البحث

التفاصيل

من أحكام ليلة القدر ويوم العيد

الرابط المختصر :

من أحكام ليلة القدر ويوم العيد

بقلم: د. تيسير رجب التميمي – عضو الاتحاد

 

تمر الأيام فينا مرَّ السحاب ، فها نحن في المحطات الأخيرة من شهر رمضان المبارك وقد أظلتنا عشره الأواخر في ظروف صعبة نظراً لجائحة كورونا التي أوجبت علينا التباعد ، وحرمتنا التراويح وقيام رمضان على الوجه الذي نحب ، ابتدأت أيامها ولياليها الشريفة بليلة الحادي والعشرين وستنتهي بخروج الشهر، إنها عشر الجد والاجتهاد في وداع رمضان والاستزادة من التعبد بالصالحات والتقرب إلى الله بالطاعات ، هي العشر التي تضاعف فيها أعمال الخير كلها كالقيام تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي ذلك قالت عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه كان {إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر} رواه مسلم.

 

واقتربت ليلة القدر المباركة التي قال تعالى فيها { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } القدر 1-5 ، ليلة فيها ذكرى ابتداء نزول الوحي بالقرآن الكريم على قلب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ؛ قال تعالى { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } الدخان 3-6.

 

وسميت بذلك لعظيم قدرها وشرفها عند الله تعالى ولما فيها من الفضائل ، فهي مختصَّةٌ بجميع الأمة إكراماً لرسولها محمد صلى الله عليه وسلم يعمهم خيرها جميعاً إذا عملوا على تحصيله ، وهي مشرَّفةٌ بنزول الملائكة حتى تضيق بهم الأرض ، يسلِّمون فيها على كل مؤمن ، قال صلى الله عليه وسلم { إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى} رواه أحمد.

وفيها ينزِّل الله تعالى البركة والمغفرة والرحمة للمؤمنين.

 

ويرى بعض العلماء أنها سميت بذلك لأن للعبادات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً ، ولأن لمن أحياها بالعبادة قدرٌ عظيم وشرفٌ كبير ، فالعمل فيها خير من العمل في ألف شهر ، لذا فضَّل الله تعالى رمضان بها . وربما سميت بذلك لأن الأرزاق تقدَّرُ فيها وتُقْضَى . وروى الأمام مالك رحمه الله ما سمعه من أهل العلم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم طول أعمار الأمم قبله ، فكأنه رأى أن أمته لن تتمكن من أداء العمل الصالح مثل مَن قبلها لقصر أعمارها ، فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر عوضاً عن ذلك.

اختص الله تعالى ليلة القدر باستحباب تحرّيها وانتظارها وقيام ليلها لأنها من الليالي التي وردت الآثار بفضلها ، فهي من ليالي العشر الأواخر في رمضان ، الليالي التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءت طوى فراشه وأيقظ أهله وأحيا ليله طلباً لها ، قال صلى الله عليه وسلم {تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان} رواه البخاري

ولما لهذه الليلة من فضل عظيم وخير عميم ؛ فقد كان السلف رضي الله عنهم يعظمونها ويشمرون لها قبل إتيانها فما تأتيهم إلا وهم متأهبون للقائها , والقيام بحرمتها . قال صلى الله عليه وسلم {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} رواه البخاري.

 

جعل الله تعالى ليلة القدر مبهمة فأخفاها لئلاَّ يتَّكل الناس على فضلها ويقَصِّرُوا في غيرها ، ولِيَجِدُّوا في العمل دوماً وليجتهدوا جميع الليالي في العبادة طمعاً في إدراك خيرها وثواب قيامها ، تماماً كما أخفى عنهم ساعة الإجابة يوم الجمعة ليجتهدوا كل الوقت طلباً لها بالدعاء والرجاء وسؤال الله من خير الدنيا والآخرة.

وتعرف ليلة القدر المباركة بعد انقضائها ، قال أبيّ ابن كعب عن علامتها: والله إني لأعلم أي ليلة هي ، وأكثر علمي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها { هي ليلة صبيحة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها } رواه مسلم.

 

ويكون إحياؤها بالصلاة والقيام وبالتهجد والدعاء والتضرع إلى الله تعالى ، فإنها أكثر الأوقات استجابة للدعاء وأفضلها ، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها { يا رسول الله أرأيت إن علمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها ؟ قال قولي اللهم إنك عفوٌّ كريم تحب العفو فاعفُ عني } رواه الترمذي؟

 

ويكون إحياؤها أيضاً بالذكر والتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ، وبالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالاستغفار وبالأخص عند الأسحار ، قال تعالى في وصف المتقين { وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الذاريات 18 . ويستحب ختم القرآن الكريم في صلاة التراويح ليلة السابع والعشرين رجاء أن يدركوا ليلة القدر فيها وأن ينالوا أجرها.

 

والاعتكاف من أهم العبادات في العشر الأواخر من رمضان وفي ليلة القدر ، وهو ملازمة المسجد والمكث فيه بنية العبادة ، قال تعالى { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود } البقرة 125 ، وهو سنة مؤكدة في جميع الأوقات ، وهو في العشر الأواخر من رمضان آكد بدليل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه ، فقد { كان يعتكف في رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً } رواه البخاري.

 

وأقل الاعتكاف لحظة ، ويستحب ألا يقل عن يوم وليلة ، والحكمة منه تسليم النفس بالكلية إلى عبادة الله طلباً للتقرب إليه وإبعادها عن الانشغال بالدنيا ، وكذلك لاستغراق الوقت في الصلاة ، فالمقصد الأصلي من مشروعية الاعتكاف انتظار الصلاة في الجماعات ، ولا فرق في أحكام إحياء ليلة القدر والاعتكاف فيها وفي العشر الأواخر بين الرجال والنساء ، فقد { كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده } رواه البخاري.

 

وخير المساجد للاعتكاف فيها المساجد الثلاثة التي قال فيها صلى الله عليه وسلم {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا} رواه البخاري، فلنجتهد في إحياء هذه الليلة المباركة في المسجد الأقصى المبارك فإجراءات الاحتلال ينبغي ألاَّ تعيقنا عن وصوله ، فإذا كانت الصلاة فيه تفضُلُ الصلاة في أي مسجد بعد البيت الحرام والمسجد النبوي فإن الاعتكاف فيه وإحياء ليلة القدر يفضُلُ الاعتكاف في أي مسجد آخر بعدهما ، لأنه من المرابطة في سبيل الله ، كما أن المواظبة على شد الرحال إليه والحضور الدائم فيه يسهم في حمايته وإفشال المخططات الصهيونية الرامية إلى المس به وبهويته ، والهادفة إلى الاعتداء الفعليّ عليه بالهدم أو التهويد أو التقسيم.

 

فإذا ما هلَّ هلال شوال فهو يوم العيد ، يوم الجائزة والفرحة الأولى للصائم ، وأول الواجبات فيه أداء صدقة الفطر ، ويبدأ وقتها بأول يوم من رمضان ، لكنها تجب بغروب شمس آخر يوم فيه ، وينتهي وقتها بدخول وقت صلاة العيد ، فمن أداها بعد صلاة العيد فهي صدقة من الصدقات وتبقى ديناً في ذمته ، ويؤديها المسلم عن نفسه وعمن تلزمه نفقته من المسلمين كالزوجة المسلمة والأبناء ، ودليل وجوبها أن {رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين} رواه البخاري.

 

والحكمة منها أنها تكفر الذنوب التي ربما بدرت من الصائم ، فهي كسجدتي السهو للصلاة ؛ تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة ، فقد {فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين} رواه أبو داود ، لذا فقد فرضت على الجميع بمن فيهم الفقراء ، وفي صدقة الفطر فرحة حقيقية للصائم بفطره ، وللمساكين وأهليهم بإدخال السرور إلى قلوبهم وتأمين طعامهم يوم العيد وإكرامهم عن ذل المسألة فيه ، قال صلى الله عليه وسلم فيهم {أغنوهم عن المسألة هذا اليوم} رواه البيهقي.

 

ويستحب للمسلم يوم العيد أن يتطيب ويتجمل ويلبس أحسن ما لديه من الثياب ، قال تعالى { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } الأعراف31 ، ويستحب له أيضاً أن يأكل قبل الخروج إلى الصلاة ، فقد {كان صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات يأكلهن وتراً } رواه البخاري.

 

ومن المستحبات سُنَّةُ التكبير يوم العيد ، وينتهي بانتهاء الخطبة ، فلنكبر الله تعالى يوم الفطر امتثالاً لأمره سبحانه القائل عقب آيات الصوم { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } البقرة 185.

 

ويسن للمسلم أداء أول العبادات يوم الفطر وهي صلاة العيد فرحاً بأنْ بلّغه الله رمضان فأتمه وجعله موسم طاعة فاغتَنمه ، فالسجود من صور شكر الله على نعمه وبه تزداد وتدوم ، وهي سنة مؤكدة واظب رسولنا صلى الله عليه وسلم عليها ، ودعا الجميع إلى شهودها وحضورها ، فقد {كان يأمر النساء بالخروج في العيدين ليشهدن الصلاة فَيَكُنَّ خلف الناس يكبرْنَ مع الناس} رواه مسلم ، لأن الخروج إليها إظهار لشعيرة من شعائر الإسلام.

ويستحب إدخال الفرحة والسرور إلى قلوب الأطفال ، وتزيينهم بالملابس والذهب والفضة في هذا اليوم لإدخال الفرح إلى قلوبهم باللهو واللعب ، بل إن اللهو المباح واللعب البريء للكبار من المظاهر التي أباحها الله يوم العيد رياضة للبدن وترويحاً عن النفس ، فإن في هذا الدين فسحة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث بحنيفيّة سمحة.

 

والعيد فرصة سانحة لصلة الرحم وذوي القربى ، فهي عنوان الأخوّة والتماسك في مجتمع الإيمان ، والصلة تقتضي الإحسان إليهم والعفو عن أساءتهم . وتتحقق بالزيارة والمعاونة وقضاء الحوائج بل حتى بالسلام ، وتكون كذلك ببذل المال لهم إن كان مقتدراً فهو تكافل وصلة وصدقة ، قال صلى الله عليه وسلم: {الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة } رواه الترمذي ، وليس المراد بالصلة أن تصلهم إن وصلوك ؛ بل أن تصلهم وإن قطعوك ، قال صلى الله عليه وسلم: {ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قُطِعَتْ رحمه وصلها} رواه البخاري ، وصلة الرحم لا يقصد بها الإحسان إلى الأقارب من النساء فقط ؛ بل هي شاملة للرجال والنساء لكن حق النساء فيها آكد.

ومن السنن بعد رمضان وبعد يوم الفطر صيام ستة أيام من شهر شوال ، ولا يشترط فيها التتابع بل يجوز تفريقها على مدار الشهر ، فلْنحرصْ على صيامها فهي فرصة لا تعوض وموسم قد لا يتكرر، قال صلى الله عليه وسلم: {من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر} رواه النسائي.

 

فلْنغتنم يا أخوتي ما بقي من رمضان وعشره المباركة ، جعلنا الله جميعاً ممن أدرك رمضان هذا فخرج منه غانماً مغفوراً له ، ولندعُهُ سبحانه أن يصرف عن امته البلاء والوباء والغلاء ، ولْنسْأله جل وعلا أن يبلغنا رمضان وكل مواسم الخير مرات عديدة وسنوات مديدة ، وأن يتقبل منا ومنكم الطاعات ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 


: الأوسمة



التالي
صلاة الوتر
السابق
مكانة المرأة وأهميتها في الدولة الحديثة المسلمة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع