياه "تسحروا فإن في السحور بركة"، وهذا الحديث يجمع في توازن دقيق بين السحور في بعده المادي من طعام يُؤكل وشراب يُشرب، وبعده المعنوي من خلال حلول البركة التي تجعل القليل كثير، ويظهر أثرها الإيجابي على معيشة المؤمن وحياته.
كما أن الصيام في طبيعته هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، ولكن لا يقتصر الصيام فقط على هذا البعد المادي بل يتوازن مع بعد معنوي سلوكي بالصبر والتحكم في النفس وإمساك اللسان، وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم - "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني أمرؤ صائم".
كما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه"، فالفرح الأول تبرز فيه المادية بإفطاره، والفرح الثاني تبرز فيه المعنوية بلقاء ربه وما أعظمه من لقاء وهو صائم.
كما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه "من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا"، فإفطار الصائم واضح فيه البعد المادي، ولكنه يتوازن مع البعد المعنوي من خلال الأجر الذي يناله من فطر صائما ولا ينقص هذا الأجر من أجر الصائم شيئا، وهو ترسيخ للقيم المعنوية جنبا إلى جنب مع القيم المادية.
كما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، والبعد المادي ظاهر في الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، كما يبرز البعد المعنوي من خلال الصيام إيمانا واحتسابا بجهد لا يستعجل الصائم أجره ولا يطلب اليوم ثمنه لأنه قرر حين بذل هذا الجهد أن يجعله ضمن مدخراته عند ربه.
كما نجد أن ثمرة الصيام هي التقوى، وهي ثمرة ذات بعد معنوي وتتوازن مع البعد المادي في الصيام: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة: 183)، كما جعل الإسلام النية واجبة في الصيام، وهي ذات بعد معنوي وتتوازن كذلك مع بعده المادي.
إن الإسلام دين متوازن في كل شيء من خلال مراعاته للنفس البشرية مادة وروحا بصورة تحقق الاستقرار المادي والنفسي، بعيدا عن المادية الغربية التي أسرت الناس وحولتهم إلى عبيد لتلك الماديات التي سخرها الله تعالى أساسا للإنسان.
وشهر رمضان فرصة عظيمة لإقرار معنى هذا التوازن بين الأبعاد المادية والأبعاد المعنوية بلا طغيان أو إخسار.. فلنقرر هذه الأبعاد واقعا عمليا في سلوكنا في رمضان، وتكون بعد رمضان نمطا واضحا في حياتنا اليومية نرقى بها إلى نعمة الإنسانية والخيرية التي ارتضاها الله لعباده المؤمنين.