ميراث الأرض .. لمن ؟
الشيخ / محمد الغزالى
جاء فى القرآن الكريم هذا الحكم الحاسم : (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) . ما معنى وراثة الأرض ؟ ومن هم العباد الصالحون ؟
من تتبُّع الآيات المشابهة فى القرآن الكريم نجد أن هناك معنيين لوراثة الأرض : الأول ـ وهو الشائع بين العابدين ـ يتصل بالدار الآخرة ، أي أن العراك الرهيب فى هذه الدنيا ، والميدان المليء بالانتصارات والانكسارات والصاعدين والهابطين والمكثرين والمقلين والظالمين والمظلومين سينتهي حتما لمصلحة الأخيار من الناس فهم الذين يضعون أيديهم على مصيرها ، وتقر أعينهم بما أسلفوا فيها .
وفي هذا يقول الله تبارك اسمه ، واصفاً ما يدور على ألسنة المؤمنين بعد هذه النهاية (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين) .
الرواية إذن ليست هزلية كما يقول أحد الكتاب الأوربيين لجلسائه وهو يُحتضر ويرسل آخر أنفاسه في هذه الدنيا : أسدلوا الستارة فقد انتهت المهزلة .
إن الستار يسدل على فصل ليزاح عن فصل آخر أخطر وأبقى! وقصة الحياة ليست تمثيلية مضحكة أو مبكية . (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ، فتعالى الله الملك الحق...). الأمر جدٌّ لا هزل ، والظالم الضاحك هنا سوف يبكي طويلاً ، والمضطهد المرميّ وراء الأسوار سوف يتقدم كثيراً ، والمستقبل البعيد للخير لا للشر...
وهناك معنى آخر لوراثة الأرض نريد أن نتريث عنده طويلاً .. نجده في قوله سبحانه عن بني إسرائيل في صراعهم مع الفراعنة ، وبعد محنتهم باستئصال الذكور، واستبقاء النساء (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ..).
وظاهر أن هذا الصراع بين الحق والباطل طال أمده ، لقد بقي عشرات السنين التي لاقى المستضعفون خلالها عنتاً هائلاً ، وتحملوا تضحيات ثقيلة ، ولكنهم صبروا. وكأن هذا الصبر كان النار التي اشتعلت في كيانهم لينضجوا ويصلحوا لميراث الأرض.
ومع أن عقيدة التوحيد أجدر بالنصر أول يوم عندما تشتبك بالاستبداد الفردي وادعاء بشر للألوهية ـ إلا أن حملة العقيدة لا يكتب لهم الفوز حتى يبلغوا مستوى معيناً من الكمال الشخصي والرقي الاجتماعي والقدرة على إسداء الخير العام .
قد تسأل : من أين أتيت هذه الشروط التي ذكرتها ؟ والجواب : من وصف الله للحق وأهله والباطل وأهله فى آيات أخرى تفسِّر المجمل هنا ، والقرآن يفسّر بعضه بعضاً..
إن القرآن الكريم يجعل الخاصة الأولى للحق أنه ينفع الناس مادياً وأدبياً ، وتسعد به الجماهير في عاجل أمرها وآجله . وقد يعلو الباطل ولا قيمة لعلوه فالغثاء الرخيص قد يكسو سطح الماء ، والجيف الميتة قد تطفو فوق التيار، ولا قيمة لهذا ولا لذاك ، تدبر قوله تعالى (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) .
والأنفع للناس هو العدل سياسياً كان أو اجتماعياً ، والشورى ولو بين أفراد الأسرة الواحدة ، والنظام الشامل لا الفوضى السائدة ، والحرية التي تكتمل في جوها العقول ، وتنضج الملكات ، وتمحص الآراء ، والتعارف لا التناكر، والتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وإتاحة الفرص للفطر السليمة والمواهب الرفيعة أن تتفتح وتبدع...
إن حملة العقائد الجديرين بالنصر ليسوا قطاع طريق ورجال عصابات ، إنهم طلائع المعرفة وأشعة اليقين وأصحاب الأخلاق الزاكية والأنفاس الطاهرة ، إنهم ـ بإيجازـ صانعو النهضات الحقيقية ، وأخلاق النبيين التقاة وقادة الفكر الواعي والسلوك المجدي..
هؤلاء هم الصالحون الجديرون بالسيادة في الدنيا...
إن الله لم ينصر العرب قديما لأنه حابى جنساً على جنس ولكن لأن عدل عمر أنفع للإنسانية من جبروت كسرى ، وضوابط الوحي عند الصحابة الأولين أفضل للناس من تحريف أهل الكتاب...
والصدق أثقل في الميزان من الكذب ، عندما يكون الصدق سمة جيل يتحرك به ويموت في سبيله ، لا عندما يكون خطباً رنانة وصحائف مزوّقة...!!
إن انتصار العرب على الفرس والرومان يعني انتصار حضارة متفوقة على حضارات تعفنت ووجب دفنها . لا محاباة هنالك ، وإنما هو اطراد السنن الكونية التي وضعها الله للمجتمع البشري قديما وحديثاً... وطبقت بصرامة في الأنبياء والصديقين كما طبقت على العتاة والمفسدين ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) .
ونسأل مرة أخرى : هل الصلاح الذي تعنيه الآية (..أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) هل هو قدرة على الصلاة والصيام وعجز عن الجهاد وعن صنع آلاته التي يحيا الإيمان في ظلها ؟ هل هو رغبة فى الطعام وعجز عن إحياء الموات وتكثير النبات؟
لننظر هذه المرة إلى العبد الصالح الذي أنزل عليه الزبور كما أنزل الذكر على نبينا ، لننظر إلى داود ، ولنر عناصر صلاحيته! يقول الله فى داود : (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير .. ) كان الرجل العابد يتغنى بأمجاد الله ويسبح بحمده ، وكانت العاطفة الحارة تشيع فى غنائه فيهبط لها الطير، وتتردد أصداؤها فى الجبال .
فهل اكتفى بهذه الروحانية ؟ كلا لقد ضمَّ إليها مهارة صناعية عظيمة ، ووجّهَةُ الوحي إلى إجادة الصناعة التي لانت له ، وإحكام نسج الدروع التي كانت قديماً من أدوات القتال . .
فماذا بعد الغناء بعظمة الله، وصنع الأسلحة للدفاع عن دينه؟.
وصفه القرآن بأنه كان صاحب توبة ، وصاحب دولة ، وأرشده إلى أن يحكم بين الناس بالحق ، وألا يتبع الهوى كما بشره بحسن المآب لسرعة استغفاره ، وحسن سجوده.. عناصر الصلاح هنا تجمع اكتمالاً نفسياً وصناعياً وسياسياً أي عناصر حضارة مؤمنة لا يجوز أن تنساها الأمم ، ذكرت في الزبور الذي استمع له بنو إسرائيل قديما كما ذكرت في القرآن الكريم الذي نهض به العرب وساروا...
والمعروف من بدء الخليقة أن الإنسان أوتي علما عجزت عن مثله الملائكة ، وأن هذه النشأة العلمية هي المهاد الأول لحركته الذكية في البر والبحر ـ والجو ـ وكل ما كُلِّف الإنسان به ـ بعد هذا التمكين ـ أن يعرف : من سواه ؟ ومن فضله ؟ من صاحب هذا الكون الكبير ؟ وما حقوقه ؟ .
فلا يجوز له بعد هذه المقدمات البيّنة أن يزعم للكون رباً آخر يتوجه إليه ، ولا يجوز له أن يحيا متمرداً على المنهج الذي خطه له ! وإنها لخسَّة محقورة أن يجحد المرء أصل وجوده وولي نعمته ، وأن يعيش وفق منهج آخر يخطه هو لنفسه أو يخطه شيء آخر ! هذا هو الشرك المرفوض (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ، ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) .
والمطلوب من الإنسان ألا يدع عقله مطية لهواه ، وألا يجعل خصائصه الأدبية الرفيعة طيعة لغرائزه الدنيا ، ولأثرته الخاصة، فإنه إن فعل ذلك أهلك نفسه ومن معه على سواء..
فالإنسان الصالح ليس صاحب العقل الكبير فقط ، بل ينبغي أن يكون كذلك صاحب قلب سليم وضمير يقظان وقدرة على كبح نفسه وامتلاك رغبته .
الغزو الثقافي يمتد في فراغنا