الدولـــة فــي ســن الستيــن..
بقلم: أ. د. عبد الرزاق قسوم – عضو مجلس أمناء الاتحاد
هناك حقيقة فلسفية، يكاد يجمع عليها معظم «فلاسفة الزمن» في الفكر الإنساني، وهذه الحقيقة هي تقسيمهم للزمن إلى زمنين، الزمن الآلي، الميكانيكي، المادي، وهو الذي نقيس لحظاته بالساعة، وباليوم، وبالأسبوع، والشهر، والعام.
وهناك زمن آخر وهو الزمن النفسي، الذي نقيس لحظاته بخلجاتنا النفسية ومشاعرنا الذاتية، وهو الزمن الحقيقي عند الفلاسفة، لأنه يعكس، ما نحس به من أفراح وما نعيشه من معاناة.
فالزمن المادي، الميكانيكي، الآلي، تنعكس آثاره على كل المخلوقات بدءا بالإنسان، وانتهاء بالجماد.
فإذا نزّلنا هذا الزمن المادي في مستوى الستين سنة على واقع الإنسان بدت آثاره، في بياض الشعر الأسود، وتجاعيد الوجه المشرق، واحدوداب الظهر المستقيم.
فكان ما يوصف بزمن الشيخوخة، وسن اليأس، في فقهنا الإسلامي، إلى غير ذلك من المفاهيم التي تذم الشيخوخة، وتتغنى بسن الشباب.
أما الزمن النفسي ذو الخلجات النفسية، فهو الذي نعيشه، بما نحس به، زمن الفرح وزمن الحزن.
لكن هذه الحقيقة الفلسفية، سواء في جانبها الأول أو الثاني، تختلف تماما، عن الواقع عندما يتعلق الأمر، بالدولة ذلك أن الدولة لا تقاس فتوتها، بالسنين أو العقود الزمنية، وإنما تقاس بالإنجازات، والمكاسب، بل يمكن القول بأن الدولة، أية دولة، كلما طال زمنها، كان أثرها الحضاري إيجابيا أو سلبيا.
فالمعيار الحضاري بالنسبة للدول، غالبا ما يتعلق بالدولة العريقة زمنيا وتاريخيا، فلا نذكر الصين إلا مع سور الصين العظيم ولا نذكر مصر إلا بأهراماتها، والهند بتاج محل، والأردن بمدينة البتراء، والعراق بحدائق بابل، الخ، وكلها انجازات موغلة في القدم.
وفي هذا السياق، يحق لنا، أن نضع إحياءنا للذكرى التاسعة والخمسين لميلاد دولتنا المستقلة، وانخراطها في الكيان الحضاري العالمي.
فلئن كنا نسلم، بأن الدولة الجزائرية، في حقيقتها كانت موجودة في الضمير الجماعي الجزائري، وكانت بوجودها القوي، ملهمة للسلسلة الذهبية من مراحل الجهاد، إلا أنها كانت على الصعيد الرسمي العالمي، مغيبة، ولم يتم استرجاعها، إلا بعد شن حروب كثيرة، واجتياز دروب وعرة، وتضحيات بالملايين العشرة.
نحن اليوم –إذن- نعيش بداية الزمن الستين لدولتنا الفتية، وكما هو مطلوب، الأخذ بيد الفتى البشري، والعناية به، وإحاطته بمقومات النهوض والبقاء، كالتربية، والتكوين، والعناية الصحية، والتغذية السليمة، وما إلى ذلك من عوامل التنمية البشرية السليمة، فإن الدولة على حد تعريف ابن خلدون، هي أيضا كالإنسان لها، فتوة، وكهولة، وشيخوخة ولكن بالمعيار الحضاري للدولة، وليس بالمعيار الزمني للإنسان.
فبإخضاعنا الدولة الجزائرية الفتية لمعيار ابن خلدون الحضاري، يتجلى لنا، أن بناء هذه الدولة والعناية بها، وتمكينها من النهوض والنمو والبقاء يتطلب مواصفات خاصة، لا تتعلق بزعيم واحد مهما بلغت عظمته، ولا بحزب واحد مهما تعمقت عراقته، ولكنها تتطلب حشد مجموعة من المعايير والقيم، هي بمثابة الأسس المضادة لكل أنواع الزلازل والزعازع.
ويمكن على سبيل المثال ذكر نماذج من هذه المقومات الحضارية وأهمها:
1- الإيمان الجماعي بوجود الدولة، والحرص الجماعي على صيانتها، والنهوض بها، والاستعداد لبذل كل الجهود، وتقديم كل التضحيات في سبيل تحصينها.
2- الاقتناع، بالمبادئ، والقوانين التي تقوم عليها الدولة، وتكون هذه المبادئ والقوانين نابعة من عمق القناعة الشعبية، وعاكسة لإيمانها.
3- وضوح وشفافية القوانين التي تحكم هذه الدولة، بحيث تأخذ بعين الاعتبار أصالة وتاريخ، وحضارة، ووحدة الأمة التي تتبنى تلك الدولة، حتى يمكن تزكيتها من الأغلبية العظمى للشرائح المكونة لهذه الدولة.
4- عمق الوعي لدى الأمة بوحدة الانتماء، وعقد العزم على حسن الأداء، والنأي بأيّ جزء من الأمة، عن كل فتنة، وعن كل بلاء، فلا عنصرية، ولا عصبية، ولا جاهلية، ولا فتنة طائفية.
5- سلامة الذمة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، بحيث تختفي الاتباعية والرشوة المالية، والتقليدية الغربية، والإنسلابية الحضارية؛ فبذلك فقط نضمن وحدة الصف، وبلوغ الهدف.
إن هذه العينات من المعايير والقيم هي التي نريد لدولتنا اليوم، ذات الستين ربيعا، أن تحاط بها في فتوتها، ونحن نرفع شعار بناء «الجزائر الجديدة».
وأهم ما تتطلبه، «الجزائر الجديدة» هو اختبار القدرات والكفاءات المؤمنة بالجزائر الجديدة، والتي لا انتماء لها، إلا الانتماء للثوابت الثابتة، التي ضمنت استعادة الدولة بعد طول غياب، وستضمن لها الازدهار والانتصار على الرغم من مكائد الأعداء، وتلون أوجه الأعداء.
إن الدولة ذات الستين سنة، التي تعيشها جزائرنا اليوم هي في أوج مرحلة ازدهارها، إذا وعينا حقا متطلبات هذا الازدهار، والأخذ بعناصر القوة والانتصار.
إننا نملك كل العوامل المادية للبناء سواء تعلق الأمر بخصوبة الأرض، أو كنوز ما تحت الأرض، وما ينقصنا هو الضامن لاستخراج هذه الكنوز، والمؤتمن على رموز هذه الخصوبة.
فما نرفعه من شعارات، وما نكتبه من لافتات، وفاء منا للتضحيات، سوف يظل في حكم لغة الأموات، إذا لم يترجم إلى عمل في مجالات الحياة.
فيا بني قومي!
يا أبناء الجزائر الأحرار، وما أكثركم والحمد لله، إن صوت العلماء يناديكم، ونداء الشهداء يناجيكم وعهد المجاهدين يوافيكم، فصونوا الأمانة، وقدّموا الإعانة، وادفعوا عنكم كل إهانة أو إدانة.
ففي زمن الجائحة والوباء، وفي مرحلة الأزمة الاقتصادية والغلاء، لم يبق لنا من وسيلة للخلاص والنجاة إلا بذل العطاء وحسن الأداء.
إننا نذكركم، والذكرى تنفع المؤمنين، نذكركم بصيحة الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان:
وطن يباع ويشترى ** وتصيح فليحيا الوطن
لو كنت تبغي خيره ** لبذلت من دمك الثمن
ولقمت تضمد جرحه ** لو كنت من أهل الفِطن.