الفتح الإسلامي لمصر وتحقق البشارة النبوية
بقلم: الدكتور علي محمد الصلابي
يعتبر فتح مصر المرحلة الثَّالثة من الفتوحات بالنِّسبة لمحور الدَّولة البيزنطيَّة، ولقد كانت مسيرة عمرو من فلسطين إِلى مصر محاذياً البحر فسار من رفح إِلى العريش إِلى الفَرْما، واستمرَّ فتحه للقاهرة، فالإِسكندريَّة، وهذا يدلُّنا على موهبة عمرو العسكريَّة، حيث سار في هذا الخطِّ ربَّما لأنَّه لم يكن للرُّوم ثقلٌ عسكريٌّ في هذا الخطِّ كما كان في بلاد الشَّام، وربَّما لأنَّ الدَّرب كان معروفاً لعمرو بن العاص، فكان تسلسل الفتح كما هو مرتَّب فيما يلي مع بيان أوجه الاختلاف والاضطراب حيث لم يخل سير الفتح من اختلافٍ كما حدث في فتح بلاد الشَّام.
1 ـ فتح الفَرْما:
تقدَّم عمرو غرباً، ولم يلاقِ جيشاً رومانيَّاً إِلا في (الفَرْما) أمَّا قبل ذلك؛ فقد قابله المصريُّون بالتَّرحاب، والتَّهليل، فكان أوَّل موضع قوتل فيه كان في (الفَرْما) فقد تحصَّن الرُّوم في المدينة لمواجهة المسلمين، واثقين من قدراتهم على الذَّود عنها، وردِّ المسلمين بعد أن علموا: أنَّ المسلمين الَّذين جاؤوا مع عمرو قِلَّةٌ في العدد، والعدَّة، وليس معهم عدَّةٌ للحصار، عرف عمرو عدد الرُّوم، واستعداداتهم، وأنَّهم يزيدون على جنده أضعافاً، فكانت خطَّته في الاستيلاء على الفَرْما هي المهاجمة، وفتح الأبواب، أو الصَّبر عليها إِلى أن يضطرَّ الجوع أهلها، فينزلوا إِليها، واشتدَّ حصار المسلمين للمدينة، واشتدَّ عناد الرُّوم، ودام الحصار شهوراً، وكانت بعض القوَّات الرُّومانيَّة تنزل إِلى المسلمين بين الحين والاخر لقتالهم فيجهز عليهم المسلمون، وكان عمرو يشدُّ أزر المسلمين بكلماته القويَّة، فَمِنْ قوله لهم: يا أهل الإِسلام والإِيمان ! يا حملة القران ! يا أصحاب محمَّدٍ (ص) ! اصبروا صبر الرِّجال، واثبتوا بأقدامكم، ولا تزايلوا صفوفكم، وأشرعوا الرِّماح، واستتروا بالدُّرق، والزموا الصَّمت إِلا من ذكر الله، ولا تحدثوا حدثاً حتَّى امركم.
وذات يومٍ خرجت فرقةٌ من الرُّومان من القرية إِلى المسلمين ليقاتلوهم، وكانت الغلبة للمسلمين، والدَّائرة على الرُّوم فلاذوا بالفرار إِلى القرية، وتبعهم المسلمون، وكانوا أسرع منهم، فملكوا الباب قبل أن يقتحمه الرُّومان، وكان أوَّل من اقتحم المدينة من المسلمين هو (أسميقع) فكان الفتح المبين، وممَّا هو جديرٌ بالذِّكر: أنَّ أقباط مصر الَّذين كانوا بالقرى عاونوا المسلمين، ودلُّوهم على مناطق الضَّعف، وتلقَّوا المسلمين في (أتميدة) بالتَّرحاب، وبعد تمام احتلال الفَرْما قام المسلمون بهدم أسوارها وحصونها حتَّى لا يستفيد منها الرُّوم لو رجعوا إِليها لا قدَّر الله.
ثمَّ خطب عمرو في الجيش قائلاً: أيُّها النَّاس! حمداً لله الَّذي جعل لجيش المسلمين الغلبة، والظَّفَر، والله عظيمٌ حمى بالإِسلام ظهورنا، وتكفَّل به طريق رجوعنا، ولكن إِيَّاكم أن تظنُّوا أنَّ كل ما نرغب فيه قد تحقَّق، وأن تخدعوا بهذا النَّصر، فلا يزال الطَّريق أمامنا وعراً شاقَّاً، والمهمَّة الَّتي وكَّلها لنا أمير المؤمنين بعيدة المنال، وعليكم بالصَّبر، والطَّاعة لرؤسائكم، فسيعلم القوم هنا أنَّنا جنود السَّلام، لا نبغي فساداً في الأرض، بل نصلحها وكونوا خير قدوةٍ للرَّسول (ص) .
اطمأنَّ عمرو إِلى أنَّ المدينة لم تعد صالحةً لحماية جيشٍ يأوي إِليها، وتفقَّد جيشه، وما فقده في المعركة، وتألَّم لفقد رجالٍ كانوا حريصين على فتح مصر، فعاجلتهم المنيَّة، وخشي إِن استمرَّت المعارك على هذا النَّحو مع وقوع الخسائر في الجيش القليل العدد ألا يستطيع مواصلة الزَّحف، ولا يتمكَّن من بلوغ الغاية، ولكنَّ الله تعالى قد عوَّضه عمَّن فقده، فانضمَّ إِلى جيشه كثيرٌ من رجال القبائل العربيَّة من راشدة، ولخم، وكانوا يقيمون بجبل الحلال، ومضى عمرو بجيشه لا يلقى شيئاً من المقاومة متَّجهاً غرباً حتَّى وصل القواصر (القصَّاصين) ومن هناك اتَّجه نحو الجنوب حتَّى أصبح في وادي الطَّمبلان بالقرب من التَّلِّ الكبير، ثمَّ اتَّجه إِلى الجنوب حتَّى نزل بلبيس. قال صاحب النُّجوم الزَّاهرة: فتقدَّم عمرو لا يدافع إِلا بالأمر الخفيف حتَّى أتى بلبيس.
2 ـ فتح بلبيس:
وعند بلبيس برز الرُّوم في قوَّةٍ كبيرةٍ قاصدين صدَّ عمرو عن التَّوجُّه نحو حصن بابليون، وأرادوا منازلة المسلمين، فقال لهم عمرو ـ رضي الله عنه ـ: لا تعجلونا حتَّى نعذر إِليكم، وليبرز إِليَّ أبو مريم، وأبو مريام، وعندئذٍ كفُّوا عن القتال، وخرج إِليه الرَّجلان، فدعاهما إِلى الإِسلام، أو الجزية، وأخبرهما بوصيَّة النَّبيِّ (ص) بأهل مصر، بسبب هاجر أمِّ إِسماعيل.
روى مسلمٌ في صحيحه: أنَّ رسول الله (ص) قال: « إِنَّكم ستفتحون مصر، وهي أرضٌ يُسمَّى فيها القيراط، فإِذا فتحتموها؛ فأحسنوا إِلى أهلها، فإِنَّ لهم ذمَّةً، ورحماً؛ أو قال: ذمَّةً، وصهراً ». فقال: قرابةٌ بعيدةٌ لا يصل مثلها إِلا الأنبياء، أمِّنَّا حتَّى نرجع إِليك. فقال عمرو: مثلي لا يُخدع، ولكنِّي أؤجِّلكما ثلاثاً لتنظرا، فقالا: زدنا، فزادهما يوماً، فرجعا إِلى المقوقس عظيم القبط، وأرطبون الوالي من قِبَل الرُّوم، فأخبراهما خبر المسلمين، فأمَّا أرطبون فأبى، وعزم على الحرب، وبيَّت المسلمين، فهزموه هو وجنده إِلى الإِسكندريَّة، وممَّا هو جديرٌ بالذِّكر، ما يدلُّ على شهامة المسلمين، ومروءتهم: أنَّه لمَّا فتح الله على المسلمين (بلبيس) وجدوا فيها ابنة المقوقس، واسمها (أرمانوسة) وكانت مقرَّبةً من أبيها، وكانت في زيارةٍ لمدينة بلبيس مع خادمتها (بربارة) هرباً من زواجها من قسطنطين بن هرقل (وهو فيما بعد والد قنسطتز) صاحب موقعة ذات الصَّواري، وكانت غير راغبةٍ في الزَّواج منه، ولمَّا تمكَّنت مجموعةٌ من الجيش الإِسلاميِّ من أسر أرمانوسة جمع عمرو بن العاص الصَّحابة، وذكرهم بقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ *} [سورة الرَّحمن: 60]. ثمَّ قال: لقد أرسل المقوقس هديَّةً إِلى نبيِّنا، وأرى أن نبعث إِليه بابنته وجميع من أسرناهم من جواريها، وأتباعها، وما أخذنا من أموالهم. فاستصوبوا رأيه، فأرسلها عمرو إِلى أبيها معزَّزةً مكرَّمةً، ومعها كلُّ مجوهراتها، وجواريها، ومماليكها، وقالت لها خادمتها (بربارة) أثناء سفرهما: يا مولاتي ! إِنَّ العرب يحيطون بنا من كلِّ جانبٍ. فقالت أرمانوسة: إِنِّي امن على نفسي، وعرضي في خيمة العربيِّ، ولا امن على نفسي في قصر أبي. ولمَّا وصلت إِلى أبيها سُرَّ بها، وبتصرُّف المسلمين معها.
3 ـ معركة أمِّ دنين:
ذكر ابن عبد الحكم في روايته: أنَّ عَمْراً مضى بجيشه حتَّى فتح « بلبيس » بعد قتالٍ دام نحواً من شهرٍ، ثمَّ مضى حتَّى أتى « أمَّ دنين » وتسمَّى المقسس، وهي واقعةٌ على النِّيل، فقاتل المسلمون حولها قتالاً شديداً، وأرسل عمرو إِلى أمير المؤمنين يستمدُّه فأمدَّه أمير المؤمنين بأربعة الاف رجلٍ، على كلِّ ألفٍ منهم رجلٌ يقوم مقام الألف، وهم الزُّبير بن العوَّام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصَّامت، ومسلمة بن مخلد، وقيل: الرَّابع: خارجة بن حذافة.
وقال عمر في كتابه له: أعلم: أنَّ معك اثني عشر ألفاً، ولن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلَّة.
وقد خرج الرُّوم مع الأقباط لمواجهة المسلمين، وجرت بينهم معركةٌ حاميةٌ استعمل فيها عمرو بن العاص دهاءه الحربي، كما صنع خالد بن الوليد في حروب العراق، وذلك: أنَّه جعل جيشه ثلاثة أقسام، حيث أقام كميناً للأعداء في الجبل الأحمر، وأقام كميناً اخر على النِّيل قريباً من أمِّ دنين، وقابل أعداءه ببقيَّة الجيش، ولمَّا نشب القتال بين الفريقين خرج الكمين الَّذي في الجبل الأحمر، وانقضَّ على الرُّوم، فاختلَّ نظامهم، وانهزموا، إلى أمِّ دنين، فقابلهم الكمين الذي بقربها، فأصبحوا بين جيوش المسلمين الثلاثة، وانهزموا وتفرَّق جيشهم، ولجأ بعضهم إِلى حصن بابليون الحصين[(2351)]، وهكذا كسب المسلمون هذه المعركة، ووقاهم الله شرَّ أعدائهم بفضله تعالى، وذلك بتوفيق قائدهم المحنَّك إِلى هذه الخطَّة المحكمة؛ الَّتي شتِّت بها قوَّات الأعداء.
4 ـ معركة حصن بابليون:
تقدَّم عمر وجيشه إِلى حصن بابليون، وحاصروه حصاراً محكماً، ودام الحصار سبعة أشهر، وأرسل المقوقس خلال ذلك رسله إِلى عمرو بن العاص للمصالحة، فاستجاب عمرو بن العاص على الشُّروط: الإِسلام، أو الجزية، أو الحرب، فاختار المقوقس الجزية، وكتب المقوقس إِلى هرقل يستأذنه في ذلك، فلم يقبل منه، بل حنق عليه، ولامه لوماً شديداً، واستدعاه إِلى القسطنطينية، ثمَّ نفاه، ولمَّا أبطأ فتح حصن بابليون؛ قال الزُّبير بن العوَّام: إِنِّي أهب نفسي لله، وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين.
وراح عمرو بن العاص يحاصر حصن بابليون، ثمَّ تسوَّروا الحصن في اللَّيل، واشتبكوا مع الجنود في قتالٍ عنيفٍ، وكان أوَّل من تسوَّر الحصن الزُّبير بن العوَّام، فوضع سلَّماً من ناحية سوق الحمام، ثمَّ صعد، وأمر المسلمين إِذا سمعوا تكبيره، أن يقتحموا الحصن، فما شعروا إِلا والزُّبير بن العو ام على رأس الحصن يكبِّر ومعه السَّيف، فكبَّر تكبيرةً، فأجابه المسلمون من خارج الحصن، ولم يشكَّ أهل الحصن: أنَّ المسلمين قد اقتحموا جميعاً الحصن، فهربوا، فعمد حواريُّ رسول الله بأصحابه إِلى باب حصن بابليون، ففتحوه، واقتحم المسلمون الحصن، وفتحوه عنوةً، ولكن عمرو بن العاص أمضى الصُّلح على أن يخرج جند الرُّوم ما يلزمهم من القوت لبضعة أيَّامٍ، أمَّا حصن بابليون وما فيه من الذَّخائر، والات الحرب، فتبقى غنيمةً للمسلمين، ثمَّ خرب أبو عبد الله أبراج الحصن، وأسواره.
امتدت دولة الإِسلام في عصر عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لتشمل مساحةً شاسعةً من الأرض يحدُّها من الشَّرق نهر جيحون والسِّند، ومن الغرب بلاد إِفريقية وصحراؤها، ومن الشَّمال جبال اسيا الصُّغرى، وأراضي أرمينية، ومن الجنوب المحيط الهادي وبلاد النُّوبة في دولة عالميَّةٍ واحدةٍ متعدِّدة الأجناس، والدِّيانات، والنِّحل، والعادات، عاش أهلها في عدل الإِسلام، ورحمته، ذلك الدِّين الَّذي احتفظ لهم بحقِّهم في الحياة الكريمة، وإِن اختلفوا معه في عقائدهم؛ ومع أهله في عاداتهم، وأعرافهم.
المصادر والمراجع:
- أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدِّمشقي، البداية والنِّهاية، دار الرَّيَّان، القاهرة الطَّبعة الأولى 1407 هـ 1988 م. (7/100)
- جمال الدِّين أبي المحاسن يوسف بن تغري الأتابكي، النُّجوم الزَّاهرة، وزارة الثَّقافة والإِرشاد القومي، المؤسَّسة المصريَّة العامَّة للتَّأليف، والتَّرجمة، والطِّباعة، والنَّشر. (1/7، 8).
- السَّيِّد عمر، الدَّور السِّياسي للصَّفوة في صدر الإِسلام، الطَّبعة الأولى، 1417 هـ 1996 م، المعهد العالميّ للفكر الإِسلامي. ص (431).
- علي الصلابي، عمر ابن الخطاب، ص 597-603.
- محمَّد سيِّد الوكيل، جولة في عصر الخلفاء الرَّاشدين، ص (214).