المحن والشدائد تختبر المعدن
بقلم: محمد وثيق الندوي
إن المحن والشدائد التي يجتازها الإنسان اليوم في العالم بجراء الوباء الفتاك المتفشي في العالم”جائحة كورونا (كوفيد 19المستجد)، تبعث على القلق والهم، وتسوق الذين يحملون حساسية وانفعالاً زائدًا إلى الشعور بخيبة الأمل والانهزامية، فيفقدون أعصابهم، ويأخذهم اليأس والقنوط، وهو أمر طبيعي، لكن الذين لهم اطلاع على التاريخ يعرفون ما مرّ به الناس من محن وشدائد، وابتلاءات ومصائب، وأزمات ومآسي، تتضاءل أمامها المحنة الحاضرة.
وأما المسلمون فإن تاريخهم الطويل مملوء بالمحن والابتلاءات، إنهم مروا بأسوأ الأوضاع الوبائية، وأقسى الظروف، وأشد الأمراض فتكًا، وفي جانب آخر تاريخهم حافل بما أكرمهم الله به من عزة وكرامة وسيادة، وبما حدث في التاريخ الطويل من مؤامرات وخيانات، وما قام به القادة المخصلون والعلماء المصلحون من جهود للتغلب على الشدائد والأزمات، ومواجهة المؤامرات والدسائس، فخرجت الأمة والبشرية من محنها وشدائدها وأزماتها ومآسيها منتصرة.
إن الابتلاء والمحنة والتمحيص من السنن الربانية، قال عز وجل: ” الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ” (العنكبوت:1-3) وقال عزوجل:” أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ”(البقرة:214) وإن النصر الحقيقي لا يكون إلا من عند الله ” وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ” (آل عمران:126)وإنه للمؤمنين إذا وفوا بشرط الإيمان ” وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ” (الروم:47) وقال عزوجل:” إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ” (غافر:51)
وإن حياة الأمن والسلام والهدوء والسعادة لا تكون إلا في ظل الإيمان والتقوى والاستقامة على منهج الله وشريعته كما قال عزوجل: ” وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ "(الأعراف:96) وإن الإعراض عن شريعة الله وترك العمل بها، يؤدي بالأمة إلى مدارك الهلاك وضنك العيش في الحياة المادية منها والنفسية، قال عزوجل: ” وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى "(طه:124)
وإن ضنك العيش في الحياة الدنيا للمعرضين عن ذكر الله، واقع ملموس ومشاهد، فإن المعرضين عن ذكر الله يعيشون إما ضنكًا ماديًا في رزقهم، أو ضنكًا نفسيًّا شعوريًا، أو همًّا وقلقًا، لأن المعاصي والسيئات تكون شئومًا على أصحابها، وفسادًا في الأرض، قال عزوجل: ” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ” (الروم:41) وجاء في الحديث النبوي الشريف: "وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه” (رواه الإمام أحمد)
يقول الدكتور علي محمد الصلابي في كتابه” صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامي”:
"هذه أمثلة من السنن الربانية التي ذكرها القرآن، ولا يدركها إلا من قرأ القرآن وآمن به وصدَّقه، ثم بحث الإنسان في الواقع التاريخي للحياة البشرية يجد مصداق ذلك، فيزداد إيمانًا على إيمانه، ومعرفة وعلمًا بواقعه التاريخي الحاضر، ويجد القدرة على دراسة هذا الواقع دراسة تمكنه من اكتشاف الأخطاء ووصف العلاج اللازم لما أصيبت به البشرية من أمراض وانحرافات، حتى تتفادى الوقوع في الانحراف عن السنة الربانية، وتصيب من خيرها”.
إن الذين يقارنون الأوضاع الحاضرة بالأوضاع الماضية، تزيدهم هذه المعرفة إيماناً وتبعث هذه الأوضاع على العزم، وتزيد ثقة في سداد الإسلام، ويقيناً في أن النصر بيد الله، وأن العاقبة للمتقين، إن تعوَّدوا على التأمُّل والدراسة والمصابرة في مواجهة الشدائد، والمخاطرة في سبيل تحقيق الأهداف العليا، ولم تكن نشأتهم في البيئة المادية، ولا يثور الإحساس بالإحباط في نفوس من يدرس تاريخ الإسلام والمسلمين، ويعرف المراحل الصعبة التي مر بها المسلمون، والشدائد والابتلاءات التي مرّوا بها في تاريخهم الطويل.
ففي هذه الأوضاع التي نعيش فيها، ونشاهد العويل والصيحات ترتفع في كل مكان، ونسمع الآهات والأنينات تكدر صفو الحياة، والمقابر والمحارق مملوءة بجثث الموتى، والمستشفيات والمراكز الطبية عاجزة عن قبول المرضى وتوفير العلاج، وهي تعاني من نقص في الأوكسيجين والأدوية للمصابين بالوباء الفتاك، وهم يغيثون ولا يجدون من ينجيهم أو يغيثهم، فيموتون بلا رحمة، يجب أن توجه القوى إلى ما هو أنجع في المعالجة، وأنسب للوضع، كما يجب اللجوء إلى التدبير والتخطيط لمعالجة الأوضاع الوبائية، بالتشاور والتفاهم والوحدة، ودراسة طبيعة الأمور، واتخاذ سبل متكافئة لها.
ولا نترك اليأس والدهشة يتطرقان إلينا ويملكان علينا أعصابنا، بل علينا أن نستسلم لأمر الله تعالى ونرضى، ونصبر ونفهم البلاء، لأن المحن والابتلاءات اختبار لمعدن المؤمنين، وتنبيه للغافلين والمذنبين، وإنذار للعصاة والطغاة، فإنهم يستحقون عقوبة الله بإصرارهم على عصيانهم وغيهم، وعدم المبادرة بالتوبة، وقد ورد في مواضع كثيرة من الحديث النبوي أن البلاء ينزل لأسباب كثيرة، منها: الاستخفاف بالذنوب والاستمرار في إتيانها، وأكل المحرّمات جهرًا، وظلم الناس وغمط حقوقهم والولوغ في أعراضهم، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، وتعيير المسلمين وإظهار الشماتة بهم، ونصرة المفسدين، واعتياد أكل الحرام، وانتهاك الحرمات.
فنحتاج إلى أن نصحح مسار حياتنا، أو نطوّر حياتنا ونجدِّد بتوبة نصوح، وعودة صادقة إلى الله رب العالمين، قال الشيخ أسامة الأزهري، مستشار رئيس جمهورية مصر للشؤون الدينية: "إن الابتلاءات المتتالية التي يتعرض لها الإنسان من الممكن أن تكون أمورًا قدرية بحتة مثل وفاة فرد من العائلة أو حدوث حادث”، وأضاف خلال لقائه مع الإعلامي رامي رضوان في برنامج "مساء dmc” المذاع على قناة DMC:” أننا نتعامل مع الأمور القدرية والابتلاءات بالصبر والرضا والسكينة وعدم الوقوع في دائرة انخفاض الروح المعنوية والدخول في مرحلة اليأس والإحباط”، قائلاً:” في وقت نزول الشدائد، على الفرد الاستكانة والتضرع إلى الله والاحتماء بالمولى من أقداره”، وقال: "إذا نبع الابتلاء من تقصير أو تفريط فيجب على الإنسان العودة إلى الله والتوبة وإعادة إصلاح أسلوب إدارة الحياة".