إطلالة القمر.. ومسيرة الاجتهاد وتحقيق النظر في وداع "الدكتور عبد الوهاب الديلمي"
بقلم: عامر الخميسي – عضو الاتحاد
فارق دنيانا العالم الرباني والكوكب اليماني العلامة الدكتور عبد الوهاب الديلمي صاحب المناقب العديدة، والآثار الحميدة، من شهد الناس بفضله، والمصاب به مصابٌ جلل
النّار في ضرمٍ والدمع منهملُ ** لعظم خطب له الأحزانُ تتصلُ
مصيبةٌ عَظمت حتى لقد صدعت ** قلبَ اللبيب فأضحى وهو منذهلُ
في أول شهر عشته طالبا في الجامعة لا أنسى وقت طلوعه علينا كالقمر ليلة البدر، كنا قريبا من ألف ٍ وخمسمائة طالب والقاعة تضج بالحديث والأنس، وفجأة وفي غضون ثوانٍ معدودة سكتَ الكل حتى كأنٍّ على رؤوسهم الطير..
هزني المشهد وعلاني الوجوم إذ ما سبب سكوتهم المفاجئ؟
هل حصل شيء؟
وكيف يسكتون في لحظة واحدة وإسكاتهم يحتاج ما لا يقل عن أربع دقائق أو خمس؟
وأنا أتساءل لأني ما رأيته حين دخل علينا لانشغالي بمحادثة زميل وفجأة ألتفِت فإذا هو مستوٍ على كرسي الدرس وطلعته بهية، وصورته مشرقة رضية ولأول مرة أراه وأرى العلم مجسدا في صورة إنسان .. بعد الدرس قدّر الله لي أن أسأل أحد المقربين منه متى يبدأ جدول الشيخ..
فأجابني: قبل الفجر بساعتين.
كان في عبادته آية واستمر على ذلك إلى أن دخل العناية المركزة.
إنه من بقايا العباد الأولين، ونفحة زاكية من نفحات الأبرار السابقين، وفلةٌ من فلتات زمنِ الغابرين.
اشتغل الراحل بطلب العلم من صغره ورحل إليه، فأخذ عن الأفاضل حتى صار من ذوي الفضائل، هرعت إليه المناصب وأجلسته على أفخم المراتب فما اغتر بها ولا فُتِن، بل بقي هو العالم الرباني الأوّاه، العابد الناسك، الرافض للدنيا لحطامها تارك، كان رحمه الله ممن يشار إليهم بالبنان فكان إذا تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن تحدث في الفقه فهو مدرك غايته، كان يحضر دروسه الجمُّ الغفير يستقون من هطّال وبله، ويتزودن من أدبه ونُبله،،
عمدة الأكابر وشرف ذوي المفاخر ، علا قدره، وارتفع ذكره، تحلى بأثواب الجمال، وتكلم بلسان العرفان بأجمل بيان وأنصع تبيان، عاش رمزا لأهل الصلاح والتوفيق والنجاح، ترقى في فهم علوم الشريعة حتى أشير إليه بالانفراد، واعتمد عليه في فهم المراد، وهو ممن كان يستشار في النوازل والمهمات، والمسائل المعضلات، وكثيرا ما كنتُ أسمع شيخنا القاضي العمراني مفتي القطر اليماني إذا سئل في النوازل وغوامض المسائل يقول اذهبوا للديلمي؟
كيف تسألوني وعندكم الديلمي؟
كان من أجلّ مشايخه والده العلامة لطف الديلمي إذ كان من علماء الزيدية الكبار والقلائل الذين اعتنقوا الدليل وحاربوا التقليد فوالده ممن أحيا الله بهم مراسم السنة بعد اندثارها، وأوضح بهم معالم الطريقة بعد خفاء آثارها، وقد حرص على تنشئته التنشئة الصالحة فأتقن القرآن على يديه وأخذ عنه متونا عدة في النحو والأصول حتى بلغ المأمول، ثم حثه على السفر إلى صنعاء وفيها تفتقت قريحته وبدت عليه النجابة والذكاء، ثم طار بعدها إلى الأزهر فأزهر فهمه، ثم إلى الحجاز فحصل فيها على البكالريوس والماجستير والدكتوراة بامتياز..
بعد عودته من بلاد الحرمين أضحت له منزلة تود النجوم الثوابت نيل علاها، وطلعة محيا يتمنى البدر الوصول إلى سماها، وأصبحت فوائده كالزهر اليانع، وحديثه كأقراط المسامع، تشرفت اليمن بوجوده، وابتسم ثغر صنعاء لمطالع سعوده..
هذا العالم الحبر المتفنن في علوم الشريعة يعجبك فيه الأدب الباهر والجواب الحاضر والمذهب المستقيم الطاهر..
كانت طلعته كطلعة البدر المشرق، ونفحته كنفحة الروض المورق، فارق أهله وقومه وعشيرته، وخالفهم في اجتهاده لأن معه الدليل فأحبه أهل اليمن، جليل قدرٍ نبتت في عراصِ ساحهِ نبعات المحامد، ولطيف شمائل يمضي على نهج الأمجاد..
تولى الإدارة في جامعة الإيمان فكان نعم المدير، ثم تولى "رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فرع اليمن" فكان نعم العالم الكبير المجتهد، وتولى منصب رئيس الرقابة الشرعية على أكثر البنوك اليمنية فكان نعم المراقب، كان برلمانيا، وتولى منصب وزير العدل فما جامل ولا داهن ولا لان..
درّس التفسير والفقه والعقيدة لآلاف الطلاب في كثير من جامعات اليمن وأشرف على كثير من الرسائل العلمية فكان نعم العالم المحقق، والمجتهد المدقق، مع بلاغة وفصاحة، وكرم وسماحة، شغف بالعلوم من صغره حتى أصبحت في ذاكرته وعلى لسانه، وشهد له علم التفسير أنه روضة بيانه، كان صاحب علم وعمل، لا يعرف في عبادته ولا تدريسه السآمة ولا الملل..
كانت مجالسه في التفسير أحلى من العسل وأعذب، ومجالس فقهه أوسع من البحر وأرحب، إمام متجرّد وما أوصله إلى أعلى المقامات إلا تجرده للحق، واتباعه للدليل، فقد جدد اتّباع النص وأعاده، وملأ من اقتفاء الأثر قلبه وفؤاده..
كان كالبدر الذي أزاح عن كثير من المعاني النقاب، والعالم المتضلع الذي يسير كالبحر العباب.. عمدة العلماء ومرجع السادة الفضلاء..
يصدق عليه قول الشاعر:
للعلمِ عشتَ فكنت نبراسَ الهدى ** وإلى القلوب تغور منك عظاتُ
تمشي بكل تواضع وسكينةٍ ** وبك ارتقت فوق السُّها راياتُ
لم تخش إلا الله جل جلالهُ ** فلأنت فيك من الصِّحابِ صفاتُ
كان علَما يمضي قدما على نهج كبار علماء اليمن الميامين المغاوير، من أمثال المقبلي والجلال وابن الأمير، وقد أضحى أجلّ علمائنا جاها ومنزلة وقدرا، فهو علم شريف، ذو مجد منيف، وظل وريف، وصل إلى سلم المعالي فقطف أزهار العوالي..
عانى كما عانى غيره من علماء اليمن الكبار من قومهم تضييقا وحصارا ومطاردة وتهجيرا وتشريدا فهو رائد علم التفسير في اليمن وصاحب المكانة والرفعة إلا أنه دفع ثمن اجتهاداته من أول يوم تولى فيه منصب وزارة العدل حيث أدخل معهد القضاء أكثر من 700 طالب من عموم اليمن بعد أن كان المعهد حكرا على الإمامية وصولا إلى مخالفته الأعراف والعوائد التي ما أنزل الله بها من سلطان حيث اتهم من عشيرته بنشر السنة وصولا إلى تأليف الكتب ضده واتهامه بالفتاوى المحرضة وممن ناصبه العداء أخوه أحمد بن لطف الديلمي الذي ألف كتابه " الزيدية بين محب غال، ومبغض قالٍ" ليتفرغ فضيلة العلامة الراحل بالرد على أخيه بكتابه العظيم" جناية أدعياء الزيدية" ليقتحموا بيته ويشردوا به وأهله، فيموت اليوم في المنفى{وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد}.
كان آخر مؤلفاته كتابه هذا المذكور "جناية أدعياء الزيدية" وفي كتابه هذا أظهر قوة أتباعه للحق وانصياعه للدليل، وعلو كعبه في التحقيق وأسلوبه المتين في الرد، وقد اتخذ منهج الإنصاف لا التعصب والاعتساف، فأسكت كل متعصب، وألجم كل متشدد..
إن شأنه شأن ابن الوزير صاحب العواصم والقواصم وكتاب إيثار الحق على الخلق أعلم أهل زمانه بل ما أنجبت اليمن مثله كما ذكر ذلك الشوكاني إذ ناصبه أهل بلده العداء وقاموا بالتهجم عليه والطعن فيه والتضييق عليه لا لشيء!! إلا لأنه "ذبّ عن السنة ودفع عن أعراض أكابر العلماء وأفاضل الأمة، وناضل أهل البدع, ونشر علم الحديث, وسائر العلوم الشرعية في أرض لم يألف أهلها ذلك, لا سيما في تلك الأيام" ووصل به الحال أن يعتكف ويعتزل الناس في رأس جبل..
ومثله مثل العلامة المقبلي أعلم أهل اليمن بالسنة في زمانه مؤلف الأرواح النوافح، ومؤلف العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ" فقد تعرض لإيذاء وكيد شديدين من المقلدين والمتعصبين في اليمن، فصبر واحتسب، وواصل جهاده في الإصلاح والتغيير بحسب استطاعته دون أن يعبأ بما لحق به ومن شدة ما لحقه من الإيذاء هجر بلده ومات بعيدا عن وطنه بعد أن استقر به المقام في مكة..
وشأنه شأن ابن الأمير الصنعاني الطود الباذخ، والعلم الراسخ الذي برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، ورفع راية الاجتهاد وقد قيّضه الله لدرء مفاسد مذهب الزيدية وكان من أكابر أهل السنة، ولم يألُ جهدًا في الرد عليهم وهدم أركان مذهبهم أصولاً وفروعًا.
وقد خالفهم في عشرات المسائل وترتب على ذلك أن أخرجوه من اليمن وخربوا داره وآذوه كل الإيذاء..
كان الكتاب الذي درَسَه الراحل مرارا على والده سبل السلام لابن الأمير متأثرا به تأثرا شديدا فهو أول كتاب فتح عينه عليه زمن الصبا وكان آخر كتاب درّسه وهو قد جاوز السبعين من عمره في مسجد عمر بن عبدالعزيز بجوار بيته وبهذا تعرف حبه لاتباع الأثر وثورته على التقليد فكان المُختتم كالمُبتدأ..
لم يقدّر الله لي أن أتلقى عنه إلا تلك المحاضرة اليتيمة ولم آخذ عنه إلا ذلك الدرس الوحيد لكن بقيت كلماته ترنّ في أذني لكأنما هي الساعة، وبقيت إطلالاته محفوظة على طابع مخيلتي لا تغيب ولا يمكن أن تُمحى أبدا إنها إطلالة جمال العلم والفكر والإنسان..
إطلالة القمر الذي استوى في تمّه، وقد كان الدكتور الديلمي كذلك فمن مثله في علمه وورعه وحسن سمته وكمال أدبه ولو طلب مني أن أصف تلك الإطلالة ما استطعت وصفها لرونق جمالها، وروعة جلالها..
لقد كان قمرا بين العلماء يسري نوره فيهتدي به الحيران، ويمضي على إثره السالك وهكذا هم العلماء الربانيون أصحاب العزيمة والهمة من يبينون الحق للأمة..
إن فقد هذا العالم الجليل، والمجتهد النبيل يمثل داهية عظمى وفاقرة كبرى حالنا لفراقه:
ما كنتُ أعلمُ والحوادثُ جمة ** والناس فيهم عالم وجهولُ
أن الدّجى لبس الحداد لفقده ** ومصابه حزنا وذاك قليلُ
أو أنّ صوبَ المزنِ حين هما على ** عقر الثرى دمع عليه يسيلُ
اللهم ارفع درجته في عليين، واخلفه في عقبه في الغابرين
اللهم اجمعنا به في الفردوس الأعلى يا أرحم الراحمين
اللهم إنه أحوج ما يكون إلى رحمتك وعفوك ومغفرتك وإحسانك فآته من ذلك أوفر الحظ والنصيب يا قريب يا مجيب..