الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد في الأولين والآخرين، إمام المتقين، وخاتم النبيئين والمرسلين، والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحلقة العاشرة من مقامات إيمانية:
د. عبد الكامل أوزال: عضو الاتحاد
مقام الربانية
الربـانيـــــــــة:
الربانية مصطلح قرآني مأخوذ من كلمة (الرب)، «والرب هو الله عز وجل... ولا يقال الرب في غير الله إلا بالإضافة» . والرباني أيضا الذي وُصف بعِلْم الرّبّ، «قال ابن الأثير: هو منسوب إلى الرّب بزيادة الألف والنون للمبالغة. وقيل: هو من الرّب بمعنى التربية، كانوا يربّون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها» . وقال الراغب الأصفهاني: «والرباني قيل منسوب إلى الربّان، ولفظ فعلان من فعل يُبنى نحو عطشان وسكران وقلما يبنى من فعل .. وقيل هو منسوب إلى الرب الذي هو المصدر وهو الذي يربُّ العلم كالحكيم. وقيل هو منسوب إلى الرّب أي الله تعالى» .
وعند الطبري تعني كلمة الرباني «الجامع إلى العلم والفقه، البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم» . وعند الطبري أيضا يتصرف لفظ (الرب) في كلام العرب على معان متعددة متنوعة، منها أن «السيد المطاع فيها يُدعى ربا. ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة:
وأهْلَكْنَ يَوْمًا ربَّ كِنْدَةَ وابْنَهُ
|
|
ورَبُّ مَعَدٍّ بَيْنَ خَبْتٍ وعَرْعَـرِ
|
والرجل المصلح للشيء يُدعى ربًّا، ومنه قول الفرزدق بن غالب:
كَانُوا كسَالِئةٍ حمقاء إذْ حَقَنَتْ
|
|
سِلاءَهَا في أدِيمٍ غَيْرِ مَرْبـُوبِ
|
... فربنا جل ثناؤه السيد الذي لا شبه له ولا مثل في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر» ([5]). وجاء في صحيح البخاري «ويقال الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره» ([6]). وقال أبو عبيدة في شأن الربانية: "فهي تدل على الإنسان الذي علِم وعمِل بما علِم واشتغل بتعليم طرق الخير» ([7]). وفي تفسير الطوسي لا يطلق اسم (الرب) إلا على الله تعالى «وأما في غيره فبقيْدٍ، فيقال: ربُّ الدار وربُّ الضّيعة ... ومتى قيل في الله إنه ربّ، بمعنى إنه سيد، فهو من صفات ذاته، وإذا قيل بمعنى إنه مدبِّر مصلِح فهو من صفات الأفعال» ([8]).
نخلص من هذا العرض إلى أن الاشتغال بالعلم والتعلم والتعليم والدراسة والتفرغ المطلق لذلك يجعل صاحبه ربانيا، لأن كل هذه الأعمال جعلها خالصة لله تعالى ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى. وعلى هذا الأساس من كان يعمل في هذه الميادين المشار إليها آنفا (تعليما وتعلّما ودراسة وتفقّها وتربية) (لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مورقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «نعوذ بالله من عِلْم لا ينفع وقلب لا يخشع») . لذلك يقرر العلامة ابن القيم حقيقة مفادها أن العلم لو كان نافعا بلا عمل لما ذمّ الله جل وعلا أحبار أهل الكتاب، ولو كان العمل نافعا بلا إخلاص لما ذمّ الحق عز وجل المنافقين. كما روي عن النبي ﷺ أنه قال: «ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حُرّ ولا مملوك إلا ولله عز وجل عليه حقّ أن يتعلّم من القرآن ويتفقّه في دينه ـ ثم تلا هذه الآية ﴿ولكن كونوا ربّانيين﴾ الآية رواه ابن عباس» . وعن أبي هريرة (رض) قال: ( قال رسول الله ﷺ: «ما من رجل يسلك طريقا يطلب فيه عِلما إلا سهّل الله له به طريق الجنة، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه») . وعن أبي هريرة (رض) قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة». وعن زيد بن ثابت عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نضّر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلِّغه غيره، فرُبّ حاملِ فقْهٍ إلى من هو أفقه منه، ورُبّ حاملِ فقْهٍ ليس بفقيه» في ضوء هذا المنظور ومن خلال هذه النصوص الشرعية يتبين بوضوح أن الربانية صفة لازمة للمسلم المؤمن الذي صفت نفسه، وطهرت من الشوائب والأدران، فجعلها خالصة لله تعالى نقية لا تغيرها أمراض القلوب من الشهوات الدّنِيّة، ولا يشغلها عن ذكر الله تقلبات الحياة الفانية. فأصبح هذا المسلم المؤمن الرباني ينظر ويعمل بمقتضى قوله تعالى: ﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين﴾ الأنعام: 164ـ165. ولذلك يتوسل العالِم الرباني بالدعاء أن يجعله الله تعالى من عباد الرحمن الذين قال الحق عز وجل في شأنهم: ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما﴾ الفرقان: 63ـ64. فهؤلاء الربانيون سألوا الله تعالى «أعلى المراتب وأجلّها وهي الإمامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين. وذلك أن يجعلهم علماء ربانيين راسخين في العلم مجتهدين في تعلمه وتعليمه والدعوة إليه، وأن يكون علمهم صحيحا بحيث إنّ من اقتدى بهم فهو من المتقين، وأن يرزقهم من الأعمال الظاهرة والباطنة ما يصيرون به أئمة للمتقين ... »
نخلص إلى أن مقام الربانيّة يتحقق عند الفرد المسلم بشرطين أساسيين لا بد من اقترانهما واتحادهما كليا وهما: العلم والعمل. فاللهم اجعلنا من الذين يتعلمون العلم ويعملون به، ويُعلِّمونه للناس وينشرونه في البقاع والأصقاع. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- لسان العرب، ابن منظور، المجلد الأول، ص. 399.
- لسان العرب، ابن منظور، المجلد الأول، ص. 404.
- معجم مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص. 189.
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، الجزء الخامس، ص. 531.
جامع البيان، الطبري، نفسه، ص. ص. 142 ـ 143.
- صحيح البخاري، البخاري، الجزء الأول، كتاب العلم، باب: العلم قبل القول والعمل، ص. 29.
- مفاتيح الغيب، الفخر الرازي، الجزء الثامن، ص. 123.
- التبيان في تفسير القرآن، لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، المجلد الأول، ص. 32.
- مفاتيح الغيب، الفخر الرازي، الجزء الثامن، ص. 124.
الفوائد، ابن قيم الجوزية، ص. 38.
- الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، الجزء الخامس، ص. 186.
([12]) سنن أبي داود، لأبي داود، كتاب العلم، باب : الحث على طلب العلم، ، رقم الحديث (3643)، ص. 647.
([13]) الجامع الكبير، للترمذي، المجلد 4، باب : فضل طلب العلم، ، ص.385.
([14]) الجامع الكبير، نفسه، باب ما جاء في الحثّ على تبليغ السماع، رقم الحديث (2656)، ص. 391.
- المواهب الربانية من الآيات القرآنية، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص. 131.