“صلاح الأبناء رهين بالقدوة الحسنة للوالدين”
بقلم: بن سالم باهشام – عضو الاتحاد
عباد الله، قال تعالى في سورة العنكبوت: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ، وَاعْبُدُوهُ، وَاشْكُرُوا لَهُ، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 17]. وقال سبحانه في سورة العنكبوت: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [العنكبوت: 60 – 62].
والرزق الذي يبسطه الله لمن يشاء من عباده أنواع، فالمال هو أدنى درجات الرزق، والعافية هي أعلى درجات الرزق، وصلاح الأبناء هو أفضل الرزق، والرضا برب العالمين هو تمام الرزق، وسيكون حديثنا في هذه الخطبة عن صلاح الأبناء الذين هم أفضل الرزق، والذين وهبهم الله لنا صفحة بيضاء، وفطرة سليمة، فلم نحافظ على هذه الهبة الربانية، لأننا لم نسلك بهم الطريق السوي الذي أرشدنا إليه الإسلام في تربية الأبناء، فرعيناهم أجساما، وأهملناهم نفوسا وأرواحا، ولم نحصنهم مما حولهم من المفاسد، حتى كبر سنهم، واشتد عودهم.
عباد الله، الكثير من الآباء يشتكون من عدم سماع أبنائهم وبناتهم لنصائحهم، بل يصدمون بسبب تعاملهم السيئ معهم، وهذا الاصطدام ناتج عن التربية المباشرة التي توجه إلى الأبناء، في حين أن هناك تربية فعالة وغير مباشرة، ولا يحدث بسببها صدام بين الأبناء والوالدين، ولها أثر ناجع في التأثير على الأبناء والبنات، وسنتطرق لوسيلة أساسية من هذه الوسائل غير المباشرة في تربية الأبناء ليصبحوا صالحين، وهي القدوة الحسنة، وهي أم الوسائل وأكثرها أثرا في تربية الأبناء، ولاسيما وقد أثبتت الدراسات النفسية والتربوية أن الأبناء يعتبرون آباءهم هم القدوة المطلقة، وهم مصدر المعارف والمواقف والأخلاق والآداب وكل ما يتصل بأمور الحياة.
عباد الله، إن هذا السلوك هو بمثابة غريزة سببها رابطة الأبوة والأمومة، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحهيما عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)، [ رواه البخاري ( 6599 و 6600 )، ومسلم ( 2658 ) واللفظ له]، ومهما بذل الآباء من جهد في توصية الأبناء وتوجيههم، فما لم يكن كلامهم مقرونا بأفعال تدل على صدقهم، فقلما يكون مقنعا للأبناء ومؤثرا فيهم، فالسلوك السوي للأب وللأم كذلك، أكبر وأبلغ في التعبير؛ من التوجيه إلى السلوك السوي، ويكفيكم دليلا على ذلك ما تلاحظونه من تصرفات أبنائكم، وكيف يزاحمونكم على سجادة الصلاة وأنتم تصلون في بيوتكم وتركعون وتسجدون وتتشهدون دون أن توجهوا لهم ولو كلمة واحدة من توجيهاتكم، إنهم يقلدونكم بالحرف، ويفعلون ما تفعلون، ولعل هذا مما أشار إليه الدين الإسلامي مما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ( اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا ). [رَوَاهُ الْبُخَارِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ مُسَدَّدٍ(1/166 ، رقم 422)، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِى مُوسَى وَزُهَيْرٍ كُلِّهِمْ عَنْ يَحْيَى(1/538 ، رقم 777)].
عباد الله، إنه لا أثر لمجرد الكلام دون تطبيق، ولاحظوا كيف يعجز أب مدخن إقناع ابنه بترك التدخين، لتعلموا قيمة التربية بالقدوة، لهذا يقال: تأثير حال رجل وسط ألف رجل، خير من ألف رجل يأمرون رجلا، قال تعالى في سورة البقرة: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [البقرة: 44]، وقال سبحانه وتعالى في سورة الصف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف: 2، 3]
عباد الله، إن التربية بالقدوة تنفع كثيرا مع الكبار فضلا عن الصغار الذين لا يتطلعون للقيادة، فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، لم يحلقوا رؤوسهم بمجرد التوجيه الكلامي من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتقل من القول إلى الفعل دون أن يكلمهم، سارعوا للاقتداء به وفعلوه، أي لما حلق وتحلل عليه الصلاة والسلام اقتدوا به، روى البخاري في صحيحه عن عُرْوَة بْن الزُّبَيْرِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ رضي الله عنهم، يُصَدِّقُ حَدِيثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ قَالاَ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- الْهَدْي، وَأَشْعَرَ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِي نُزُولِهِ أَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ فِي مَجِيء سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَمَا قَاضَاهُ عَلَيْهِ حِينَ صَدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ :« قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا». قَالَ: فَوَ اللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَامَ فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِي مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِىَ اللَّهُ تعالى عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ؛ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَقَامَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ هَدْيَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ لِبَعْضٍ، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا).
فيا عباد الله، إن كنتم فعلا راغبين بصدق في صلاح أبنائكم الذين تشتكون منهم ومن سلوكياتهم المنافية لتعاليم الدين الحنيف، فالأمر في متناولكم وليس صعبا ولا عسيرا ولا مستحيلا، بل هو في صالحكم وصالح أبنائكم وبناتكم، ويرتكز على القدوة الحسنة التي يرونها فيكم، بهذا يصلح أبناؤكم وبناتكم دونما حاجة إلى التكلم معهم ولا توجيههم، فكونوا قدوة صالحة لأبنائكم، وأعلنوها توبة نصوحا، ليصلح الله زوجاتكم، وبصلاحكم وصلاحهن يصلح أبناؤكم، قال تعالى في سورة الأنبياء: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ، إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 89، 90]، فبمسارعة سيدنا زكرياء عليه السلام في الخيرات، ودعوة الله رغبا ورهبا، وبخشوعه لله، جازاه الله سبحانه وتعالى بإصلاح زوجته له، وتفضله عليه بابن صالح جعله من أنبياء الله الصالحين.
فاللهم أصلحنا لأولادنا، حتى يصلحوا بصلاحنا، وهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماما.