البحث

التفاصيل

اليوم أكملت لكم دينكم

الرابط المختصر :

اليوم أكملت لكم دينكم

الشيخ / محمد الغزالي 

إن الشيوعية فى عصرنا مع استعانتها بأحدث ما وصل إليه العلم لم تستطع بعد خمس وستين سنة أن تستقر فى أرضها إلا بالأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية لأن جو الحرية قاتلها يقينا..

أما العرب فإن الإسلام غيرهم فى فترة قصيرة، ثم غيروا العالم بعد ذلك تغييرا جذريا ولم تكن لهذا التحول الشامل أداة إلا الأسوة الحسنة.

قال مالك بن أنس: بلغنى أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضى الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين.

والواقع أن الإجهاز على الاستعمار الرومانى ومحو مظالمه وظلماته ما كان يقدر عليهما أبدا إلا هذا الجيل الذى رباه محمد عليه الصلاة والسلام، إن القوتين النفسية والعقلية على المحو والإثبات انتقلتا من صاحب الرسالة العظمى إلى الرجال الذين تبعوه، فإذا هم يغسلون الأرض من أدرانها لتنشأ عليها أمم من طراز جديد.

وقد روى الشيخان حديثا يضرب المثل لهذه القدرة الفائقة، فعن أبى سعيد الخدرى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " يأتى على الناس زمان فيغزو فئام من الناس - فيقال لهم - فيكم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم. ثم يأتى على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم ".

والحوار كما قلنا من باب التمثيل، لإبراز القدرات العارمة على التغييرين الاجتماعى والسياسى اللذين انتقلا إلى الصحابة والتابعين من حامل الرسالة الخاتمة، هذا النبى الذى دفع القرون أمامه بعدما نفخ فيها من روحه، فإذا اليابس يخضر، والكدر يصفو، وإذا تراثه فى أوائل القرن الخامس عشر لا يزال - من الناحية النظرية - سيد الموقف وإن جار عليه الأقربون والأبعدون، وتنكر له كثيرون.

وقد كانت الحكمة القرآنية هى التى تولت صياغة المسلمين على النحو الذى بلغوه، وأعنى بالحكمة الموازين النفسية والفكرية التى ضبطت الفرد والجماعة.

وإليك هذا المثال بعد صفحتين من الآداب التى انتظمت العقائد والأخلاق تقرأ قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا * ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها * ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا).

هذه الحكمة التى ألهمها صاحب الرسالة هى التى جعلت أتباعه ربانيين يدخلون البلاد لحساب السماء لا جريا وراء الحطام، ويحيون لله لا لطبائع الأثرة والاستعلاء.

وقد جاءت الحكمة فى سورة الإسراء بعد تفصيل لبعض مفرداتها ولكنها فى سورة لقمان جاءت سابقة ثم لحقها التفصيل والإيضاح. (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد).

ثم شرع لقمان يعرض حكمته ويؤدب ابنه ويرفع مستواه.

ومن فقهائنا من يرى الحكمة هى السنة الشريفة، وربما استأنس لذلك باقترانها بالكتاب عادة، ونحن نعرف أن السنة نصف الدين ومجلى العظمة المحمدية بيد أننا لا نفسر الحكمة بها ونرى الأليق بالكلمة ما ذكرنا.

والحكمة فى المصحف الشريف سطور منثورة وعظات حية، لكنها تتحول من شخص النبى العظيم إلى سيرة مرموقة وبطولة معجبة ومنهج دقيق، إن الفضائل المتجسدة فى سيرة محمد عليه الصلاة والسلام جعلته شمسا لا يلحقها أفول، ومكنت الألوف من الأخذ عنه والاقتباس منه دون زحام.

وغريب أن تلتقى فى سيرة هذا الإنسان العالى أطراف متباعدة من شئون الناس فيؤديها كلها بدقة لا ترى فيها تفاوتا، إنه يعلم امرأة كيف تنقى بدنها، ويعلم رجلا كيف يرجل شعره، وفى الوقت نفسه يرسى العلاقات الدولية، ويخطط للحرب والسلام.

والسر فى ذلك أنه ترجمة عملية للقرآن الكريم، فهو مدد شعوره ولب تفكيره، وأساس سلوكه ونظام أخلاقه فى البيت والطريق والخلوة والجلوة والصداقة والخصام والقرب والبعد. كان العرب أفرادا مبعثرين لا يجمعهم شىء، وكان تركيبهم النفسى يستعصى على كل رباط، وقد قال الله فيهم: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم).

فما الذى حول الجزيرة الفوضوية إلى مستودع رتيب تخرج منه الجيوش موحدة الهوى والهدف؟ وتنساق إلى غاياتها مرصوصة الصفوف تحنى أصلابها فى الصلاة على تكبير واحد! وتتسابق إلى لقاء الله بيقين واحد؟ إن صاحب الرسالة العظمى بكتابه الكريم هو الذى أتم هذا الإعجاز.

بدأت المسيرة بنفر يعدون على الأصابع، وها هم أولاء فى يوم عرفة يبلغون عشرين ومائة ألف.. يستعدون لإصلاح العالم بعدما أصلحوا بلادهم، ويحسون أن رحلة جديدة توشك أن تبدو فى تاريخهم وهم ينصتون فى خشوع وأدب للوحى الإلهى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).

علل_وأدوية


: الأوسمة



السابق
كيف نتعامل مع القرآن

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع