البحث

التفاصيل

مقام التعليم

الرابط المختصر :

     مقام التعليم

 د. عبد الكامل أوزال – عضو الاتحاد

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد في الأولين والآخرين، إمام المتقين، وخاتم النبيئين والمرسلين، والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 الحلقة السابعة من مقامات إيمانية:

التعليـــــــم:

ورد مقام التعليم في القرآن الكريم في سور كثيرة وفي سياقات مختلفة حسب الظروف والأسباب التي استوجبت تنزيلها من الله العزيز الحكيم. ويستفاد من مضمون هذا المقام في القرآن العظيم أن الله تعالى سن قانون التعليم باعتباره سبيلا من سبل الهداية أولا، ووسيلة من وسائل الانبعاث الرباني الرسالي الذي يخرج الأمة من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الضعف إلى القوة، ومن الذل والمهانة إلى العزة والمهابة. جاء في كتاب العين في مادة (علم): «علم يعلم علما نقيض جهل. ورجل علامة وعلام وعليم ... » . وعند الراغب الأصفهاني يختص التعليم «بما يكون بتكرير وتكثير حتى يحصل منه أثر في نفس المتعلم. قال بعضهم: التعليم تنبيه النفس لتصور المعاني، والتعلم تنبّه النفس لتصور ذلك ... فمن التعليم قوله: ﴿الرحمن علم القرآن﴾ الرحمن: 1، ﴿علم بالقلم﴾ العلق: 4. ﴿ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾ البقرة: 128، ونحو ذلك ... وقوله تعالى: ﴿والذين أوتوا العلم درجات﴾ المجادلة: 11، فتنبيه منه تعالى على تفاوت منازل العلوم وتفاوت أربابها» (. وعند ابن فارس في مادة (علم) «العين واللام والميم أصل صحيح واحد، يدل على أثر بالشيء يتميز به عن غيره. من ذلك العلامة والعلم: الراية والجمع أعلام ... وتعلمت الشيء إذا أخذت علمه» (. إن مصطلح مقام (التعليم) مأخوذ من مصطلح أعم وأشمل في القرآن الكريم وهو (العلم) الذي تعدّ منزلته عظيمة في الإسلام، لأنه من أهم العبادات وأعظمها التي يتقرّب بها العبد إلى الله عز وجل. يقول تعالى: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم﴾ العلق :1ـ5. ويقول تعالى أيضا:﴿الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان﴾ الرحمن: 1ـ2. ويقول عز وجل:﴿واتقوا الله ويعلِّمكم الله﴾ البقرة: 281. تشير هذه الآيات البينات إلى أن مصدر العلم هو الله جل علاه، وأنه سبحانه وتعالى تفضل على الإنسان بأن أخرجه من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم والمعرفة. وهذه نعمة عظيمة أنعم الله تعالى بها على الناس أجمعين، بدءا بتعليم الأنبياء عليهم السلام وعلى رأسهم نبينا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، حيث أرسلهم الحق سبحانه وتعالى لتعليم الناس الخير وإرشادهم إلى الطريق المستقيم، من خلال الرسالات التي كُلفوا بتبليغها إلى الناس. يقول تعالى: ﴿يأيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين﴾ المائدة: 69. ثم شاءت مشيئة الله أن تستمر هذه العملية التعليمية التعلمية بواسطة مجتمع الناس، فيتوارثونها أجيالا وقرونا عن طريق العلماء والمربين والمعلمين، والمتخصصين في مجالات علمية متنوعة ومتعددة. ولعل أشرفها وأعلاها مرتبة تعلم القرآن وتعليمه. يقول تعالى: ﴿الرحمن علم القرآن﴾ الرحمن: 1. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: «يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن، ويسر حفظه وفهمه على من رحمه». ويقول الإمام علاء الدين المعروف بالخازن في تفسيره: «إن الله عز وجل عدّ نعمه على عباده، فقدم أعظمها نعمة وأعلاها رتبة وهو القرآن العزيز، لأنه أعظم وحي الله إلى أنبيائه وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه، وأكثره ذكرا وأحسنه في أبواب الدين أثرا، وهو سنام الكتب السماوية المنزلة على أفضل البرية» 

يقول تعالى في محكم التنزيل: ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ الزمر:10، وفي الحديث الذي ورد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي قال: «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» (. وفي صحيح البخاري «قال حميد بن عبد الرحمن: سمعت معاوية خطيبا يقول: سمعت النبي يقول: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ـ الحديث» (. يتبين لنا من خلال هذه النصوص الشرعية فضل عمليتي التعليم والتعلم، وأن الله تعالى يرفع من ينخرط فيهما ويقوم بوظائفهما أحسن قيام ( ويتخلق بأخلاق العلم ويتحلى بالصفات الموجبة لذلك، لأنه «لا يتعلم إلا مِمّن كمُلت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت معرفته، واشتهرت صيانته، فقد قال محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرهما من السلف «هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم». ويستفاد من الدلالات التي يحملها مقام التعليم في الإسلام، عبر النصوص الشرعية التي استعرضناها آنفا، أن هذه العملية لا يمكن أن تتحقق إلا بواسطة تفاعل كافة عناصرها من معلم ومتعلم ومادة علمية. وهذا ما يسميه الباحثون في مجال التربية والتعليم بمنهج المدارسة والتدارس، «فالدراسة والتدارس .. هو تتبع صيغ العبارات ووجوه المعاني والدلالات للمقاصد والغايات، من كل آية وسورة، وتعلم ذلك كله ترتيلا وتفسيرا بما فيه ضبط ألفاظه وآياته وسوره، للتعرف على أسراره وحكمه. وذلك جماع ما كان يفعله جبريل عليه السلام مع رسول الله في ليالي رمضان» ( ويقتضي منهج المدارسة والتدارس في العملية التعليمية التعلمية تحقيق معنى الجلوس أو المجلس للفوز بالمكرمات الربانية التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم. فعن أبي هريرة رضية الله عنه قال: قال رسول الله : «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (. ومن هذا الحديث نستفيد أن التعلم الحقيقي لا يثمر ولا يجدي نفعا إلا بالتدارس والمدارسة التي تنجلي بها حقائق الأمور وتنفتح بها أسرار المعاني، فينتشر نورها الرباني، وتعم فائدتها جميع الخلق. لذلك أكد الإسلام على ضرورة نشر العلم والمعرفة وعدم تقييدهما أو حبسهما عند طائفة معينة، حتى تصبح متداولة ورائجة يستفيد منها الداني والقاصي. روى البخاري أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم ما يلي: «انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي ، ولتُفشوا العلم ولتجلسوا حتى يُعلَم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا» ( فبالإضافة إلى أهمية الجلوس في عمليتي التعليم والتعلم، تبرز كذلك أهمية نشر العلم وتبيانه للناس وتمكينهم من فوائده وثماره. يقول تعالى: ﴿وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبيِّنُنّه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبِئْس ما يشترون﴾ آل عمران: 187. ويقول تعالى أيضا: ﴿إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويتشرون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم﴾ البقرة: 173. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «من سُئِل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة». يستفاد من هذه النصوص الشرعية أهمية نشر العلم وعدم كتمانه والتستر عليه. وهذا مقصد أساسي من مقاصد مقام التعليم في القرآن الكريم. ولئن كان هذا المقام في القرآن الكريم ينطوي على هذا المعنى المتضمن في الآيات البينات وفي الأحاديث النبوية الشريفة، فإن أداته ووسيلته هي التبليغ، تبليغ رسالة الله تعالى إلى كافة الناس. تلك الرسالة التي بلّغها أنبياؤه، وعلى رأسهم رسولنا الكريم . يقول تعالى : ﴿الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا﴾ الأحزاب : 39. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية : ﴿الذين يبلغون رسالات الله﴾ أي إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها ﴿ويخشونه﴾ أي يخافونه ولا يخافون أحدا سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله تعالى».وعن زيد بن ثابت، قال: سمعت رسول الله يقول: « نضّر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه». إن التبليغ يعد أساسا راسخا في شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك يكتسي أهمية جسيمة في المنظومة التربوية للقرآن الكريم، لما له من أثر قوي في البناء والتكوين والإعمار للفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة بأسرها.

وهناك مقصد آخر بعيد الأثر من مقاصد مقام التعليم، ألا وهو عدم التصريح بكون العالِم عالِما، لأن هذا التصرّف يعتبر في الصميم مدْخلا من مداخل الشيطان الرجيم، فلا ينبغي للعالِم أن يقع في هاته المكيدة، فيصيبه الغرور الذي هو قبيحة من قبائح إبليس اللعين. فما دام العالِم يجتهد في عملية البحث والتكوين والتثقيف، ويداوم على هذا الحال ويتحقّق به ويتخلّق على أساس التقوى، دون مصلحة دنيوية أو سمعة أو رياء، فهو في وضع صحيّ ومعافى بإذن الله تعالى، فيرفع الله درجاته في سماء العلم والمعرفة والتعليم والتعلم. يقول تعالى: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ المجادلة: 11. جاء في الأثر عن نعيم بن حمّاد قال: (قال ابن المبارك: «لا يزال المرءُ عالِما ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علِم، فقد جهِل» ). وهذا هو دأب العلماء الربانيين الذين يداومون على الإصغاء بسمعهم وقلوبهم ساعين في ذلك للتزوّد بالزاد النافع في كلا الدارين. يقول أبو تمام الطائي:

وتراه يُصْغي لِلْحديث بسمْعِهِ وبقلْبِـهِ ولعلّـهُ أدْرى بهِ

وصلى الله وسلّم على نبينا محمّد في الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 


([1]) كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، الجزء الثالث، ص. 221.

([2]) معجم مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص. 356.

([3]) مقاييس اللغة، ابن فارس، الجزء الرابع، ص. 109 ـ 110.

([4]) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، الجزء السابع، ص. 375.

([5]) لباب التأويل في معاني التنزيل، لعلاء الدين الخازن، الجزء السادس، ص. 75.

([6]) صحيح البخاري، البخاري، الجزء الثالث، كتاب فضائل القرآن، باب : خيركم من تعلم القرآن وعلمه، ص. 1044.

([7]) صحيح البخاري، البخاري، الجزء الأول، كتاب العلم، باب : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين،   ص. 30.

([8]) مختصر منهاج القاصدين، أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، ص. ص. 8 ـ 10.

([9]) التبيان في آداب حملة القرآن، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ص. 39.

([10]) مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ص. 69.

([11]) رياض الصالحين، للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ص. 250.

([12]) صحيح البخاري، البخاري، الجزء الأول، كتاب العلم، باب : كيف يقبض العلم، ص. ص. 36 ـ 37.

([13]) سنن أبي داود، للإمام أبي سليمان بن الأشعت السجستاني، الجزء الخامس، ص. 500.

([14]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، الجزء السادس، ص. 260.

([15]) سنن أبي داود، للإمام أبي داود سليمان بن الأشعت السجستاني، الجزء الخامس، ص. 501.

  ([16]) المجالسة وجواهر العلم: أبو بكر أحمد بن مروان بن محمد الدينوري القاضي المالكي، المجلد الثاني، جمعية التربية الإسلامية، دار ابن حزم، ط.1، بيروت – لبنان، 1419ه / 1998م، ص.186


: الأوسمة



التالي
حكم الهبة بشرط الانتفاع (فتوى حول ميراث)
السابق
براعة إبراهيم عليه السلام في حواره مع الملك الظالم كما قصها القرآن الكريم

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع