صبغ الإدارة الزنكية بالصبغة الإسلامية وتكامل القيادات السياسية والفكرية:
بقلم: الدكتور علي محمد الصلابي
حرصت القيادات السياسية والإدارية والعسكرية على العموم بالتزامها العقائدي في نشاطاتها وممارساتها والسبب في ذلك يعود إلى تربيتها الإسلامية وإلى شخصية نور الدين فقد كان نور الدين زنكي تقياً ورعاً ، وعده بعض المؤرخين بأنه أفضل من جاء بعد عمر بن عبد العزيز من الحكَّام وكان يحافظ على صلاة الجماعة ، ويكثر من الصلاة في الليل إلى وقت السحر إلى أن يركب.
وكان محدِّثاً بعلم الحديث ، وأسمعه ، وأجمعه له! وكان حنفي المذهب ، عارفاً بمذهب أبي حنيفة ، ولكن دون تعصُّبٍ على أحد ، فالمذاهب عنده سواء ، ولا تعدو عن كونها مدارس في الفقه.
نور الدين ذو تأثير كبير على رجاله ، ومعاونيه ، وقادة جيشه ، وأصبح بعضهم على مستوى نور الدين في العلم والأخلاق والتديُّن ، ومن أمثلة ذلك وزيره أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري ، الذي قَدِمَ من بغداد إلى دمشق ، فقد كان فقيهاً أصوليّاً ، شَغَلَ مناصب مختلفة ، كالسَّفارة ، والوزارة ، وناظرٍ للأوقاف ، وناظرٍ للمالية ، والقضاء ، واستمرَّ على ذلك حتى قيادة صلاح الدين.
ولم تكن هذه الشخصيات إلا نماذج لرجال الإدارة والحكم من نور الدين. فقد أظهر هذا الرعيل من المهارات في التخطيط والتنفيذ ، وحشد مقدرات الأمة ، وتنظيمها ما هيأها لمجابهة التحديات في الداخل ، والخارج. ومن أمثلة هذه المهارات ، والمزايا ما يلي:
1 ـ تكامل القيادات الفكرية والسياسية: فقد أدركت هذه القيادات خطورة الارتجال ، أو انفراد فريق من القيادات دون الآخر ، واعتمدت في القرارات التي تتخذها على آراء العلماء والمختصِّين ، فكان لدى نور الدين مجلسٌ دوريٌّ يلتقي فيه القادة، والعسكريون مع العلماء المختصين، حيث يحتلَّ العلماء المنزلة الأولى فيه. وكان نور الدين يمنع الأمراء من اغتياب العلماء ، وقد مرَّ ذلك في قصة أحد الأمراء مع قطب الدين النيسابوري ، ودفاع نور الدين عنه.
2 ـ اعتماد الشورى وعدم الانفراد باتخاذ القرارات: فقد تميَّزت إدارة نور الدين ، بالشورى ، وتبادل الآراء في كل أمور الدولة ، فكان له مجلس فقهاء ، يتألف من ممثلي سائر المذاهب ، والصوفيّة ، يبحث في أمور الإدارة والميزانية ، فإذا بحث أمراً يخص الأمة جميعها ، أو كان ذا علاقة بالأموال المرصودة لصالح المسلمين؛ جمع أعضاء هذا المجلس ، وشاورهم فيه ، وسأل كل عضو ما عنده من الفقه ، ولا يتعدى الرأي الذي يُتفق عليه ، ما دام يحقق المصلحة العامة. وقد مرَّ بعض الممارسات الشوريّة في حديثنا عن الشورى في عهد نور الدين زنكي.
3 ـ غلبة المصلحة العامة على الانفعالات والمصالح الشخصية في معالجة المشكلات التي قد تثور بين الأقران ، فلقد كان من الطبيعي أن تقوم مشكلات وخلافات بين نور الدين ـ مثلاً ـ ووزرائه وقادته ، لكنهم كانوا يعالجون هذه المشكلات بأسلوب لم يخرج يوماً عن حدود المصلحة العامة ، وما تقتضيه وحدة الكلمة ، وتغليب الأخلاق الإسلامية.
4 ـ التفاني في أداء الواجب بتعاون وتاخٍ: ومن طريف ما لاحظه الدكتور حسين مؤنس عند هذا الزعيم من القادة والإداريين والعلماء قوله: (إن تعلُّقهم بالدين جعلهم يتخيَّرون أسماءهم على نحو يتفق مع هذه النزعة ، فبينما كان البويهيون ينسبون أنفسهم للدولة ، فيقولون: عضد الدولة ، بهاء الدولة ، صمصام الدولة ، وكان قادة هذه الدولة ، وأعوانهم والعاملون معهم يختارون عماد الدين ، وسيف الدين ، ونور الدين ، وصلاح الدين ، وأسد الدين ، ونجم الدين ، وزين الدين ، وهكذا.
وثمة ملاحظة أخرى ، وهي تعلُّق هذا الجيل بالدين مما جعلهم يحرصون على الجهاد ، والاستشهاد ، فإذا لم يكتب لهم الاستشهاد؛ أوصوا بدفنهم في مدافن المدينة المنورة ، كما فعل الوزير جمال الدين الموصلي ، وأسد الدين شيركوه ، وأخوه نجم الدين والد صلاح الدين.
5 ـ الزهد والتعفف وبذل المال في الصالح العام: تجلَّت اثار التربية الإِسلامية في مواقف رجال الدولة ، والإدارة والجيش من الثروات ، والسياسة الاقتصادية ، فقد زهدوا بالمكاسب ، وعزفوا عن الاحتكار ، والترف.
وحذا حذوهم الأغنياء في المدن والقرى ، فقد كان نور الدين زنكي مقتصداً في الإنفاق على نفسه ، وعلى أسرته ، وكان لا يكنز ، ولا يستأثر الدنيا ، ولم يكن له بيت يسكنه ، وإنما كان مقامه في قلعة البلد ، الذي يحل فيه ، وكانت نفقته في الشهر مئة وخمسين درهماً ، يأخذها من دكاكين كانت له في مدينة حمص ، حيث اشتراها من حصته من الغنائم ، ولقد شكت له زوجته يوماً قلة نفقاتها ، وأرسلت له أخاها في الرضاع تطلب زيادة ، فقال: (من أين أعطيها ما يكفيها؟ والله لا أخوض في نار جهنم في هواها. إن كانت تظن: أنَّ الذي بيدي من الأموال هي لي؛ فبئس الظن ، إنما هي أموال المسلمين مرصدة لصالحهم وأنا خازنها ، فلا أخونهم فيها! ثم قال: لي بمدينة حمص ثلاث دكاكين اشتريتها من الغنائم ، فقد وهبتها إياها ، فلتأخذها).
وكان نور الدين صاحب مهنةٍ ، يخيط الكوافي ، ويعمل سكاكر للأبواب ، ويعطيها لبعض العجائز ، فتبيعها ولا يدري به أحد ومع ذلك فقد شهدت دولته تقدُّماً اقتصادياً سيأتي بيانه بإذن الله.
وقادة الجيش ، من ذلك أسد الدين شيركوه أكبر قادته العسكريين ، فقد كان يملك أراضٍ واسعة أنفق مواردها في بناء المدارس ، التي تنشر الفكر الإسلامي ، وحين مات لم يخلف إلا دنانير قليلة.
وكذلك فعل وزير نور الدين ، أبو الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري ، الذي أوقف أوقافاً كثيرة ، منها: مدرسة الموصل ، ومدرسة نصيبين ، ورباطٌ في المدينة المنورة ، وأوقف أوقافاً في قرية «الهامة» على المقادسة ، الذين نزحوا من وجه الاحتلال الصليبي ، وكان كثير التبرع ، والهبات ، ولا تقل هبته في المرة الواحدة عن ألف دينار فما فوقها.
وكذلك فعل عبد الله بن عصرون؛ حيث بنى مدرستين في دمشق، وحلب، وكذلك فعل نجم الدين يوسف والد صلاح الدين؛ حيث بنى خانقاه تُعرف بالنجمية.
وعلى هذا المنهاج سار بقية رجال الحكم والإدارة ، وحذت حذوهم نساؤهم. من ذلك ما فعلته الست خاتون عصمت الدين زوجة نور الدين ، حيث أوقفت «الخاتونية» بمحلة حجر الذهب ، وخانقاه خاتون باب النصر ، وأوقافاً كثيرة أخرى ، ومثلها زمرد خاتون بنت جاولي.
6 ـ توفر الأمن والعدل واحترام الحرمات العامة: تواترت لدى المؤرخين الـمعـاصرين أخبـار الأمن ، والعدل ، واحترام الحرمـات العامـة ، كحريـة الـرأي المنضبطة ، والمحافظة على كرامة الفرد التي سادت في ذلك المجتمع في الوقت الذي انتفت جميعها في الأقطار الإسلامية المجاورة ، ولقد علَّق ابن الأثير على ذلك ، فقال: (قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين من قبل الإسلام إلى يومنا هذا ، فلم أر فيه بعد الخلفاء الراشدين ، وعمر بن عبد العزيز ملكاً أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين ، ولا أكثر تحرِّياً للعدل والإنصاف منه. قد قصر ليله ونهاره على عدلٍ ينشره ، وجهادٍ يتجهَّز له ، ومظلمة يزيلها ، وعبادة يقوم بها ، وإحسان يوليه ، وإنعام يسديه ، فلو كان في أمة؛ لافتخرت به فكيف في بيت واحد).
وإلى جانب ذلك امتازت الأجواء العامة بحرية الرأي ، فكان كل إنسان يقول رأيه دون خوف من التعرُّض للأذى ، أو الانتقاد ، حتى لو كان النقد موجّهاً لنور الدين ، بالرغم من استعمال البعض لأساليب قاسية محرجة.
ولقد أورد المؤرخون الإسلاميون أمثلة عديدة لمواقف نور الدين التي تكشف عن أنه كان يتقبَّل النقد بصدر رحب ، مهما بلغت حدته ، وينظر في كلام الناقدين ، فإذا رأى فيه ما ينفع؛ سارع إلى الأخذ به ، وقد مرَّ معنا كلام الواعظ أبي عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي ، وكيف تناول موضوع الضرائب والمكوس في حضور نور الدين نفسه ، فحذَّرَه ، وخوفه مما هو فيه ، وأنشد أمامه أبيات من الشعر ، مرّ ذكرها.
إنَّ التخطيط السليم ، والإدارة الناجحة في الحركات الإسلامية ، والدول ، من الأسباب الأكيدة في التمكين لدين الله تعالى ، ولقد عرَّف بعض الباحثين التخطيط بأنه: (جسر الحاضر ، والمستقبل). إن التخطيط في المفهوم القراني ، هو الاستعداد في الحاضر، لما يواجه الإنسان عمله، أو حياته في المستقبل، وعلى هذا فإن الإداري المسلم ، يكون قد عرف التخطيط؛ لأن الله تبارك وتعالى قد وجه إلى ذلك في آيات كثيرة. قال تعالى: ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ ﴾ [القصص:77] . إنه توجيه رباني للتخطيط في هذه الدنيا لمقابلة مصير الآخرة.
إن نور الدين محمود رجل عاش مع كتاب الله ، وعرف من قصة يُوسف وغيرها ، أهمية التخطيط والإدارة، ولذلك نجحت إدارته، فقد أدرك الملك العادل: أن الإسلام لا يقوم على التخمين ، والتواكل ، ولكنه يهتم بأدق الأساليب وأعمقها ، سواء في جوانب الاقتصاد ، أو السياسة ، أو غيرها ، فقد عرف: أنَّ من ثمار حسن إدارة يوسف عليه السلام ، وتخطيطه أن حفظ الشعب من الهلاك والجوع ، وخرج من الشدائد ، وعاد إلى الرخاء ، والتخطيط يعتبر وظيفة أساسيّة من وظائف الإدارة ، التي لا يمكن لها أن تكون فعالة بدونها ، كما أن التخطيط في حقيقته يعتمد على دعامتين ، وخمسة عناصر.
أما الدعامتان؛ فهما التنبؤ، والأهداف، وأما العناصر؛ فهي السياسات، والوسائل والأدوات ، والموارد البشرية ، والإجراءات ، والبرامج الزمنية ، والموازنة التخطيطية التقديرية.
إن كتب علم الإدارة والتخطيط الحديث تقول: (إنه لا إدارة فعَّالة إلا بتنظيم ووفق تخطيط سليم مسبق) ، وهذا عين الذي زاوله الملك العادل نور الدين محمود الشهيد ، لقد جاء إلى الحكم يوم جاء وبرنامجه الإصلاحي السياسي ، والجهادي ، الاقتصادي ، والاجتماعي ، والثقافي ، والتربوي ، والإعلامي ، كلُّ ذلك في ذهنه قد أُعِدَّ إعداداً كافياً) ، وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله تعالى ، إنَّ الاهتمام بالفكر الإسلامي وأصوله وقواعده وفق التصور الإسلامي الصحيح من الأسباب المهمة التي مارسها نور الدين محمود ، وساعدته على إنجاح مشروعه النهضوي الكبير.
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، ص 233-236
ابو شامة شهاب الدين المقدسي، عيون الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية، 1 / 364).
علي محمد الصلابي، فقه النصر والتمكين في القران الكريم ص 277.
أحمد نوفل، سورة يوسف دراسة تحليلية ص 415 ، 416.